يسعى نتنياهو لتجاوز العقبات التي تعترض تشكيل حكومته «الجديدة». بعض هذه العقبات تتصل بالتباينات بين أحزاب معسكره حول عدد من القوانين التي كان الخلاف حولها أحد أسباب تبكير الانتخابات. وبعضها الآخر له علاقة ببازار العرض والطلب في سياق توزيع الحقائب الوزارية بين هذه الأحزاب.
والثابت في رأي جميع المراقبين أن ملفات الصراع الفلسطيني ـ الإسرائيلي خارج هذه التباينات، إلا من باب المزايدات بين أطراف هذا المعسكر، كما فعل ليبرمان قبل الانتخابات عندما استقال من الحكومة احتجاجا على أسلوب نتنياهو «الرخو» في التعامل مع قطاع غزة في ملف التهدئة وما يتصل به.
ومن يتابع وقائع العدوان على غزة مؤخرا، يخلص إلى أن نتنياهو أغلق هذا الباب عندما أمر ألته العسكرية باستخدام كل ما لديها من وسائل القتل والتدمير ضد القطاع وأهله.
فور الإعلان عن وقف إطلاق النار،كان متوقعا أن يكرر نتنياهو تأكيده بأن الحملة العسكرية على غزة لم تنته فصولا. وأن أمن الدولة العبرية ما يزال على رأس أجندته. محاولا الإيحاء بأن سياسته في هذا الشأن تجمع مابين «الحزم والحكمة». ومع ذلك، لم ينجح في طمأنة الإسرائيليين الذين يجدون أنفسهم أمام معادلات جديدة كلما قام جيش الاحتلال بجولة عدوان ضد قطاع غزة، وباتوا يشاركون الفلسطينيين في إحصاء الخسائر في الأرواح والممتلكات في نهاية كل جولة.وعلى الرغم من تصريحات قادة الاحتلال بأنهم حققوا أهدافهم كاملة، إلا أن ذلك لم يخرج الإسرائيليين من دوامة القلق وهواجس الخوف وهم يدركون أن الجولات القادمة ستكون أصعب عليهم.
وخلال الجولتين الأخيرتين(على الأقل ) من العدوان على غزة، كان رد المقاومة الفلسطينية سريعا وقويا وموحدا في حجمه وفي خريطة استهدافاته. وهذا يؤكد مجددا صحة الدعوات السابقة إلى توحيد جهود المقاومة في غزة ضمن غرفة العمليات المشتركة. وعلى الرغم من أن العدوان سياسة ثابتة لدى الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة، إلا أن الجولة الأخيرة تأتي في سياق سياسي مختلف عن سابقاتها:
• يأتي العدوان في ظل انهماك نتنياهو في مفاوضات ماراتونية مع أحزاب معسكره لتشكيل الحكومة الجديدة. ورأى المراقبون في وحشية القصف الإسرائيلي رسالة من نتنياهو إلى شركائه المحتملين في الحكومة بأنه ليس بعيدا عن المواقف والتهديدات التي يطلقها عتاولة اليمين ضد قطاع غزة. وبأن الليكود برئاسة نتنياهو يتبنىى سياسة حازمة ضد فصائل المقاومة في قطاع غزة. وهو بذلك يريد أن تمضي مفاوضات تشكيل الحكومة وفق الأجندة والحسابات التي وضعها نتنياهو وحزبه. كما يريد أن يغلق أية أبواب يمكن أن تفتحها الأحزاب الصهيونية الأخرى من خارج معسكره، وخاصة «أزرق ـ أبيض»حزب غانتس، رئيس الأركان السابق الذي طالما تغنى في حملته الانتخابية بجرائمه بحق القطاع وأهله إبان العدوان على غزة في العام 2014.
• كما يأتي في ظل اقتراب موعد فتح تحقيقات جديدة مع نتنياهو على خلفية اتهامه بقضايا فساد وخيانة الأمانة. وهو يسعى من خلال العدوان على غزة والتشديد على أنه لم ينته، إلى وضع مفاوضيه على تركيبة الحكومة أمام تقدير بأن الدولة العبرية في حالة حرب مستمرة مع «الإرهاب» متعدد الجهات، وأن مواجهة هذا الخطر يتطلب استقرارا سياسيا، ليخلص في النهائية إلى تحفيزهم لطرح مشروع قانون أمام الكنيست يحصنه من المساءلة القانونية طالما هو على رأس الحكومة.
• وإلى جانب ماسبق ، يأتي العدوان في ظل تصاعد الحديث الأميركي عن قرب موعد الإعلان عن صفقة ترامب. وعلى الرغم من أن هذا الإعلان تكرر ثم تأجل،إلا أن ماطرحته وسائل إعلام عبرية مؤخرا عن سيناريوهات محتملة لموقع قطاع غزة في تطبيقات الصفقة الأميركية، يجعل من المنطقي الربط بين جولة العدوان هذه وإبقائها مفتوحة ،وبين محاولة فرض السيناريوهات المحتملة بقوة العدوان.
وربما هذا أحد الأسباب الجوهرية التي تجعل دولة الاحتلال توافق على الكثير من المطالب الفلسطينية التي ربطت بين التهدئة وكسر الحصار، ومن ثم تتهرب من تنفيذها بانتظار بلورة الصيغة النهائية للصفقة الأميركية، وتطورات المواقف لدى أطراف إقليمية أخرى في ظل تصاعد الضغوط الأميركية التي تسعى لتوفير المقومات العملية للإعلان عن اكتمال الصفقة وطرح السيناريو الختامي لها.
وعلى الرغم من نفي المبعوث الأميركي غرينبلات لأية سيناريوهات بخصوص غزة وسيناء في الصفقة الأميركية،إلا أن المراقبين يشيرون بوضوح إلى أن فريق ترامب هو من يقف وراء التسريبات التي نشرتها وسائل إعلام أميركية وإسرائيلية في هذا الشأن، ومن ثم يقومون بنفيها دون أن يغفلوا رصد أصداء هذه التسريبات على الأصعدة كافة.
لذلك، لا يمكن النظر إلى ما يتعرض له قطاع غزة باعتباره انعكاسا مجردا لسياسة الاحتلال تجاه القطاع، وأن ما يجري محكوم فقط بمعادلة الصراع على تلك الجبهة،بل هو فصل من سياسية أميركية ـ إسرائيلية مشتركة تجاه المنطقة وبالقلب من هذه السياسة فرض تسوية سياسية لا مكان فيها للحقوق الوطنية الفلسطينية، وترتيب أوضاع المنطقة وفق المصالح المتطابقة الأميركية ـ الإسرائيلية.
على هذا يتكرر الحديث عن وجوب تصويب الأوضاع الفلسطينية الداخلية من خلال القطع مع الانقسام والسياسات الجهوية الضيقة التي أدت إليه. وعلى اعتبار أن استمرار الانقسام وتفاقمه أكد صعوبة التراجع عن هذه السياسات، فلابد من إعادة هذا الملف وغيره من القضايا الفلسطينية الشائكة إلى صلاحيات هيئة تفعيل وتطوير منظمة التحرير، التي تضم كامل الطيف السياسي الفلسطيني ممثلا بقياداته الأولى، للبحث في آليات حل هذه الأزمات والوصول إلى إعادة بناء النظام السياسي الفلسطيني عبر الانتخابات الشاملة وفق قانون التمثيل النسبي الكامل.
وفي سياق هذا ومعه، من المفترض وضع كل الإمكانيات الفلسطينية المتاحة من أجل مواجهة المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي عبر برنامج سياسي وميداني موحد يقطع الطريق على صانعي المشروع في تجزئة القضايا الفلسطينية وتوزيعها على مسارات مختلفة، وتقزيمها إلى أزمات إنسانية، يجري البحث في تخفيف وطأتها، على نفقة المانحين، خارج عناوين المشروع الوطني الفلسطيني التحرري، وخارج تجسيد الحقوق الفلسطينية في العودة وقيام الدولة الفلسطينية المستقلة على كامل الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان 1967 وعاصمتها القدس الشرقية.
بقلم/ محمد السهلي