أمام ذهول الشعب الفلسطيني وفي احتفالية معدة سلفا، تم الإعلان عن نشر كتاب «رئيسنا قدوتنا – إغلاق محكم لصفقة القرن»، ضمن مبادرة لأجل فلسطين نتعلم، الذي سبب إطلاقه، بمبادرة من طالبات مدرسة البيرة الثانوية، سعادة استثنائية للرئيس محمود عباس، كما أعلن ذلك عزام الأحمد، أحد المقربين الدائمين من الرئيس. وتماديا في تعميم الفرحة قررت وزارة التربية والتعاليم طباعة الكتاب بأعداد كبيرة وتوزيعه على جميع المدارس، طبعا من الميزاينة العامة التي تشهد أكبر عجز مالي في العصر الحديث، بعد وقف المساعدات الأمريكية التي كانت تصل إلى نحو نصف مليار دولار.
وقد أثار الكتيب عاصفة من الاحتجاجات، خاصة على مواقع التواصل الاجتماعي، ساخرة من المبادرة وتوقيتها واعتبارها نوعا من تكريس شخصية القائد الزعيم الأوحد، الأب الملهم الحنون. فالشعب الفلسطيني يختلف عن بقية الشعوب العربية، في كونه صاحب تجربة فريدة من نوعها، وهي مواجهته الجمعية عبر أكثر من قرن للمشروع الكولونيالي الاستيطاني الإحلالي التفريغي، الذي قام على طرد شعب كامل من وطنه، واستقدام جماعات من شتى الأرض تحت حجة الرابطة الدينية، وأن هذه المواجهة مازالت مستمرة ومتواصلة بطرق مختلفة، رغم أن المشروع الاستيطاني يشهد تقدما كبيرا على حساب الوطن، بحيث أصبح الجزء الأكبر من الأرض الفلسطينية خاضعا للاحتلال، والجزء الأكبر من الشعب مقتلعا خارج وطنه ويعيش في مخيمات اللجوء وأصقاع الشتات. ولا نعتقد أن هناك خلافا بين الغالبية الساحقة من أبناء الشعب الفلسطيني، أن اتفاقيات أوسلو (1 و2 واتفاقية باريس الاقتصادية والواي ريفر) ساهمت مجتمعة في نجاحات المشروع الصهيوني في ربع القرن الماضي، منذ أن وضع محمود عباس بإسم منظمة التحرير توقيعه على تلك الاتفاقية في حديقة البيت الأبيض في 13 سبتمبر 1993.
بعيدا عن النوايا والردح والشتائم والسخرية، كيف يمكن لشعب تزيد معاناته يوميا وهو يرى أرض وطنه تتقلص، ومشروع أعدائه يتمدد، أن يرقص طربا ويعتبر هذه القيادة نموذجا، التي تحت ظلها وتوجيهاتها وإدارتها للأزمة، وصل المشروع الوطني الفلسطيني إلى هذا المأزق الوجودي: نكون أو لا نكون؟ إنها قيادة أوسلو نفسها التي أخذت على عاتقها أن تدخل في مغامرة غير محسوبة النتائج تعطي لعدوها كتابة وتوقيعا كل ما طلبه، مقابل وعود غامضة تتحدث عن مفاوضات الوضع النهائي، بعد أن يضمن الفلسطينيون أمن عدوهم بتخليهم قولا وفعلا عن «الإرهاب والعنف والتحريض»، وهو ما جاء نصا بدون لُبس في رسالة طويلة من صفحة ونصف الصفحة سميت «رسائل الاعتراف المتبادل» التي وقعها ياسر عرفات، وقدمها لإسحق رابين يوم 9 سبتمبر، مقابل رسالة من رابين مكونة من 20 كلمة تنص على أن: «حكومة إسرائيل قررت الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية باعتبارها الممثل الشرعي للشعب الفلسطيني، وستبدأ مفاوضات معها في إطار عملية السلام في الشرق الأوسط».
قد يسأل سائل، كما فعل كبير المفاوضين، كيف لمن وقعوا العرائض ضد نشر الكتاب وتهكموا على فكرته، يرفضون كتابا لم يطلعوا عليه أصلا، في الوقت الذي يقف فيه الرئيس وقفة صمود ضد صفقة القرن؟ وكأن المطلوب منا أن نبدأ بتقييم أداء رئيس السلطة، انطلاقا فقط منذ إعلانه عن رفض صفقة القرن، بعدما تم جس نبضه في السعودية وقال يومها لولي العهد السعودي «أعطني النص المكتوب لأرد عليه رسميا» ثم خرج وأعلن بعد عودته كنا ننتظر صفقة العصر فإذا بها صفعة العصر.
إن موقفنا المطالب بسحب الكتاب وعدم توزيعه، ينطلق أصلا من موقف مبدئي من رفض تكريس القيادة الفردية الأبوية، التي بليت بها معظم بلدان الوطن العربي الكبير. فالشخص مهما كان حكيما وذكيا وناشطا ومخلصا، فلن يستطيع أن يقوم مقام العمل الجماعي المؤسساتي القائم على التشاور واتخاذ القرار الجماعي، المعبر عن معظم أطياف المجتمع السياسية والفكرية. القائد مهما كان فذا فإنه معرض للتقلب والضغوط، وتغيير المواقف والمهادنة، والتملص والمراوغة والتكتيك، ولا مكان فيه لتكريس عبادة الشخصية، واعتبار القائد شخصا خارقا للعادة يصادر حق الشعب في الاختيار والمناقشة والمعارضة والرفض والقبول. إن تجربة «الكتاب الأخضر» و»زعيم الثورة العالمية والنظرية الثالثة»، يجب ألا تتكرر في أي بلد عربي، ناهيك من شعب تمرس في النضال وفرز إلى الساحة تيارات فكرية وفصائل عديدة ومنظمات جماهيرية رائدة.
إن ما يحتاجه طلبة المدارس إعادة الاعتبار للرواية الفلسطينية الحقيقية التي شوهها العديد من التدخلات العربية والخارجية، التي تحاول طمس العديد من الحقائق والوثائق والوقائع والأسماء، والتي من شأنها أن تعيد السردية الحقيقية لما جرى في فلسطين منذ بدايات القرن العشرين. وعندما نشرت في هذه الصحيفة بتاريخ 26 أكتوبر 2017 بمناسبة مئوية بلفور مقالا تحت عنوان «مئوية وعد بلفور- قراءة سريعة في وثائق المرحلة»، استغرب الكثيرون من المعلومات والحقائق الصادمة للدور الذي لعبته شخصيات عربية وفلسطينية في تمرير وعد بلفور والتعامل معه. المطلوب تصحيح التاريخ وليس تشويهه، حيث يحاول كتاب المناهج أن يسقطوا من الكتب المدرسية كل ما يتعلق بفلسطين التاريخية، كي يثبتوا أنهم ملتزمون بعملية السلام المحصورة في الضفة والقطاع فقط. والكتب الجيدة في هذا المجال كثيرة ونحن على استعداد أن نقترح ما يجب أن يدرس في المدارس، كي نخرّج أجيالا واعية ملمة بقضيتها، بعقول نقدية متنورة قادرة على صياغة فكر نقدي ثاقب، وليس اقتباسات لأقوال أي زعيم مهما علا شأنه.
خلال مئة عام تعرض الشعب الفلسطيني للمؤامرة الاقتلاعية، التي لعب النظام العربي الرسمي منذ عام 1919 دورا مهما في إنجاح المخطط الصهيوبريطاني على فلسطين. وفي كل مرحلة تبرز أسماء تقود النضال وتستشهد أو تسجن أو تعدم، وتكون هناك كبوة، ثم لا يلبث هذا الشعب أن يطور أساليبه وطرق نضاله، فتتصدر المشهد قيادات جديدة تتفق أو تختلف في التكتيكات، فتقود النضال في مرحلته الجديدة وما تلبث أن تختفي عن المسرح لتطل من بعدها قيادات جديدة. الحقيقة أن الشعب الفلسطيني لا يُبَروز قياداته السياسية للأبد، بل يمتدحها مؤقتا ما دامت متمسكة بالنضال، ثم ينثني عنها ويذهب إلى غيرها. لكن قدوته الأعلى ظلوا الشهداء.
أكثر من سبعين سنة ظل الفلسطينيون يقدرون رموزهم من المناضلين والمبدعين في شتى الميادين، لا من العاملين في ميدان السياسة فحسب. فلم يحظ قائد فلسطيني بالإجماع عليه إلا رموز الاستشهاد في ميدان المعركة. صحيح تغنوا بمواقف المفتي الحاج أمين الحسيني، القائد الأول لغاية عام 1948، ثم سرعان ما اختفى اسمه واسم أول رئيس لمنظمة التحرير الفلسطينية أحمد الشقيري، فسرعان ما ينثني الفلسطينيون عن القائد وينتقدونه لحد التجريح. فلا مقدس إلا القضية نفسها، وهي البوصلة التي يحكم من خلالها على أداء القائد. في الطهر الثوري ظل حكيم الثورة جورج حبش قديسا في عيون شعبه إلى آخر لحظة، واحتل ياسر عرفات رمزية، صنع جزءا منها الناس وأضفوها عليه، ثم أفاقوا على صفقة أوسلو، فتحول عرفات إلى سياسي عادي ينتقد ويتهم ويجرح. في سجون الاحتلال عندما وصل الأسير سامر العيساوي درجة الموت، بعد إضراب قياسي عن الطعام، بدأ الشعب الفلسطيني يستعد لتشفيره رمزا أسطوريا، فاكتشفت إسرائيل ذلك وتوصلت إلى اتفاق معه، وعادت ونقضت الاتفاق وأعادته إلى المعتقل. أضف إليه القادة الرموز مروان البرغوثي ونائل البرغوثي وكريم يونس وعميد الأسرى الشهيد عمر القاسم وقبله سمير قنطار.
لكن أكثر الرموز الفلسطينية قدسية هم الشهداء، الذين تجد أسماءهم مثبتة على لوحات رخامية في كل بلدة ومخيم ومدينة في فلسطين المحتلة وخارجها. سيل من الشهداء لم ينقطع يوما، من الثلاثي عطا الزير وفؤاد حجازي ومحمد جمجوم، الذين أعدمهم الاستعمار البريطاني عام 1930 في سجن عكا مرورا بعز الدين القسام وعبد القادر الحسيني، وصولا إلى أبي علي إياد وكمال ناصر وأبو يوسف النجار وكمال عدوان ودلال المغربي وماجد أبو شرار وحنا ميخائيل أبو عمر وأبو علي مصطفى وأحمد ياسين والرنتيسي وفتحي الشقاقي وصولا إلى أبي جندل وعمر أبو ليلى.
في الأدب رفع الفلسطينيون القيمة الاعتبارية للشاعر محمود درويش، الذي حمل الهم الفلسطيني، وعبّر عنه أدبا راقيا يصل أنحاء الدنيا. وفي الرسم الكاريكاتيري احـتل ناجي العلي الموقع بلا منازع، وفي العلوم الإنسانية توج إدوارد سعيد رمزا لعبقرية أبدعت وحلقت عاليا في السماء، وفي الرواية يحتل غسان كنفاني الموقع الرمزي الأعلى، وفي الرسم إسماعيل شموط، وفي الاقتصاد يوسف الصايغ وفي البنوك عائلة شومان وفي الغناء ريم البنا. لكن الفلسطينيين على مستوى القيادة القدوة يعيشون حالة فراغ كبرى خالية من الرموز الأسطورية – يعزز هذا الوعي وجود قيادات بائسة في رام الله وغزة، لا تتفقان على شيء إلا على استمرار الانقسام. المفاوض يصل إلى طريق مسدود يضيع القضية ويتجاوز خطوطها الحمراء ويضيع الشعب معه، ووعوده للشعب الفلسطيني بقيام دولة مستقلة عن طريق المفاوضات قدمت مثاليا غطاء لإسرائيل لضمان عدم قيامها. أما الذين انتخبوا بسبب ورقة المقاومة، فقد تحولوا إلى جهاز سلطة في قطاع غزة محاصر برا وبحرا وجوا من العدو الإسرائيلي والجار العربي.
المرحلة الآن ليست إذن تقديس الأشخاص، بل العمل على بناء جبهة شعبية واسعة ضمن برنامج نضالي موحد، ليس فقط لمواجهة صفقة القرن، بل للانتصار عليها عبر بوابة إنهاء الانقسام أولا.
عبد الحميد صيام
محاضر بمركز دراسات الشرق الأوسط بجامعة رتغرز بنيوجرسي