يجب الاعتراف ان هناك اكثر من رواية ليس فقط عن النكبة التي حلت بالشعب الفلسطيني عام 1948 بل وعن تاريخ هذه البلاد وحضارتها وثقافتها الممتدة عبر التاريخ . في التاريخ هناك رواية اعتمدت وما زالت على الاساطير التي تناقلتها أقوال العرافين في حكايات توراتية لا تخلو من التناقض وتفتقر الى سند تاريخي وتدعي رغم ذلك صلة بهذه البلاد تتيح لها نفي جميع الثقافات والحضارات التي تعاقبت على بلاد كنعان على امتداد آلسنين . وقد لفت انتباهي مؤخرا في هذا السياق ما كتبه السفير الاميركي في اسرائيل ديفيد فريدمان بمناسبة مرور عام على اعتراف إدارته بالقدس عاصمة لاسرائيل ونقل سفارتها من تل أبيب الى القدس في تحد صارخ للقانون الدولي وقرارات الشرعية الدولية وعدوان على حقوق الشعب الفلسطيني يذكرنا بالعدوان غير المسبوق في وعد بلفور ، الذي أعطى ما لا يملك لمن لا يستحق .
فقبل أيام كتب السفير فريدمان مقالا في جريدة " اسرائيل اليوم " المقربة جدا من بنيامين نتنياهو ومن الاتجاهات اليمينية المتطرفة على شاكلته في اسرائيل أن بلاده دشنت في 14 أيار 2018 سفارتها في القدس، عاصمة إسرائيل الأبدية بقرار شجاع للرئيس دونالد ترامب اعترف أيضا بحقيقة تعود إلى 3 آلاف سنة يحاول أعداء إسرائيل شطبها منذ زمن بعيد . ولاضفاء بعد سياسي كاذب على روايته استعاد فريدمان بداية أيام الولايات المتحدة كجمهورية ، حيث كانت القدس على رأس فرحها في العام 1844 على حد زعمه . في ذلك الوقت ينسب فريدمان الى القنصل الأميركي العام الأول في المدينة ووردر كرسون فور تعيينه قوله بأن الحقوق التي يتمتع بها الأميركيون من خلال " وثائق الدفاع " الدبلوماسية ستنطبق أيضا على يهود القدس لينتهي الى أن نقل السفارة الأميركية وضع الولايات المتحدة جيدا في الجانب الصحيح من التاريخ.
الجانب الصحيح من التاريخ القديم لهذه البلاد لا يقوم على مواصلة التعلق بأساطير وحكايات عرافين تعود الى ثلاثة الاف من السنين يكون في بؤرة تركيزها الأهم نفي صلة غير اليهود ببلاد كنعان بقدر ما يقوم على الأخذ في الاعتبار في الحد الأدنى أن التاريخ اوسع من إدعاءات فريدمان وغيره من المزورين وهو سجل احداث وثقافات وحضارات يجب ان تخضع للفحص النقدي حتى يقترب من الحقيقة . وعلى كل حال فقد عرف العالم عمليات تزوير في التاريخ القديم لعديد البلدان والشعوب ، غير أن عمليات التزوير عند ديفيد فريدماتن كصهيوني يميني متطرف وعند غيره من الصهاينة لا تقف عند حدود القديم بل هي عملية ممتدة تغطي تاريخ قيام دولة اسرائيل في تاريخنا الحديث . ذلك واضح من خلال الرواية الاسرائيلية عن النكبة ، التي ضربت الشعب الفلسطيني قبل عشرات وليس قبل آلاف السنين .
فللنكبة روايتان، واحدة إسرائيلية اعتمدت الكذب وتزوير الحقائق منهجاً. والثانية فلسطينية قصرنا للأسف الشديد في تقديمها كما جرت احداثها فعلا، مقدماتها وتداعيتها للرأي العام العالمي . هنا يجب التصدي للرواية الإسرائيلية لأنها مبنية على الأكاديب بشأن تهجير مئات آلاف الفلسطينيين وطردهم من ارض الاباء واأجداد عام 1948 . وعندما نتصدى للرواية الإسرائيلية يجب ان نقدم روايتنا الفلسطينية كما حدثت منذ وعد بلفور وصك الإنتداب ومشاريع التطهير العرقي، وحتى ما بعد قيام دولة اسرائيل والمجازر التي ارتكبتها، وكلها جرائم لا تموت بالتقادم وكان مخططاً لها ان تنفذ من قبل الوكالة اليودية والصهيونية لكي تسهل قيام اسرائيل".
هنا تجدر الاشارة الى الخطة "دالت" التي اقرتها الحركة الصهيونية والوكالة اليهودية في بداية العام 48 وتحديدا في آذار من ذلك العام ، وأوكلت تنفيذها الى الهاجناه وغيرها من منظمات الارهاب اليهودي في فلسطين بتوجيهات تفصيلية مثل القتل ودب الرعب ومحاصرة المدن والقرى الفلسطينية وحرق البيوت والممتلكات وزرع الألغام وسط الأنقاض لمنع الأهالي من العودة الى بيوتهم، وما ترتب عليها من ارتكاب الهاجناه وغيرها من
المنظمات الارهابية في ضوء تلك الخطة 28 مجزرة كان اشدها هولا في دير ياسين وعملية هدم لأكثر من 530 بلدة وقرية وتهجير 800 الف فلسطيني وتحويلهم الى لاجئين ولاجئين في وطنهم سواء كانوا في داخل اراضي ال 48 أم في الضفة أو غزة.
وفي هذا الصدد يجب ان نطرح هذه الرواية ويجب ان نقدم معها ما قاله بيغن وشامير عن دير ياسين وكلاهما أصبحا في ما بعد رؤساء لحكومات اسرائيلية . فقد قال بيغن انه بدون دير ياسين ما كان ممكناً لإسرائيل ان تظهر للوجود، فيما وصف اسحق شامير المجزرة بأنها كانت واجباً انسانياً..هذه الرواية اذا ما قدمناها نقدم للعالم الدليل القاطع على ما خططت له الصهيونية من جرائم تم ارتكابها ..والرواية الأخرى يجب ان تشمل المقدمات التي أدت للنكبة فهذه الرواية الفلسطينية التي قصرنا في تقديمها ساهمت في أن يأخذ العالم لفترة غير قصيرة بالرواية الإسرائيلية التي ادعت ان سكان فلسطين غادروا منازلهم استجابة لنداءات من الخارج . وقد تأخر العالم في سماع روايتنا بقدر ما تأخرنا نحن في طرح رؤيتنا وروايتنا".
طبعا هناك تحول كبير في موقف الرأي العام العالمي وقبوله التدريجي للرواية الفلسطينية . فالوضع بدأ يتغير وقد ساعد على ذلك أعمال عدد من المؤرخين الجدد في اسرائيل وخاصة اولئك الذين ظهروا على نحو واضح عمليات التطهير العرقي التي رافقت قيام دولة اسرائيل منذ أيامها الاولى ، وبدأ يتغير نتيجة صمود أهلنا في مناطق الـ 48 في وجه العدوان ومحاولة الأسرلة الدائمة ومواجهتهم، كأقلية قومية حافظت على قضيتها وعلى وجودها وكذلك حافظت على قضية اللاجئين حية وعلى حقهم في العودة، نتيجة الصمود والضحايا في معاركنا كشعب سواء في الخارج او في الداخل والتمسك بحق العودة وانه لا يمكن ان يموت هذا الحق بالتقادم ، نتيجة لسياسة التهجير والتطهير العرقي التي انتهجتها إسرائيل وليس كما تدعي اسرائيل بأن اللاجئين تركوا وطنهم وبيوتهم استجابة لنداءات من الخارج. وتحول في سياق ذلك حق اللاجئين في العودة الى بيوتهم وديارهم التي هجروا منها هو حق لا يموت بالتقادم وهي حق وطني وفردي وجماعي ويجب التمسك بهذا الحق وبالإجماع حول هذا الموقف الوطني بصرف النظر عن اية اعتبارات قد يراها البعض في سياق اية عمليات سياسية او تفاوضية
ويبقى موقف الإدارة الأمريكية هنا موقف غريب ومستهجن خاصة بعد خطواتها التي اقدمت عليها مؤخرا بمحاولة إزالة قضية اللاجئين الفلسطينيين من جدوا اعمال التسوية السياسية وسلسلة القرارات التي استهدفت وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين ( اونروا ) بتجفيف مواردها المالية على طريق حلها وتصفيتها . ما يملي على الفلسطينيين اتخاذ مزيد من الخطوات الفاعلة على المستوى العربي والاقليمي والدولي بمواصلة التحرك نحو الدول الأوربية والعربية والإسلامية من أجل تجنيد المزيد من الموارد لصالح لسد العجز في ميزانية وكالة غوث اللاجئين، ولثبات على إن حق العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم هو حق ثابت ومقدس في وجه سياسة الادارة الاميركية التي تستهدف هذا الحق وتستهدف تصفية قضية اللاجئين وإنهاء عمل وكالة الغوث الدولية الشاهد الحي على نكبة الشعب.
أخيرا فإن تجديد التفويض لعمل وكالة غوث وتشغيل اللاجئين " الاونروا " نهاية هذا العام بات تحدياً يطرح نفسه ليس على الفلسطينيين وحدهم بل وعلى الدول العربية وعلى المجتمع الدولي باعتبارها الجهة الدولية المعنية بحفظ حقوق اللاجئين الفلسطينيين وعدم المساس بالتفويض الممنوح لها استناداً لقرار انشائها رقم 302 لعام 1949، إلى حين حل قضية اللاجئين، واستمرارها في تقديم خدماتها الصحية والتعليمية والإغاثة الاجتماعية، لأكثر من خمسة ملايين لاجئ فلسطيني مسجلين لديها وفقا للتفويض الأممي الممنوح إليها
بقلم/ تيسير خالد
** عضو اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية
** عضو المكتب السياسي للجبهة الديمقراطية لتحرير فلسطين