موقف جنوب افريقيا من القضية الفلسطينية..

بقلم: عودة عابد

• إن المبادئ العامة للسياسة الخارجية لجمهورية جنوب إفريقيا في القارة الإفريقية تقوم على التركيز على حل النزاعات والصراعات الدائرة في مناطق عدة، بل إن الثابت في السياسة الخارجية لجمهورية جنوب إفريقيا هو تركيز الحكومات المتعاقبة منذ التغيير الديمقراطي وسقوط نظام الفصل العنصري عام 1994، ومحاولة شغل أكبر الساحات الممكنة في لعب دور سياسي مؤثر على المستويات القارية الإقليمية على وجه التحديد والدولية ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا. ويمكن القول إن بناء علاقات جيدة مع جنوب إفريقيا يعنى ضمان امتياز العلاقة مع عدد من الدول الإفريقية في سياق هذه الوصال مع جنوب إفريقيا.
• تلعب جنوب إفريقيا بشكل خاص دور القيادة في الاقليم الجنوبي من إفريقيا، والريادة في كل أنحاء القارة السمراء، ودائما ما توصف بأنها نتاج العقل الغربي بل وتكاد تكون بقعة منه، حيث لم تعد إلى أصلها الإفريقي الأصيل إلا بعد سقوط النظام العنصر. كما ينظر لجنوب إفريقيا على أنها دولة ذات حضور قوى على الساحة الدولية وعلى المستوى الأفريقي، فهي حاضرة وبقوة إزاء ملفات مهمة ومصيرية بالنسبة للعالم العربي، وعلى رأسها : دارفور وليبيا وجنوب السودان وتشاد والصومال، فضلا عن قضايا مركزية تتقدمها فلسطين ودول ما يسمى بالربيع العربي.. كل ذلك إلى جانب تأثيرها بقضايا القارة الكبرى مثل : النزاعات والفقر والاستغلال الخارجي.
• في شهر أيار من العام 1994، بمناسبة سقوط نظام الفصل العنصري في البلاد وبدأ مسيرة الديمقراطية والتأسيس لنظام سياسي يمثل شعب جنوب إفريقيا الذي حقق مبتغاه في الحرية والاستقلال الداخلي، بات المشهد الفلسطيني الجنوب افريقي اكثر ايضاح ونضوج في العلاقة والمواقف حيث ان الزعيم الراحل ياسر عرفات من أوائل المدعوين لحضور تلك الاحتفالات على شرف انتصار إرادة الشعب الجنوب إفريقي بصفته رئيسا لدولة فلسطين ورئيسا للجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية ، حيث ربطته صداقة شخصية مع الزعيم الراحل نيلسون منديلا الذي انتخب كأول رئيس أسود يحكم جنوب إفريقيا.
• توطدت العلاقات بين فلسطين وجنوب إفريقيا مع اتساع هامش الاهتمام الذي أولاه قادة جنوب إفريقيا بالقضية الفلسطينية، وتبادلت القيادة السياسية لجمهورية جنوب إفريقيا الزيارات واللقاءات مع القيادة السياسية الفلسطينية منذ زيارة الرئيس الراحل ياسر عرفات لجمهورية جنوب إفريقيا عام 1994 وحتى زيارته الرسمية الثانية عام 1998، تلتها زيارات على فترات متباعدة كان أبرزها زيارة عرفات للبلاد في نيسان من العام 1999 وأب عام 2000، ثم زيارته الشهيرة في أيار من العام 2001، في إطار الاجتماع الوزاري لدول عدم الانحياز بشأن القضية الفلسطينية الذي استضافه ذات المحيطين.
• منذ عام 1991 حتى العام 2001 شهدت العلاقات الإسرائيلية الإفريقية مرحلة العودة وتطبيع العلاقات، ففي أعقاب مؤتمر مدريد للسلام 1991 شهدت العلاقات الإسرائيلية الإفريقية دفعة قوية من إعادة العلاقة واستئناف علاقات أخرى مثل : سيراليون- بنين- جامبيا- موريشيوس- الجابون- بوركينا فاسو- بتسوانا وفي عام 1994 مدغشقر- غينيا- اوغندا- غانا- السنغال-روندا، إذ نجحت إسرائيل في عام 2005 في استئناف علاقاتها مع 44 دولة إفريقية على مستويات دبلوماسية مختلفة في ظل التوحد الأيديولوجي والعقدي الأمريكي الإسرائيلي. منذ عام 1991-2001م هي المرحلة التي يمكن أن نطلق عليها مرحلة ترسيخ العلاقات، فقد شهدت العلاقات الإسرائيلية الإفريقية منذ عام 1991-2005م بوجه عام تحولا مهما سواء على مستوى درجة الانتشار الإسرائيلي في القارة أو على مستوى عمق هذا الانتشار، وقد وصف بعض الباحثين والمهتمين هذا التحول بأنه نوع من أنواع الوفاق أو التحالف الجديد أو العودة الإسرائيلية إلى إفريقيا بعد سنوات الفراق التي فرضتها ظروف الحرب الباردة وديناميات الصراع العربي الإسرائيلي.
• لا زالت جنوب افريقيا تتمسك بمواقفها تجاه القضية الفلسطينية، وتدعم خيار حل الدولتين وتنادي بإعطاء الفلسطينيين حقهم في دولة مستقلة، وتنتقد سياسات اسرائيل التي تصفها بالابارتهيد ضد الشعب الفلسطيني " إن نظرة جنوب إفريقيا إلى فلسطين تستند على التأكيد بأن فلسطين هي دولة وان فلسطين دولة محبة للسلام وإن فلسطين مستعدة وقادرة إلى تنفيذ التزاماتها بموجب ميثاق الأمم المتحدة، كذلك وصفت توجه تقديم الرئيس محمود عباس طلب العضوية لدولة فلسطين في الأمم المتحدة بالحدث التاريخي والقول بأن إقامة دولة فلسطينية يمثل أهمية لكل دول العالم.
• شهدت المواقف بين جنوب افريقيا وفلسطين منذ عام 1948م. مواقف سلبية واضحة، حيث كانت جنوب افريقيا تدعم قيام دولة اسرائيل على أراضي فلسطين، ولكن العلاقات والمواقف لم تدم كسابق عهدها بعد عام 1994م، ونتيجة التغيرات السياسية الداخلية في جنوب افريقيا فقد أصبحت جنوب افريقيا تدعم القضية الفلسطينية بشكل واضح وصريح، وتدعوا لتحقيق العدالة وتقرير المصير للشعب الفلسطيني.
• جسدت مواقف منظمة التحرير الفلسطينية تجاه الحركة التحررية في جنوب إفريقية شراكة تلقت على أثرها أحزاب العمل السياسي والكفاحي بعض الدعم مع القيادة التحررية الفلسطينية التي كانت ترى أيضا في سقوط نظام الفصل العنصري الحليف لإسرائيل مصلحة تصب في خدمة القضية الفلسطينية.
• استخلص من هذه النتائج بأن موقف جمهورية جنوب أفريقيا بات واضحاً أبان فترة حكم نيلسون مانديلا بالعام 1994 ، بعد انتهاء نظام الفصل العنصري بات هذا الموقف المؤيد والمناصر للقضية الفلسطينية اكثر وضوحاً وعملاً حيث يعتبر نيلسون مانديلا صديق الزعيم ياسر عرفات وكلاهما رجال تحرر وطني هم أصل الحكاية والرواية في الدعم والمساندة والعمل التحريري الثوري، حيث اتخذت جنوب أفريقيا مواقف واضحة وصريحة اتجاه القضية الفلسطينية بعد العام 1994 حتى الآن، حيث ترى جنوب أفريقيا في إسرائيل بأنها دولة محتلة عنصرية استيطانية يجب أن تزول عن أرض فلسطين وأن من حق الشعب الفلسطيني نيل حقوقه وتقرير مصيره ولا ننسى تصريحات زعماء جنوب أفريقيا بداية من نيلسون مانديلا وحتى جاكوب زوما وما بعده من وزراء ورؤساء داعمين للقضية الفلسطينية في المحافل الدولية حتى الآن.
في ضوء ما سلف من نتائج ، يمكن توقع تصورات مستقبلية للمواقف الجنوب افريقية في المدى المنظور ، تكاد أن تدلى بها تطورات الأحداث ، عبر مختلف العلاقات التي تناولنها انفا ، وهذه التصورات هي :
التصور الأول : يمثل هذا التصور الامتداد المنطقي للتطورات الراهنة للمواقف الفلسطينية الجنوب إفريقية ، التي تم رصدها في هذه الدراسة ، فإذا استمر النمط الحالي لهذه المواقف على ذات الوتيرة والعمق ، من دعم ومساندة وتأييد للقضية الفلسطينية من قبل جمهورية جنوب إفريقيا بدافع التشابه في الاضطهاد لكلا الشعبين وكلتا القضيتين فإن التصور سيبقى بذات الوتيرة وهى الدعم المستمر والدائم من قبل جمهورية جنوب إفريقيا للقضية الفلسطينية.
التصور الثاني : أما هذا التصور فيمثل مسار العلاقات الفلسطينية الجنوب إفريقية، فيما لو طرأت تطورات غير جذرية على نسق العوامل التي أدت الى تطور هذه العلاقات ، سيما العوامل الدولية، بمعنى لو تخفف الولايات المتحدة الامريكية من درجة وكثافة مساندتها المطلقة للسياسة الاسرائيلية ضد القضية الفلسطينية ، لكان للجهود والدعم الإفريقي وخاصة الجنوب منها تأثير أقوى سياسيا تجاه القضية الفلسطينية.
التصور الثالث : فيما يتمثل بالمحددات الداخلية والخارجية لجمهورية جنوب افريقيا تجاه القضية الفلسطينية، فإن التصور السائد والواضح بأن المحددات الداخلية مؤثرة بالإيجاب للقضية الفلسطينية نتيجة تشابه المعاناة والعنصرية والاستيطان لكلتا القضيتين، كما أن المحددات الخارجية قد تؤثر نوعا ما على طبيعة السلوك السياسي للسياسة الخارجية لجنوب إفريقيا تجاه القضية الفلسطينية ، بمعنى أن الولايات المتحدة ومساندتها لإسرائيل كفاعل قوى بالمنطقة قد تؤثر بالسلب على موقف جنوب إفريقيا تجاه القضية الفلسطينية في الدعم الكامل الأكثر تأثيرا في المحافل الدولية.
التصور الرابع : أما التصور الأخير نحو موقف جمهورية جنوب إفريقيا من القرارات المقدمة من الجانب الفلسطيني في مجلس الأمن والجمعية العامة ومحكمة الجنايات الدولية وغيرها من المحافل الدولية ، قد تحظى بتأييد والمناصرة والمساندة من قبل جنوب إفريقيا لفلسطين ، طبقا لذات الوتيرة ، فعلى صعيد التسوية الفلسطينية الإسرائيلية وقرارات مجلس الامن تجاه القضية الفلسطينية، سوف تأخذ هذه الدولة دور المناصر بل الملتزم تجاه فلسطين، نتيجة ما يعانيه الفلسطينيون من احتلال ومعاناة واستيطان وحروب وعنصرية ، بمعنى أن جنوب إفريقيا ستبقى تناضل عبر المحافل الدولية من أجل تحرير فلسطين وقيام دولتها كباقي دول العالم المستقلة، بدافع الظروف السياسية والاجتماعية والنفسية والعوامل الداخلية التي وقعت بها هذه الدولة أبان الأبارتهيد الأبيض، ونتيجة التصريحات العديدة من قبل السياسيين في جنوب إفريقيا بداء من الزعيم الراحل نيلسون منديلا ومن تبعه من رؤساء وحكام، فالسياسة الخارجية التي تتخذها جنوب إفريقيا تجاه القضية الفلسطينية واضحة الملامح من مساندة وتأييد ومناصرة. بمعنى أن جنوب إفريقيا ستستمر بالدعم والتأييد لجميع القرارات والقضايا التي تخص القضية الفلسطينية من أجل نيل حقوق الشعب الفلسطيني وإقامة دولته المنشودة، وخاصة الدعم في المحافل الدولية، بل قد تأخذ دبلوماسيا وسياسيا تطورات أكثر فعالية في الدعم والتأييد من الجانب الاقتصادي والسياسي كاتفاقية التشاور السياسي التي وقعت في الآونة الأخيرة بين الدولتين من أجل التشاور في كل القضايا التي تخص القضية الفلسطينية.
وفى ضوء الرؤية المستقبلية سالفة الذكر، يقترح الباحث على أصحاب القرار وضع استراتيجية للتصدي للتغلغل الإسرائيلي في إفريقيا وتأثير هذه الدولة على مواقف الدول الإفريقية تجاه القضية الفلسطينية، تنطلق من مرجعية مفادها أن مصر دولة محورية عربيا وإفريقيا بما لها من قوة ناعمة تعتمد على حقائق التاريخ والجغرافيا ، بالإضافة الى الكفاح المشترك والخبرات المتراكمة في التعامل مع الدول الإفريقية ، بمعنى يجب التصدي للتوغل الإسرائيلي في إفريقيا من أجل الحفاظ على سياسة الاندماج الافريقي – العربي نحو الدعم والمساندة للشعب الفلسطيني في نيل حقوقه وتحرير أرضه من الاحتلال العنصري الاستيطاني الإسرائيلي.
• أقترح على وزارة الخارجية الفلسطينية رصد ومتابعة العلاقات الإسرائيلية الإفريقية في مختلف المناحى رغم انشغال كل من إسرائيل والدول العربية بقضية الشرق الأوسط والنزاعات الدائرة.
• توصى الدراسة لأصحاب القرار بأخذ تجربة جنوب افريقيا نموذجا على الحالة الفلسطينية ، فمن حق الشعوب الرازحة تحت الاحتلال مقاومته بالطرق الشعبية وغيرها حتى إزالته واتخاذ المقاومة الشعبية الجنوب إفريقية مثالا يحتذى به حول تحرير الأرض وتقرير المصير.
• توصى الدراسة بتوطيد العلاقات والصداقة بين السلطة الفلسطينية وجمهورية جنوب إفريقيا حتى تبقى العلاقات الدبلوماسية والسياسية بين البلدين أكثر تفاعلا وتأثيرا على المستوى القاري والدولي.
• العمل على إقناع الدول الإفريقية الأخرى التي تؤثر عليها جنوب إفريقيا سياسيا ودبلوماسيا باتخاذ جمهورية جنوب إفريقيا نموذجا يحتذى به في جنوب القارة، وحث هذه الدول على الدعم والمساندة للقضية الفلسطينية سياسيا ودبلوماسيا وفى المحافل الدولية.
• توصى الدراسة بتكثيف العمل الدبلوماسي الفلسطيني نحو القارة السوداء والقرن الإفريقي، والعمل على زيادة النشاط الدبلوماسي بزيادة تبادل السفارات والممثليات في تلك القارة أسوة بالسياسة الخارجية الاسرائيلية لتلك القارة، والعمل على زيادة المعرفة لشعوب وحكومات تلك الدول بالقضية الفلسطينية معرفة صريحة حول الانتهاكات والجرائم والحروب التي تقع على كاهل الشعب الفلسطيني من الاحتلال الإسرائيلي العنصري الاستيطاني الذى يدعى الديمقراطية، وايضاح أن الاحتلال الإسرائيلي لفلسطين هو آخر احتلال قابع وموجود على هذه الأرض والذى تجاوز تسعة وستين عاما، من الاحتلال.
• توصى الدراسة على فضح الممارسات الإسرائيلية بحق الشعب الفلسطيني المحتل من استيطان وتوغل وحواجز مرور وتفتيش والاعتداءات بحق المناطق والسكان الفلسطينيين ، والاعتداءات على المقدسات الدينية الإسلامية والمسيحية" القدس- كنيسة القيامة" والاعتداءات على البيوت وهدمها في القدس والضفة الغربية وقطاع غزة، بحجة الحفاظ على الأمن الإسرائيلي، كما توصى الدراسة أيضا: بفضح الممارسات الإسرائيلية الاستيطانية سالفة الذكر في المحافل الدولية والمؤسسات والمنظمات ذوي الاختصاص.

الباحث: د. عــــــودة عابــــــد..