بصورة يكتنفها كثير من الغموض، تم وقف القصف المتبادل بين إسرائيل وغزة، وحل هدوء شامل لم يسمع فيه خلال أيام صوت طلقة واحدة.
غير أن ما بدا أكثر صخباً من دوي القذائف، هو الجدل الداخلي في إسرائيل، والذي في جزء مهم منه اعتبر نتائج الجولة الأخيرة أمراً يشبه الهزيمة. فقد خسرت إسرائيل ما اعتبرته رقماً مهماً في معركتها مع غزة (أربعة قتلى)، وشُلّت الحياة في الجنوب، وتراجعت الثقة في كفاءة القبة الحديدية، وتعاظم الحديث عن تآكل قدرات الردع الإسرائيلية. ومناخ كهذا يفتح باباً لا يغلق من اتهامات متبادلة بين العسكر والمستوى السياسي، وبين نتنياهو وخصومه التقليديين، ولقد انضم إليهم حلفاؤه المحتملون الذين سيبني عليهم حكومته الجديدة، وهؤلاء لا يوافقونه على سياساته التي يصفونها بالرخوة وعديمة الجدوى تجاه غزة، ويضغطون عليه كي يفعل ما لا يرغب أن يفعل، وهو الذهاب إلى حرب حاسمة، هدفها كما يقولون اقتلاع التهديد من جذوره، دون خشية من احتمال تدحرج الحرب إلى اجتياح بري قد يبلغ حد إعادة الاحتلال.
ذريعة نتنياهو في مواقفه الأخيرة التي أدت إلى وقف لإطلاق النار، فهمت من قبل المعترضين على سياسته بأنها مؤقتة، أملتها ضرورات تمرير الاحتفالات بمناسبات مهمة في إسرائيل بقدر من الهدوء، فهم جميعاً يوافقون على أي ترتيبات تضمن احتفالات آمنة لإحياء ذكرى قتلى حروب إسرائيل المتصلة زمنياً بيوم الاستقلال، وكذلك بمسابقة «اليوروفيجين» الغنائية. وبعد انقضاء فترة الاحتفالات تكون قد بقيت أيام معدودات على استقبال الحدث الأكبر، أي الإعلان الرسمي عن «صفقة القرن»، التي يقدر بأنها ستحدث انقلاباً في المسارات والحسابات، ولا شك في أن إنضاج المواقف منها يحتاج إلى فترة هدوء لاختيار ردود الفعل. وعلى الأرجح أنها ستتجنب الانشغال في حرب واسعة، فأميركا صاحبة الصفقة لن تحبذها كبداية لمشروع «سلمي» على قدر كبير من الإشكالية وإثارة الجدل.
وما دامت «صفقة القرن» ستعرض بعد رمضان الهادئ حتى الآن، فإن إسرائيل ستواصل سياستها المتبعة تجاه غزة: «هدوء مقابل هدوء»، وردود موضعية حال تعرضها للقصف، غير أن ذلك وبفعل التحريض الداخلي الشرس تجاه خيار الحسم العسكري، لن يستمر لفترة طويلة.
الشهران المرجحان للحرب الأكيدة كما تجمع المصادر الإسرائيلية، هما يوليو (تموز) وأغسطس (آب) المواتيان سياسياً ومناخياً وعسكرياً.
على عتبة هذين الشهرين، سيكون نتنياهو قد أنجز تشكيل ائتلافه الحكومي الذي سينضج صيغ التعامل مع «صفقة القرن»، وستعرف الاتجاهات المؤثرة داخل المجلس الوزاري المصغر «الكابينيت»، ففي ذلك المكان تتخذ قرارات الحرب وحدودها. وفي ظرف تسيطر فيه المزايدات بين القوى الداخلة في الائتلاف والمتربصة به، تكون الحرب هي الخيار الأكثر تفضيلاً.
خلال السجال الحربي المتقطع بين إسرائيل وغزة، والذي عمره سنوات تخللتها عدة حروب تدميرية، كانت صلة هذا السجال بالأفق السياسي الذي عنوانه المركزي على مدى العامين الماضيين «صفقة القرن»، غامضة ومشوشة، بفعل الاتهامات المتبادلة وغير المثبتة بين «فتح» و«حماس»، حول التواطؤ مع «الصفقة» وحول اتهام «حماس» بالضلوع في مؤامرة إقامة دولة فلسطينية في غزة، غير أن الأمر سيختلف جذرياً بعد الإعلان الوشيك، وسترتبط التطورات المتعلقة بغزة بصورة مباشرة بمتطلبات تنفيذ «صفقة القرن». فمنذ إعلانها ستكون هي محور المواقف والتحركات وحتى الصراعات في منطقتنا. وإذا كان الافتراض المسبق يشير إلى أن قطبي الحياة السياسية الفلسطينية سيتباريان في رفض الصفقة، وستنفذ أميركا تهديداتها المعلنة ضد الرافضين الفلسطينيين، فالوضع كله آنذاك سيتجه إلى مسارات جديدة، خصوصاً بعد أن تتكشف أمور كانت مختبئة وراء الغموض الذي فرضه الأميركيون في مرحلة الإعداد للصفقة.
وبعد رمضان الهادئ سنرى حتماً بداية حارة لحقبة جديدة، ليست بخصوص غزة وفلسطين، وإنما بخصوص المنطقة بأسرها. ودعونا نراقب.
نبيل عمرو