في عودة إلى نغمة التخويف من خطر التوطين

بقلم: معتصم حمادة

الدفاع عن حق العودة وصونه، وصون مضمونه، ومنع التلاعب بتعريفه، سياسياً وقانونياً، فضلاً عن مقاومة كل سيناريوهات الحل البديل، من التوطين وغيره، محور رئيس من محاور المعركة الوطنية التي يخوض الشعب الفلسطيني غمارها، في ميادين مختلفة، مقدماً في ذلك تضحيات كبرى.

رغم وجود بعض التباينات في الموقف الفلسطيني بين من يتمسك بالبرنامج المرحلي، باعتباره الحل الذي تتوفر ظروف وعناصر قيامه، وبين من يدعو إلى حلول بديلة، كالدولة الواحدة (فوراً) وتحرير كامل التراب الوطني (من النهر إلى البحر)، فإن حق العودة يشكل العنصر المشترك بين كل هذه الحلول، ولم يقدم، حتى الآن، أي مشروع فلسطيني نفسه من موقع التخلي عن حق العودة، ومن موقع التخلي عن القرار 194، كعنصر بارز من عناصر الحل السياسي المرحلي للصراع مع دولة الاحتلال.

في مسيرة النضال، وقبل انطلاقة الثورة الفلسطينية المعاصرة، وقبلها، طرحت في الدوائر الغربية، أميركية وأوروبية، سيناريوهات وحلول بديلة لحق العودةـ باعتباره ـ كما يقول أصحاب هذه الحلول ـ عقبة كبرى في طريق الحل. وهو اعتراف ضمني بأن التمسك بحق العودة، ورفض المشاريع البديلة، كان على الدوام أقوى من كل هذه المشاريع، ألحق بها الهزيمة، رغم ما رصدت لها من أموال، وجندت لأجلها من قوى جبارة، في مقدمها الولايات المتحد الأميركية، وخلفها، بالطبع، دولة الاحتلال.

*      *      *

هناك مدخلان لتناول قضية اللاجئين الفلسطينيين.

المدخل الأول هو التأكيد على حقوقهم الوطنية كاملة، في جوهرها ومقدمها حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948، والتمسك بالقرار 194 الذي يكفل لهم هذا الحق.

في سياق هذا المدخل، التمسك بإدامة عمل وكالة الغوث، منظمة دولية أنشأتها الأمم المتحدة بالقرار رقم 302، وكلفتها إغاثة وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين إلى حين عودتهم إلى ديارهم تطبيقاً للقرار 194. وجعلت الأمم المتحدة من وكالة الغوث وكالة مؤقتة غير دائمة، انطلاقاً من التأكيد أن اللجوء هو في حد ذاته حالة مؤقتة وغير دائمة يجب أن تنتهي بالعودة إلى الديار والممتلكات. كما عرفت وكالة الغوث اللاجئ بأنه من كان مقيماً في فلسطين قبل الهجرة بسنتين. كذلك أقرت، بموجب القوانين الدولية، أن حق العودة حق ثابت للاجئين الذين هجروا من أرضهم، ولذريتهم من بعدهم، جيلاً وراء جيل. فحق العودة حق للشعب الفلسطيني بأجياله المختلفة، والمتوارثة لهذا الحق، وليس للذين شهدوا النكبة فقط.

من جانبها، لم تعتمد الأمم المتحدة وكالة الغوث منظمة دولية دائمة من منظماتها الأخرى، كاليونيسكو، والصحة العالمية وغيرها بل جعلت منها مؤقتة، بما في ذلك أمر تمويلها الذي أحيل إلى الجهات المانحة.

في هاتين الخطوتين عبرة سياسية عميقة. الأولى في التأكيد أن الهجرة مؤقتة ويجب أن تنتهي بالعودة بموجب القرار 194. والثانية أن المجتمع الغربي المسؤول عن صناعة النكبة، يجب أن يكون مسؤولاً في الوقت نفسه عن مداراة نتائج النكبة، ومعالجة آثارهاـ اجتماعياً، إلى جانب معالجة آثارها سياسياً اجتماعياً بتمويل الأونروا، وسياسياً بالعمل على تنفيذ القرار 194 باعتباره قراراً ملزماً لدولة إسرائيل وللمجتمع الدولي. وإدامة عمل الوكالة هو أحد عناوين اعتراف المجتمع الدولي بمسؤوليته عن صناعة النكبة الفلسطينية، واعتراف بمسؤوليته عن ضرورة معالجة نتائجها، وإعادة الأمور إلى ما كانت عليه قبل العام 1948، أي العودة إلى الديار بموجب القرار194.

وحدها إدارة ترامب، في تطبيقاتها لصفقته المسماة «صفقة العصر» لتصفية المسألة الفلسطينية، كسرت العديد من المعادلات المبنية على اعتراف المجتمع الدولي بحق العودة، وإدامة عمل وكالة الغوث.

دعت إدارة ترامب إلى حل «الوكالة»، باعتبارها «عقبة في طريق السلام» (!) فرضت الحصار المالي عليها لشل برامجها ونقلها بقوة الأمر الواقع إلى الجهات المضيفة، دعت إلى إعادة النظر بتعريف اللاجئ الفلسطيني ليقتصر على مواليد فلسطين (أي ما قبل 1948) واسقاط هذا التعريف ـ وحق العودة استتباعاً ـ عن الآخرين، قدمت جمع الشمل/ لمواليد فلسطين من اللاجئين/ وعلى دفعات سنوية كحل لقضية اللاجئين، ومنح المتبقين جنسية الدول المضيفة أو أية دولة ثالثة. جرف مخيمات اللاجئين وتحويلها إلى مدن. بناء منظمات أهلية فلسطينية (في الضفة الفلسطينية بشكل خاص) تعنى بقضايا «مدن اللاجئين» وتدير أمرها، وتشرف عليها السلطة الفلسطينية.

*      *      *

مع تصاعد الحديث عن «صفقة ترامب» وتكشف ملامح «حل قضية اللاجئين» تصاعد الحديث في بعض الأوساط اللبنانية عن خطر «توطين» اللاجئين الفلسطينيين.

نقول «تصاعد» الحديث، لأن مثل هذا الحديث لم يتوقف يوماً ما، وشكل نغمة دائمة لدى أطراف لبنانية ذات اتجاهات سياسية مختلفة، والهدف من العزف على هذه النغمة، ليس التصدي لخطر التوطين، بل توجيه السهام إلى الجسد الفلسطيني (الضحية) باعتباره هو مصدر الخطر.

ما يفترض التأكيد على سلسلة حقائق، تدركها جيداً الأوساط السياسية اللبنانية كلها دون استثناء.

• الحقيقة الأولى أن اللاجئ الفلسطيني ليس هو مصدر خطر التوطين، بل مصدره هو المشاريع الغربية، والأميركية منها بشكل خاص، وبالتالي يفترض التصدي لهذا الخطر التصدي للسياسات الأميركية والغربية، المصدر الحقيقي للخطر.

• الحقيقة الثانية أن تزوير الحقيقة والقول إن اللاجئ هو مصدر الخطر، يخفي سياسات باتت معروفة، تتمثل في فرض القيود الظالمة على المخيمات بشكل خاص وعلى اللاجئين الفلسطينيين بشكل عام، القيود الاجتماعية والأمنية وسواها، وحرمان اللاجئ من حقوقه الإنسانية وحقه في الحياة الكريمة. وتبرير ذلك بأنه في مواجهة خط التوطين، لكنه في الحقيقة في مواجهة اللاجئ الفلسطيني دون غيره.

• الحقيقة الثالثة أن رفض التوطين يفترض أن يقترن بحق العودة. فهو الحل الصحيح لقضية اللاجئين. أما حصر خط التوطين في لبنان، ورفضه في لبنان وحدها، يبدو في مضمونه، موافقة ضمنية على التوطين لكن خارج لبنان. وهذه سياسة لا تخدم لا القضية الفلسطينية ولا حق العودة، لا سياسياً ولا قانونياً ولا أخلاقياً، فضلاً عن أنها لا تشكل موقفاً يتسم بالصدق الحقيقي في رفض التوطين.

• الحقيقة الرابعة أن سيناريوهات التوطين، لم تأتِ على ذكر لبنان، كواحد من البلدان المرشحة للتوطين، لأسباب عديدة، سياسية مضمرة في حسابات الغرب والولايات المتحدة، ومنها ما يتعلق بواقع اللاجئين حيث الكتل الكبرى للاجئين، المدرجة على جدول الأعمال، ليست في لبنان، بل في مكان آخر.

لذلك أن يعود بعض الدوائر اللبنانية للحديث بصوت عال عن خطر التوطين، بالشكل الذي تدار فيه المسألة، لا يخدم المصلحة الفلسطينية فضلاً عن كونه لن يعود بأي نفع ذي جدوى على المصلحة اللبنانية.

بقلم/ معتصم حمادة