(1)
أسهبت الولايات المتحدة، عبر تصريحات غزيرة للثلاثي جاريد كوشنر، وجيسون غرينبلات، وديفيد فريدمان، في التحضير للإعلان عن تفاصيل «صفقة ترامب، نتنياهو» بعد انقضاء شهر رمضان، وقيام حكومة نتنياهو الجديدة.
ورغم الحديث عن التكتم، فقد لعبت الإدارة الأميركية لعبة حرب الأعصاب، ولعبة بالونات الاختبار، ورصد ردود الفعل. تسرب هنا بعضاً من تفاصيل «الصفقة»، وترصد ردود الفعل الفلسطينية والعربية والدولية. ثم تبادر لاحقاً إلى نفي ما تمّ تسريبه. ولعل ما يؤكد صحة ذلك أن معظم ما تمّ تسريبه، في العديد من الصحف العربية، والدولية، والعبرية، تقاطعت معلوماته حول عناصر «الصفقة» بشكل كبير، ما يؤكد أن مصدر التسريبات واحد، وأن صاحب النفي هو نفسه، الثلاثي المعني بالصفقة: كوشنر، غرينبلات، وفريدمان.
كذلك ترافقت التسريبات مع تهديدات مبطنة للجانب الفلسطيني، الذي أجمعت أطرافه كافة على رفض الصفقة. من ضمن هذه التهديدات، إخراج الجانب الفلسطيني من المعادلة السياسية، ومن التسوية، والعمل بدلاً من ذلك على فرضها عليه، عبر ابتداع ممثلين بديلين عنه، في تلميح إلى العاصمة الأردنية عمان، التي سرعان ما أعلنت رفضها هذه السياسة، وأكدت تمسكها بثلاث نقاط في الحل لا تنازل عنها: أولاً الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعلى حدود 4 حزيران 1967، ثانياً القدس المحتلة هي عاصمة الدولة مع التمسك بمسؤوليات الإشراف على المقدسات الدينية في المدينة، وثالثاً التزام حق العودة للاجئين الفلسطينيين ورفض التوطين، والرفض التام أن يكون الأردن الوطن البديل للفلسطينيين. وقد تطابقت مواقف عمّان تطابقاً تاماً مع مواقف الإجماع الوطني الفلسطيني، مما أغلق، أمام الثلاثي الأميركي، ومن خلفه إدارة ترامب، فرص التلاعب بالأوضاع العربية في إدارة الترويج لصفقة ترامب، نتنياهو. ■
(2)
■ فجأة، ودون تمهيد، توقف الحديث عن مواعيد الإعلان عن تفاصيل الصفقة (التي تم تنفيذ أكثر من 70% من شقها الفلسطيني ـ الإسرائيلي) وأطلت على الرأي العام دعوة مذيلة بتوقيع وزير الخزانة في الولايات المتحدة الأميركية، يدعو، باسم الولايات المتحدة، ومملكة البحرين، إلى ورشة في المنامة يومي 25 و26/6/2019، بعنوان «السلام من أجل الإزدهار»، ستدعى لها دول عربية، وإقليمية وغربية ومسلمة، إلى جانب إسرائيل، وكذلك شخصيات وشركات ورجال أعمال ومؤسسات وخبراء، بحيث تشكل تظاهرة سياسية كبرى، تحت راية صفقة ترامب – نتنياهو، تنقل العمل في «الصفقة» من محوره الفلسطيني، الإسرائيلي، الذي حقق أكثر من 70% من أهدافه الميدانية، إلى محوره الإقليمي.
لماذا تأجل الإعلان عن تفاصيل الصفقة؟
لم يعد سراً القول أن ما تم تسريبه عن «الصفقة»، وهو إلى حد كبير صحيح ودقيق، اصطدم بالكثير من العراقيل والعقبات. أهمها الرفض الفلسطيني الكامل للصفقة وتفاصيلها، إذ لم تترك الإدارة الأميركية منفذاً واحداً يسمح لطرف فلسطيني أن يوافق عليها. فكل شيء كان مغلقاً. القدس عاصمة لإسرائيل. الاستيطان مشرّع قانونياً. مستقبل المستوطنات الضم. لا انسحاب من منطقة «ج» (أي الضم)، لا دولة فلسطينية، ولا استقلال، ولا سيادة، ولا عودة للاجئين، بل سلسلة من الحلول الإسرائيلية الأكثر تطرفاً تبنتها إدارة ترامب باعتبارها باتت أمراً واقعاً لا يمكن التراجع عنه. بالتالي تشكل صفقة ترامب – نتنياهو دعوة صريحة للقيادة الفلسطينية كي تنتحر سياسياً إن هي وافقت عليها. كما تشكل، كما وصفها الكاتب الصحفي البريطاني المعروف جوناثان كوك، عملية «اغتيال سياسي» في وضح النهار للشعب الفلسطيني. فإذا كانت عملية اغتيال فرد ما تعتبر جريمة من الدرجة الأولى، فماذا يقال عن عملية اغتيال شعب بأكمله من خلال إنكار حقوقه الوطنية المشروعة والعمل على فرض حل عليه يخرجه، ليس من المعادلة السياسية فحسب، بل ويخرجه أيضاً من التاريخ ويشطبه من لائحة شعوب المنطقة، لصالح شعب بديل، هو «الشعب اليهودي» الذي حصن وجوده الأيديولوجي، نتنياهو في سنه «قانون القومية» العنصري.
الصد الفلسطيني، شكل صداً لأي موقف عربي قد يتخطى خطوط الموقف الفلسطيني. صحيح أن بعض الدول العربية تجاوزت بعض هذه الخطوط جزئياً من خلال علاقات تطبيع غير رسمية، إلا أن هناك خطوطاً لا يجرؤ أي مسؤول عربي على تجاوزها، وهي القدس، والدولة المستقلة، وحق العودة للاجئين. هذه العناصر الثلاثة مازالت هي محور الصراع، ومازالت تشكل العناصر الرئيسية في وحدة الموقف الفلسطيني، ومن خلفه وحدة الموقف العربي في بياناته الختامية في القمم العربية المتعاقبة وفي القمم الإسلامية، وفي أية قمة بالمشاركة مع الآخرين كالقمة العربية – الإفريقية، أو العربية ـ الأميركية لاتينية، وغيرها.
بالتالي حتى ولو رغب بعض المسؤولين العرب الذهاب خارج حدود اللعبة الجماعية، فإن ردود الفعل ستكون أكبر بكثير من احتمالات تحملها، خاصة والمنطقة العربية تعيش حالة غليان تمتد من المغرب، إلى الجزائر، إلى تونس، إلى ليبيا، ومصر، والسودان، وسوريا، ولا نتجاهل الحالة اللبنانية في منحاها القومي الخاص بها، وكذلك العراق وغيرها، بالتالي الأمور مطوقة، ومن الصعب كسر الطوق حتى من خلال عنجهية ترامب، وعناد نتنياهو. فضلاً عن هذا كله لم تتوقف الدوائر الإسرائيلية عن التحذير من خطورة ما سوف تشهده المناطق المحتلة، الضفة بما فيها القدس، وقطاع غزة، وحتى مناطق الـ48، من ردود فعل، قد يكون من نتائجها انهيارات لمنظومات أمنية تعتمد دولة الاحتلال عليها كثيراً في إدارة الشأن العام في المناطق الفلسطينية المحتلة.
إذن اكتشفت إدارة ترامب أن مسرح الأحداث للتقدم بالصفقة سياسياً، لم يتم تحضيره كما يجب حتى الآن. لهذا، ولأسباب أخرى، يضيق المجال هنا لسردها، اضطرت إدارة ترامب، للتراجع عن موعد الإعلان عن تفاصيل الصفقة والانتقال إلى الخطة (ب) «أي الدخول في الصفقة» من بوابتها الإقليمية، بدلاً من بوابتها الفلسطينية – الإسرائيلية■
(3)
إذن، ورشة البحرين، هي محاولة للالتفاف على المعارضة الفلسطينية، ورفض الإجماع الوطني الفلسطيني لصفقة ترامب – نتنياهو، من خلال طرح الشق الإقليمي للصفقة، القائمة على سلسلة من المشاريع تمولها الدول العربية الغنية بالنفط، في خدمة المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي، بدعوى أن الازدهار هو البديل للحرب، وأن مشكلة الشعب الفلسطيني تكمن في افتقاره إلى مستوى معين من الحياة يوفر له الاستقرار ويفتح أمامه باب الازدهار. وأن عدداً من شعوب المنطقة تشكو هي الأخرى من غياب النمو الاقتصادي والاجتماعي. وأن طرح جملة من المشاريع في هذا السياق يحرر المنطقة من مشاكلها الاقتصادية، ويوفر لها سبل الازدهار والاستقرار والأمن، ويفتح الباب «لسلام» دائم، أساسه التعاون الاقتصادي بين إسرائيل (المتفوقة) والدول العربية (الغارقة في التخلف).
هو صيغة أخرى من صيغ «الشرق الأوسط الجديد» الذي دعا له رئيس إسرائيل الأسبق شمعون بيريس، لكن مع تغييرات و«تجديدات» تعمل على تحويل الحالة القائمة إلى حالة دائمة، وفرض الأمر الواقع، كحل للصراع السياسي، أي شطب الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني، مقابل بضعة مليارات من الدولارات، تؤمنها له الدول العربية الغنية بالنفط، وبضعة عشرات من المليارات للدول العربية الأخرى، كالأردن، ومصر، ولبنان، في إطار توزيع «المكافآت» و«الغنائم» و«الهدايا» التي تحملها صفقة ترامب.
وإذا كانت الولايات المتحدة قد قدمت للفلسطينيين «هدية» اتفاق أوسلو، في مشروع «تطبيق السلام» (P.I.P) بواسطة وكالة الغوث بقيمة 350 مليون دولار، فإن الولايات المتحدة تريد من الدول العربية، أن تبيع الحقوق الفلسطينية، مقابل بضعة عشرات من مليارات الدولارات، توفرها الدول العربية نفسها، تعود فائدتها الكبرى على إسرائيل وعلى الولايات المتحدة. وتدمج إسرائيل في المنطقة، وتنفتح أبواب التطبيع العربي – الإسرائيلي على مصراعيها، وترسم معادلات إقليمية جديدة، في تحالفات عربية ـ إسرائيلية، سياسية اقتصادية، وأمنية في مواجهة «الخطر الأكبر» ممثلاً في إيران، ومحاصرة سوريا، والنفوذ الروسي في المنطقة، وفرض الهيمنة الأميركية الكاملة، السياسية والاقتصادية والتجارية والعسكرية على المنطقة، لتستعيد «منطقة الشرق الأوسط» مرة أخرى ملعباً أميركياً دون شركاء■
(4)
كثير من عناصر هذا المشروع متوفرة وباليد، ويمكن أن تشكل الأساس، وفق الحسابات الأميركية، لانطلاقة ناجحة، تعتمد الإغراء والترغيب من جهة والتهديد والترهيب والحصار من جهة أخرى.
فهناك اجماع خليجي رسمي (باستثناء عُمان) على أن إيران هي الخطر المباشر على المنطقة، وهي التي تهدد الأنظمة الخليجية كما تهدد خطوط المواصلات البحرية (هرمز خاصة) وطرق إمداد النفط نحو العالم. بالتالي فإن الأساس السياسي الأمني للتحالف (العلني أو غير العلني) قائم.
وهناك إجماع خليجي رسمي (دون استثناء هذه المرة) على أن الولايات المتحدة هي «الشريك» الأكبر المعني بحماية المنطقة. ولعل ترامب كان أكثر فصاحة منا جميعاً، حين خاطب هذه الأنظمة «عليكم أن تدفعوا لأحميكم من إيران».
وهناك إجماع خليجي رسمي أن إسرائيل، في السياق، تعتبر في خانة «الأصدقاء» وأن «يد السلام ممدودة إليها» بشكل معلن، منذ مبادرة السلام العربية في بيروت (2002). وقد أعادت العربية السعودية التأكيد على يدها الممدودة نحو السلام مع إسرائيل في تصريح رسمي في 29/5/2019، في معرض تبرير مشاركتها في ورشة البحرين.
بالتالي «الكتلة الصلبة» للجانب الإقليمي من صفقة ترامب جاهزة، وحاضرة، للمشاركة في ورشة البحرين. وجاءت موافقة الرياض، ومعها موافقة أبوظبي تأكيد على ذلك.
السؤال: لماذا البحرين؟
البحرين هي الحلقة الأضعف في منظومة دول الخليج. وتعيش أوضاعاً داخلية قلقة، تربطها بالعربية السعودية علاقات وثيقة، جعلت منها أقرب إلى محافظة من محافظات الأخ الأكبر. ترتبط بها جغرافياً بجسر يسهل الحركة بين البلدين، وبعلاقات تبعية قوية، دفعت العربية السعودية عام 2013 إلى نجدة النظام المهتز بقوات من درع الجزيرة تحميه من غضب الشارع. وتتحول المنامة، أيام الخميس إلى مدينة سعودية، للسياح الذين يأتون لقضاء ليلهم في بلد يبيح لهم ما هو محرم في بلادهم.
ويدرك المراقبون، دون استثناء، أنه لولا موافقة العربية السعودية المسبقة على «الورشة» لما قبلت البحرين أن تستضيفها. ما يعني في السياق أن المفاوضات والمباحثات والمشاورات التمهيدية، مع الولايات المتحدة، كانت مع الرياض، وليس مع المنامة. وأن الضوء الأخضر لعقد الورشة جاء من الرياض، قبل أن يأتي من المنامة. لذلك كانت العربية السعودية والإمارات أول من أعلن قبول الدعوة (طبعاً إلى جانب إسرائيل) رغم الإجماع الوطني الفلسطيني على رفض الورشة وكشفه خباياها وخلفياتها واستهدافاتها.
وهذا ما يضعنا أمام سلسلة من التساؤلات:
• هل تلتحق الدول العربية (المرشحة للحضور) بموقف الرياض وأبو ظبي؟ وما هو أثر ذلك على واقع العلاقات العربية الإقليمية؟
• هل تبقى العلاقات بين رام الله والعواصم العربية المشاركة في الورشة على ما هي عليه، أم أنها ستشهد تغييراً ما، وما هي حدود هذا التغيير؟
• هل تستطيع القيادة الفلسطينية أن «تتكيّف» مع نتائج ورشة البحرين، كما «تتكيّف» الآن مع صفقة ترامب بالاكتفاء بالرفض الكلامي، أم أن قواعد الصراع سوف تتغير؟
• وبالإجمالي يبقى السؤال الكبير: هل تغيرت قواعد اللعبة أم أنها ما زالت على ما هي عليه؟
بقلم/ معتصم حمادة