رؤية فكرية بين الإعلام والتأريخ

بقلم: نبيل عودة

محور العلاقة بين الاعلام والتاريخ ، يتميز بعلاقة اندماجية لا يمكن فسخها وتجاهلها ، خاصة في عصر الثورة الاعلامية التي نعيشها ، وتحول الاعلام الى أداة نقل مباشر للحدث ، بالصوت والصورة وبالزمان والمكان الذي تجري فيهما الأحداث، بما فيها أشد الحروب أو الكوارث هولا أو القضايا التي تشغل المجتمعات البشرية ، بمختلف تنوعاتها ، من الاقتصاد والسياسة والعلوم والثقافة والاكتشافات ، الأمر الذي أعطى للاعلام قوة حضور ، وقدرة على تشكيل الراي العام ، والتأثير على أرشفة الحدث تاريخيا ، ومهما تنوعت الاسئلة حول الاعلام والتاريخ ، يبقى يجمعهما رابط اساسي  مشترك ، يمكن تلخيصه بأن الاعلام المعاصر بات مرجعا توثيقيا لا يمكن تجاهله عند كتابة التاريخ .

السؤال الذي يتبادر الى ذهني: هل يمكن ان نرى في المستقبل نهاية لدور المؤرخين ، اذا اعتبرنا الاعلام تغطية للأحداث التاريخية ؟

هنا بودي التنبيه الى بعض المسائل الهامة : هل وظيفة المؤرخين هي كتابة الأحداث ، بنفس اسلوب الاعلام؟

هل يمكن ان يكون الاعلام متجردا من الرؤية الذاتية للاعلاميين ،أو لسياسة الوسيلة الاعلامية ، أو لسياسة الدولة في حال كان الاعلام مملوكا لدولة أو يخضع لمراقبتها ولنهجها ، مما يؤثر على اسلوب وصيغة نقل الحدث  ونقله بما يتلاءم مع العوامل المؤثرة والضاغطة ؟

اذن ما هو دور المؤرخين في عصر الاعلام الذي لم يبق حدثا يمر بدون تغطية وافية ؟

ما هو دور الاعلام في التأريخ ، وهل يمكن اعتبار دوره ، تأريخيا في مضمونه المركزي ؟

نلاحظ في دراسات المؤرخين الاعتماد على الكثير من الروايات الاعلامية ، بل  والاعتماد على نصوص ابداعية، روائية أو مسرحية أو شعرية  لفهم الواقع الاجتماعي ، وسبر أغوار الحياة الاجتماعية وواقع الحضارات في المجتمعات القديمة السابقة لعصر الاعلام ، رغم ان الاعلام نشأ حسب تصوري مع نشوء المجتمعات البشرية الأولى ، ويمكن رؤية الرسومات التي تركها الانسان القديم في أماكن سكناه ، قبل عصر الكتابة ، كاعلام عن الواقع الذي عاشه الانسان القديم .

مع ذلك لا يمكن القول ان التاريخ هو فن الرواية مثلا ، رغم ان العلاقة بين التاريخ والأدب الروائي  فيها تشابهات كثيرة ، أهمها أسلوب القص ومحاولة سبر أغوار المجتمع والانسان بصفتة نتاجا للمجتمع . هناك فروقا ، في حين يشمل النص الروائي على الخيال الجامح نجد ان التاريخ لا يستطيع الا ان يلتزم بالحقائق الثابته  والا فقد من قيمته المرجعية والعلمية .

هل كان يمكن فهم الواقع الاجتماعي لما يسمى بالعصر الجاهلي دون المعلقات الشعرية ؟

هل كان يمكن فهم أحداث طروادة والتاريخ الاغريقي دون العودة الى ملحمة هوميروس وكتابات سائر الشعراء الاغريقيين ؟

الا تروي اساطير العراق القديمة وآثاره تاريخ العراق وحضاراته متعددة الوجوه ؟

الا تروي أساطير التوراة حكايات السبي اليهودي، الخروج من مصر وبعض تاريخ الحروبات والغزو في العالم التوراتي القديم وخاصة في بلاد الكنعانيين ؟

الا تحكي لنا آثار الفراعنة وقصصهم ودياناتهم تاريخ مصر الفرعونية وحضارتها ؟

بالطبع لا يمكن اعتماد الأساطير والقصص كمرجع تاريخي موثوق ، انما هي دلائل لا بد من العودة اليها لفهم طبيعة التطور ومستوى المجتمعات ورقيها ، أحداثها  وتبقى مهمة المؤرخين وعلماء الآثار اقامة الدلائل العلمية  والفرز بين الحقائق وبين التخيلات.

أكاد أجزم ان الاعلام حتى في زماننا المعاصر لم يخرج بعد من النشر المتخيل ومحاولة استباق الحدث عبر القراءة المستقبلية للأحداث ، أو تحريفه بما يتلاءم مع الموقف والراي الذي ينطلق منه الاعلامي ، او اصحاب الشأن في الوسيلة الاعلامية، هذا يميز بالأساس وسائل الاعلام الحزبية!ّ بينما صحافة مستقلة لا مصلحة لها الا نقل الحدث بدون تحويره لهدف سياسي.

التاريخ الذي هو صورة عن عملية التطور الفعلية ، هو بنفس الوقت يعتبر انعكاسا للحدث في الفكر ، ولا نحتاج الى الكثير من البراهين لنثبت ان انعكاس الحدث في الفكر قد يختلف بين مشاهدي نفس الحدث، ونجد روايات متناقضة من شهود عيان ، انعكس الحدث في ذهنهم بصورة مختلفة ، وأحيانا متناقضة عن انعكاسه في ذهن الآخرين، طبعا  هذا أمر وارد ومقبول.   .

اذن التاريخ لا يعتمد على التصوير المباشر للأحداث ، والا تحول الى كتابة صحفية آنية ، التاريخ يعتمد على تحليل عملية تطور الحدث، تشكلها ، تحليل ما بين مركبات الحدث ، التفاعلات بينها ، المؤثرات الذاتية ( النشاطات التي تسرع أو تبطئ )  والموضوعية في نقل الحدث،  بينما التاريخ يرى التطور المنطقي في الأحداث ومعالم التطور. لذلك يمكن وصف التاريخ بالحدث المنطقي المجرد من التسويق الصحفي ومن اثارة دهشة القارئ كما في اسلوب القص الأدبي. الحدث التاريخي هو نص يروي حقائق التطورات والأحداث عبر الالتزام بالمنطق العقلاني وسيرورته الذاتية.

يرتكب الاعلام بالتأكيد، في دوافع تسويق "منتوجاته" ، تشويها للتاريخ ( الخبر – الحدث – المقال – التحليل الاخباري )، هذا الأمر يبرز أكثر في اعلام لدول تفتقد للدمقراطية والتعددية الفكرية  وتتميز بقمع الفكر المختلف. يؤسفني ان العديد من دول عالمنا العربي غارقة بقمع الفكر السياسي والاجتماعي المعارض، أو الداعي حتى لبعض الاصلاح الشكلي، هذا ينعكس أيضا على كتابة التاريخ، على العلوم، على تطوير مناهج اجتماعية ، على دراسة العديد من القضايا التاريخية والعلمية ذات الصلة بالتاريخ أيضا ، مثل نشوء الانسان وتاريخ المجتمع البشري ، نشوء المجموعة الشمسية وتطورها، تطور العلوم والتكنلوجيا ، تطور الفكر الفلسفي وغيرها من المواضيع التي تسبب نزاعا مع الفكر الماضوي السائد والمسيطر على أكثرية مناهج العالم العربي ومعظم دول العالم الاسلامية ودول العالم الثالث .. وينعكس بقوة في اعلامها، بغض النظر اذا كان اعلاما مستقلا ( شكليا بالطبع ) أو اعلاما مملوكا للنظام .

السؤال المحرج أكثر هل من مجال لبحث تاريخ الأديان وتطورها بالتجرد من المواقف المسبقة وغير العلمية السائدة في مجتمعاتنا العربية؟

لايمكن النظر الى الحدث الاعلامي بمعزل عن الظروف التاريخية التي وقع فيها ، هذه ليست وظيفة الاعلاميين ، الا قلة منهم ، قد تكون أقرب في نشاطها الى المؤرخين من حيث بحث الظروف التاريخية الملموسة التي تقود الى ما نشاهده من تطورات اخبارية – صحفية.

مع ذلك لست ممن يرون ان اعلام الأنظمة الدمقراطية ينهج بمصداقية وحيادية ، هذا المنتج غير موجود الا بالنظريات ، وتبقى المسالة نسبية ، ولكن يجب عدم اقناع الذات ان الوضع بين الاعلام الحر والاعلام الخاضع للرقابة ، يولد اعلاما يشوه الحقائق. فضاء الحرية هو فضاء للابداع ايضا ، ولطرق المواضيع الممنوعة ، وعدم التساهل مع الفساد السياسي أو الاجتماعي أو الاخلاقي  وهي مسائل تصب في النهاية في خدمة المجتمع  وبالتأكيد في خدمة عدم تزوير التاريخ .

ان المهمة التي يتميز بها المؤرخون ، انهم لا يذهبون فقط الى التفسير الصحيح لنشوء الأحداث ، وانما أيضا لفهم اتجاه تطورها مستقبلا ، عبر الارتباط بين الحدث العيني نفسه ، وبين تطور مجمل المعلومات وتشابكها ،ومجمل المؤثرات وامتداداتها  في مجرى التغير التاريخي للممارسة البشرية .

من الضروري في هذا الموضوع المثير للتفكير والاجتهاد الذاتي لمختلف أصجاب الرأي ان ننتبه الى ان الأفكار والمفاهيم التي يكتسبها الانسان في مراحل حياته ، خاصة الأولى ، هي مفاهيم وأفكار وأحكام غير مبنية على التجربة والممارسة ، من الصعب على الأغلب تغييرها على اساس التجربة الذاتية أيضا ، اذ تبدو يقينية ثابته ، هذا ينعكس في الاعلام  وبغض النظر اذا كان اعلاما يتمتع بالحرية الكاملة أو غير ذلك .تنبة الفيلسوف الفرنسي ديكارت لهذه الناحية البشرية ، وأطلق عليهاأسم : " مذهب الأفكار الفطرية " والذي يتكون كنتيجة طبيعية لعدم قدرة الانسان على تبيان طريق تشكيل الأفكار والمفاهيم ، عبر نفي دور المعرفة التجريبية في هذه العملية .

ما دخل هذه التفاصيل في موضوع الاعلام والتاريخ بشكل عام ؟

انا من أصحاب الرؤية الشمولية التي ترى بالمعارف الانسانية وحدة شاملة لا يمكن تجزيئها . والمعارف لا توجد بحالة انفصال بل بتواصل وتداخل لدرجة يصعب فصلها.

بالطبع للاعلام في واقعنا دور مؤثر وبالغ الخطورة على تشكيل الوعي والدفع نحو مواقف معينة ، بغض النظر اذا كان يدفع نحو الحقيقة أو نحو خدمة موقف مسبق . ينعكس هذا التأثير بالتأكيد على صياغة النص التاريخي .. وربما على ما هو أبعد من ذلك ، بالتأثير على الواقع السياسي و الاجتماعي والاقتصادي في دول العالم المختلفة.

لا يعني ذلك ان كتابة التاريخ متحررة من ظواهر مماثلة ، لكننا نتحدث عن فكرة عامة ، يبقى التقييم الذاتي لكل مؤرخ أو اعلامي هي المسألة الفاصلة في دوره كمصدر موثوق ، او مصدر يهدف خدمة مواقف مسبقة .

كثيرا ما واجهنا مؤرخين يغيرون من روايتهم التاريخية ، كالمؤرخ بيني موريس مثلا في روايته وتحليله لتاريخ النكبة الفلسطينية . ان قيمة المؤرخ في قدرته على الوصول الى الحقائق عبر عملية المقارنة والفرز بين أطنان المعلومات الصحفية والالتزام بما هو موثوق .

الملاحظة الأخيرة التي ارى أهمية لها ، تتعلق بتأثير الحريات الصحفية على نوعية الخبر الصحفي   وقيمة الاعلام ومصداقيته .

انا لا أعيش في وهم بأن مساحة الدمقراطية هي المقرر الأساسي في مصداقية الاعلام. هذا الأمر مناف للواقع ، حتى في الدول التي توفر حرية واسعة جدا للاعلام بكل أشكاله.

صحيح ان الاعلام المعاصر لم يعد ، شكليا على الأقل ... اعلاما موجها ومبرمجا . هناك سقوط للاعلام الحزبي ، أو ما يعرف بالاعلام الملتزم لنهج فكري محدد . وهو اعلام من المشكوك ان يتناوله المؤرخون كمرجع موثوق للتاريخ ، لكن للأسف نشهد اعلاما يدعي الانفتاح على مجمل الآراء ، في التطبيق يفقد بوصلته المستقلة ويغرق في النهج الذي يبدو له مقبولا من القراء ، اذ ينغلق على اتجاه يقتل جوهر الصحافة ومميزاتها الأكثر أهمية ، باعتبارها مرآة للفكر الاجتماعي والسياسي  بكل اطيافه وتعدداته.. من تجربتي المقاطعة لراي ليست قوة للوسيلة الاعلامية، بل هي مسار لضيقي الأفق والمنغلقين عن تحول الاعلام الى قوة لا يستهان بها في عالمنا.

من الصعب تسمية هذه الصحافة بالإعلام الا شكلا فقط . ومن المستحيل الاعتماد عليها كمرجع لأي موضوع كان . لذلك مساحة الحرية ، هي مساحة هامة جدا ، ومسؤولية هذه الحرية لا تقل أهمية عنها  حتى في ظل أنظمة قمعية.

نحن نعيش عصر ثورة المعلومات ، والاعلام هو جزء صغير من مصدر هذه المعلومات ، ومع ذلك دور الاعلام يتميز بقيمة كبيرة نظرا لقدرته على التأثير السريع والمباشر على مجمل الراي العام في المجتمعات البشرية .

غير ان التاريخ له مضامينه غير المطلوبة في العمل الاعلامي .. وله مصادره الأكثر اتساعا ، واساليبه البحثية المختلفة عن الاعلام ، وأدواته التحليلية التي تقربه أكثر من العلم وليس من عنصر الاتصالات التي تميز الصحافة ، وأن لا ننسى ان التاريخ لا يكتمل اليوم تسجيله بدون العودة الى الوثائق في ارشيفات الدول المختلفة ، التي يبقى بعضها رهن السرية لعشرات السنين ، لكن مصير الحقيقة التاريخية دائما ان تظهر ولو بعد أكثر من جيل، مثلا مضت ستون عاما على النكبة الفلسطينية ، بعد ان فتحت بعض الأرشيفات السرية في اسرائيل ، جاء مؤرخ يهودي مثل الدكتور ايلان بابه ليكشف ان قادة الحركة الصهيونية خططوا ومارسوا التطهير العرقي ضد ابناء الشعب الفلسطيني ( كتابه : التطهير العرقي في فلسطين ) .. أي انه أكد الرواية الفلسطينية . بينما الاعلام يعتمد أكثر على الحدث في لحظته ، على عناصر التشويق والتسويق والتحريف أحيانا ، يمكن محاولة تفسير ما نرى ونسمع بشكل مختلف ومتناقض ، كما حدث مثلا بحادثة استشهاد الصبي الفلسطيني محمد الدرة . اذ تدعي اسرائيل ان الرصاص الذي اردى هذا الفتي الفلسطيني قتيلا ، لم يكن رصاص جنودها  وانما رصاص الفلسطينيين . كنت أنا شخصيا من المشاهدين بالبث الحي والمباشر لحادث مصرع هذا الطفل بالصوت والصورة ، كان المصور يتكلم بوضوح عن مصدر اطلاق النار  والمأزق الصعب للطفل محمد ووالده في مواجهة النيران الاسرائيلية القاتلة.

اذن التاريخ أكثر شمولية واتساعا من الاعلام . بالنسبة للتاريخ ليس مهما تتبع ووصف كامل لمجرى العملية بكل تفاصيلها واحداثها ، الجوهرية منها وغير الجوهرية ، كما في الاعلام .. انما تحليل تطور الشيء وتشكله ، وتأثير القوانين والروابط والتفاعلات ، بترابط مع المنطق .

[email protected]

بقلم/ نبيل عودة