بعد ان نجح موسى باخراج شعبه من مصر ، وشق البحر بضربة عصا ، انطلق يدب في الصحراء ساحبا وراءه 600 الف عائلة كنت تعاني من العبودية في مصر الفرعونية ، أي ما يقارب ، أو يزيد ... عن ثلاثة ملايين شخص يدبون في صحراء ممتدة طولا وعرضا ، ولا يمكن تمييز اتجاه محدد بما كان يملكه الانسان في ذلك الوقت ، ويبدو ان الله كان غاضبا على شعبه أيضا ، الذي أنقذه من فرعون والعبودية في مصر ، الا انه فسق وابتعد عن تعاليم أبيه ، فتركه يتيه أربعين عاما عقابا على انحرافه ... وقد أفشل الله موسى وكبار القوم في معرفة الطريق ، وغرق الشعب في الرمال المتحركة ، يذهب في اتجاهات عدة ، ويعيد الكرة ليجد نفسه يدور في حلقة مفرغة . وبدأ التذمر والشكوى وتحميل موسى المسئولية عن العذاب الذي تجاوز عذاب العبودية في مصر الفرعونية.
كانوا يلومون موسى على اخراجهم من عبودية فرعون الى الضياع في رمال سيناء الحارقة، بلا مياه وبلا طعام وبلا مشاغل تنتج الملابس ومزارع تنبت القمح والخضار ومراعي تنج الحليب واللحوم والأجبان ..
ومع ذلك لم يكن الرب غافلا عن شدة عقابه، ولكن طرق الرب غير مدركة للبشر، وكما نقول في مثلنا الشعبي، يضرب بيد، ويلقى باليد الأخرى، فأرسل في ساعات الشدة المن والسلوى، وأرشد موسى لآبار المياه. ولكن لأمر عظيم غير مدرك للبشر، لم يتسرع في ارشاده لطريق الخروج من سيناء الى الأرض الموعودة .. كانت له حكمته، وخططه، فاستمر الضياع في الصحراء جيلا وراء جيل ...حتى صار الرضع رجالا لا يعرفون من ارض الله الواسعة الا رمال الصحراء ..
وبمحاذاة جبل سيناء ، وبعد دعاء وابتهال من موسى وكبار القوم ، ابرقت السماء ، وضوء عظيم جعل القوم يغلقون عيونهم اتقاء لقوة اشعاعه ،وأوحى الرب لموسى أن يصعد الى قمة جبل سيناء ، ليسهل الحديث معه بدون ضجيج التائهين والغاضبين وقادة الأحزاب التي بدأت تنتظم وتضع المطالب وتنظم التمردات وتضاعف الصعوبات أمام موسى الذي اوكلت له القيادة من السماء ،اذ لا يمكن التداول في القضايا الحارقة عن أوضاع التائهين في الصحراء امامهم مباشرة ، فالحديث عن اصلاح حالهم قبل الدخول الى ارض الميعاد يحتاج الى خلوة ، والا .. لا أرض ولا ما يحزنون، يظلون في سيناء طعاما للرمال. فلبى موسى الدعوة وصعد متكئا على عصاه لمقابلة الرب.
وصل موسى الى قمة الجبل، لم يتأخر الرب ولم يعط لموسى حتى فرصة للراحة والتقاط انفاسه، بادره فورا بمجموعة من القيود التي لا بد ان يفرضها على شعبه اذا اراد هذا الشعب ان يحافظ على مكانته عند الرب. كان جل الحديث عن اجراءات ربانية لا تقبل النقاش .. وقد أعطي موسى نسخة تشمل الاجراءات والقيود التي يجب اتباعها، عندما بدأ موسى يقرأ تفاصيل الإجراءات والقيود، اهتز جسده بشدة وانهار على الأرض، وفورا تحرك الاسعاف الرباني في عملية انعاش سريعة لتحسين وضع موسى كي يواصل مهمته .
قال موسى:
- المغفرة ثم المغفرة ..أنا أعرف شعبي – شعبك، وخبرتهم في الضياع الذي القيته علينا. كان عقابا لن يمحى من الذاكرة، سنحفظه إلى أبد الآبدين ونجعل له اسبوعا من كل سنة لا نقرب الخمائر من مأكلنا، لكن رجائي أن تخفف عنهم لتسهل لي قيادتهم في هذه الظروف غير الإنسانية من الضياع الطويل، فأنت القدير في كل حين على فرض عقابك وإعطاء صفحك .. أما هذه القيود التي تقترحها فهي أصعب من الضياع في سيناء. انا أقترح بإصرار لمصلحة الجميع، تخفيض القيود وتسميتها وصايا، على ان لا تتعدى الخمسة وصايا، ليتصرف شعبك حسب نصوصها. ولكن لا بد من تقليل القيود...إن كثرتها مدعاة للتمرد والعقوق ونحن ننشد الإصلاح والتقويم.
أصر الرب في البداية ان تكون التقييدات أكثر شدة وأوسع نطاقا ، هذه هي طرق الرب التي لا يدركها البشر، لم يعترض الرب على اقتراح تسميتها وصايا. ولكن خمسة أقل من القليل. موسى كرر رجاءه الحار مستجديا الله ان تخفض القيود، لأن كثرتها يجعلها عديمة الفائدة، وصعبة على الحفظ، وتغري بالتمرد والابتعاد والعقوق ... وبالتالي سيخسر الله شعبه. ارفق موسى رجائه بنوبة بكاء اهتز لها جسده .. فاستعد الاسعاف لجولة انعاش جديدة، لكن مشيئة الله كانت ان يجعل موسى يواصل القيادة حتى ابواب كنعان.
كانت المفاوضات صعبة جدا واستغرقت اليوم بكاملة، لم يكن من وسطاء لتليين موقف احد الجانبين، لكن خبرة موسى العظيمة في التفاوض مع فرعون نفعته في هذا المأزق. إصرار موسى على تخفيض قيود الرب عن شعبه، جعل الملاك المناوب يتساءل كيف اختار الرب موسى موفدا لشعبه وهو يتجرأ على مناقشة الرب والاصرار على موقفة؟ لكن الرب أخرسه برمشة عين رهيبة فالتزم الصمت النهائي.
بعد ان كاد النهار يمضي وموسى لا يكف عن الإصرار والتوسل والبكاء، وتسوء حالته ثم تتحسن، مما اضطر الإسعاف السماوي للتدخل مرتين من اجل إنقاذه، وهكذا استمر رجاء موسى وإصراره حتى استجاب الرب لطلباته مشترطا عليه إن تكون فترة تجريبية، وأن الوصايا لن تكون أقل من عشرة وصايا لا مساومة حولها.
نزلت حكمة بأن يستجيب لنبي شعبه ليرفع مقامه ومنزلته بينهم، لعل ذلك يسهل قيادتهم في هذا الضياع الصحراوي. هكذا نزل موسى من الجبل وهو يحتضن لوحين من الحجر عرفا فيما بعد باسم الوصايا العشر.
كانت الجماهير محتشدة تنتظر على أحر من الجمر لتسمع ما انجزه لها موسى. بل وبدأت بعض المراهنات بين بعض الحشود، اختلفت الأسباط قبل ان تسمع نتائج الاتفاق. كان قادة شعب الله بأحزابهم وفرقهم المختلفة يلغطون وكلهم متخوفون من ان يقيد الله شعبهم بما لا طاقة لهم به، فما اعتادوه، خاصة في ضياعهم الطويل في الصحراء، ليس من السهل تغييره، خاصة ان ما اعوج في سيرتهم لن يصلح الا بجيل قادم اذا وصلوا الأرض الموعودة.
كان موسى ينزل على مهله، بطيء الحركة نظرا لجيله ووعورة الطريق الجبلية، وارهاقه الواضح من المفاوضات الصعبة وما اعتراه من انهيار جسدي كاد يودي بحياته عدة مرات، لولا الاسعاف الرباني السريع ومشيئة الله في علاه، وأيضا من حمله الثقيل، اذ كان يحتضن اللوحين الحجريين الثقيلين، ويرفض ان يعطيها لأحد كي يحملها ويريحه من ثقلها خوفا على قداستها ان تدنس من المتمردين على اوامر الرب.
عندما وصل الى حيث يحتشد شعبه، اعتلى تلة رملية صغيرة، وقال بلا مقدمات:
- يا ابناء الله ، مباركون انتم باسم الرب الى يوم القيامة .. بعد مفاوضات طويلة توصلت الى أفضل ما يمكن من أجلكم. لم يكن الوصول الى اتفاق سهلا، لذلك أقول لكم اني جئتكم بخبرين، اولهما خبر جيد والثاني خبر سيء. اما الخبر الجيد فهو اني استطعت ان ألغي الكثير من القيود، و التي أراد الله أن يجعلها ضمن القيود على شعبه، بعد جهد كبير وتفهم الرب لمطالبي، أنزل الوصايا من عشرات كثيرة إلى عشر وصايا فقط ...فابشروا خيرا. اما الخبر السيئ ..
وهنا صمت موسى وأجال نظره بالجمهور شاعرا بتوتره الكبير، ثم قال :
- الخبر السيء هو ان وصايا الرب ما زالت تشمل منع الفسق .
بقلم/ نبيل عودة