أيها السيدات والسادة: نقرأ كثيراً عن أساطير الأولين الذين مضَوا؛ وبخاصة الملاحم الدامية التي جرت بين الإخوة الأعداء عبر التاريخ. وإني أسأل هذا التاريخ: ماذا كتب عن خصومة الأختيْن: فتح وحماس الفلسطينيتين؟. اسمحوا لي أن أطلق خيالي إلى الأمام؛ فأجدني بعد ألف عام أجلس على شاطئ بحر الروم أقرأ في كتاب تم تأليفه وجمع مادته عن أساطير الإخوة المتخاصمين في الزمن القديم، أيام الجاهلية الأُولى، حين كانت مساكنهم خياماً من أوبار الإبل وأشعار الماعز تُحمَل على ظهور رواحلهم في صحراء العرب. وعن الأسطورة الفلسطينية التي هي أفظع الجرائم العجائبية التي حدثت بغزة في أوائل القرن الحادي والعشرين الميلادي الموسوم بالتحضُّر والتمديُن، أي قبل ألف عام ويزيد من الآن، حين كان أهلها يسكنون بيوتاً من الحَجَر على ضفاف وادي الخرا بغزة .وهي مُصنَّفة تحت قائمة جرائم الاقتتال والاغتيال التي حدثت بين الأختين العَدوَّتيْن بأدوات المكر والخديعة والانتقام الرخيص، وبدوافع الحقد والحسد والغيرة ونفي الآخر، والرغبة في الاستملاك والاستحواذ على سلطة الحُكم . نقرأ بالتتابع عن:-

أسطورة الأخويْن : قابيل وهابيل:

أقرأ بداية عن أسطورة (قابيل وهابيل) التي وقعت فيها أول جريمة قَتْل في تاريخ البشرية، وهي معروفة، فقد ذكرها قرآن المسلمين وتوراة اليهود، حيث طوَّعت لقابيل نفسُه قتلَ أخيه هابيل. ولكن الأسطورة تُفصِّل الحدث كالتالي: فيُروى أن حواء كانت تلد في كل مرة توأمين (ذَكَر وأنثى) وكان آدم يُزوِّج ذَكَر كل بطن بأنثى البطن الأخرى، ولم يكن يومئذ إلَّا هُم فقط، وكان من شريعة آدم في وقته أنه لا يَحِلُّ زواج الولد من توأمته. فلما كبر الأبناء، أراد أبوهم أن يُزوِّج قابيل توأمة هابيل وأن يُزوِّج هابيل توأمة قابيل. فرضي هابيل، ورفض قابيل هذه القسمة، وصرَّح لأبيه وأُمه قائلا: " أنا أحق بأختي توأمتي منه، فهي الأجمل". فضنَّ بها على أخيه، وأراد أن يستأثر بها بحجة أنه وتوأمته من ولادة الجَنة، بينما هابيل وتوأمته من ولادة الأرض، كما أنه – أي قابيل- الولد الأكبر. وحين ثار الجدل واحتدم الخلاف، طلب منهما أبوهما أن يُقرِّبا قرباناً ، فمن يُتقَبل قربانُه تكن الفتاة الجميلة له زوجاً. كان قابيل فلَّاحاً فقدَّم أردأ زرعه، وكان هابيل راعياً فقدَّم أملح كبش عنده، فنزلت من السماء نارٌ أكلت قربان هابيل وتركت قربان قابيل الذي امتلأ قلبه حسداً وغيرة وبُغضاً على أخيه هابيل. وكان دافع الجنس والمرأة الجميلة والوهم بأنه الأكبر والأقوى أيضاً وراء إزاحة المنافس الآخر بجريمة نكراء. فتوعَّده بالقتل، فطوَّعت له نفسُه قتْل أخيه فقتله، دون أن يحاول هابيل أن يمد يده لأخيه بسوء، بالرغم من القول أن هابيل كان يمتلك القوة والقدرة على صَدِّ أخيه وردعه، ولكنه تحرَّج عن قتْله خوفاً من الله!.[ الرحمة لمن خاف ربَّه ولم يقتل أخاه ]*.

أسطورة أوزيروس :

يُحكى أن أوزيروس اعتلى عرش مصر، فانصرف إلى تحضُّر البلاد وتمدين أهلها، فأراد أن ينتقل بهم من حياة البداوة والرعي إلى حياة التحضُّر والاستقرار، فدأب يعلمهم فلاحة الأرض وزراعتها بالنباتات والأشجار، وكان أوزيروس إلهاً يدعو شعبه إلى إشاعة الود والمحبة والتسامح فيما بينهم، ويَعِدُهم ويُمنِّيهم بحياة فاضلة قوامها عقيدة دينية تقوم على العيش الآمن والسلام. وكان من أدواته في نشر دعوته: الموسيقى والأناشيد والتراتيل الدينية، وإقامة حلقات الرقص والغناء. فأحبه شعبه، والتفوا حواليه مؤمنين بألوهيته الدينية وبزعامته السياسية. وكان له أخ اسمه(سِت) الملقب بإله الصحراء، الذي حسد أخاه وأبغضه، فنوى قتْلَه ليخلو له المُلك والزعامة، فاعتمد الخدعة والحيلة أن حاك المؤامرة مع نفسه الأمَّارة بالسوء. رسم (سِت) الخُطة (المؤامرة) وصممها للخلاص من أخيه الملك بأن غافاه، وأخذ مقاييس جسده سراً، وصنع صندوقاً (تابوتاً) يناسب حجم أخيه بالضبط، وزيَّنه بالمعادن الثمينة، ورصَّعه بالأحجار الكريمة. ولما انتهى من صناعة الصندوق الذي بدا تحفة نادرة، أظهره على الملك أوزيروس وعلى الملأ من حاشيته، فطمع كل منهم بامتلاك هذا الصندوق لروعته، فقال لهم (سِت) إله الصحراء: " مَن كان منكم يريد الصندوق فليدخله ويتمدد فيه، فمن كان على مقاسه فهو له" . تعاقب الحاضرون واحداً وراء الآخر، فلما لم يتسع لأي منهم؛ طلب (سِت) من أخيه الملك أن يُجرِّب، فدخل فيه وما إن تمدد فيه حتى أطبق (سِت) ومَن معه من المتآمرين باب الصندوق(التابوت) وأحكموا إقفاله، وسكبوا عليه الرصاص المذاب، ليثقل وزنه فيغطس في أعماق البحر الذي أرسلوه إليه. وهكذا انتهت الجريمة النكراء التي تخلَّص فيها الأخ من أخيه بدافع الغيرة والحسد والإحساس بالدونية ونفي الآخر وحب السيطرة على السلطة. لكن (حورس) ابن الإله أوزيروس يكبر ويشب عن الطوق، فيمتشق سيفه ويحمل رمحه ويثأر لأبيه المغدور وينتقم من قاتله، ويقتله. ويسترد الابن مملكة أبيه ويسير في شعبه سيرة أبيه. [ بوركتْ روحُك يا حورس أيها الابن المخلص لأبيك، يا صاحب الثارات الشجاع ! يا من أرسلت لنا رسالة مفادها :" القاتل لا بد أن يُقتل ولو بعد حين، وأن الحق لا يضيع مادام وراءه صاحب مُطالب". معذرة يا حورس: لقد قرأنا رسالتك ولم نعمل بها ، لأننا لسنا في شجاعتك ]. *

سأترك أسطورتي (عيسو ويعقوب) و(يوسف وإخوته) وكلتاهما موبوءة بصراع الأُخُوَّة الذي يفضي بتخلص الأخ من أخيه بالخديعة والمكر. ففي الأولى بسبب استبقاء السلطة بيده (البكورية ومباركة الأب إسحق لابنه يعقوب المُدلَّل من أُمه رفقة)، ما أثار حفيظة عيسو على أخيه يعقوب فأبغضه وحقد عليه. وفي الثانية بسبب حسد أبناء يعقوب وغيرتهم من أخيهم يوسف المُقرَّب من أبيهم، فقرروا التخلص منه إما بقتله أو بإبعاده ونفيه، وأخيراً اجتمعوا على رأي واحد، فألقوه في غياهب الجُب ليخلو لهم وجه أبيهم بتوزيع محبته عليهم بدلا من حصرها في واحد .*

أسطورة أبناء داود : (أبشالوم وأمنون وثامار):

سُئل أمنون بن داود ذات يوم عن سبب شحوب وجهه وضعف بُنيته وتغيُّر حاله إلى الأسوأ، فأجاب أمنون سائلَه: " إني أحب ثامار أخت أبشالوم أخي، وليتني أظفر بها ". (ملاحظة للقارئ: أمنون ابن داود من أُم ، وأبشالوم وشقيقته ابنا دود من أُم أخرى، فثامار التي يهيم بها أمنون هي أيضاً أخته من أبيه). ولما سمع صاحبُه جوابَه، نسج له هذا الصاحبُ سيناريو يُوقِع ثامار في حبائله، ليحصل منها على مراده. ومشى أمنون حسب الخُطة الدنيئة، إذ تمارض وغاب عن عين أبيه الملك داود. وجاءه الملك الأب ليعوده، وفي أعقاب الزيارة طلب أمنون من أبيه أن يسمح لأخته ثامار أن تخدمه في حجرته وتؤنسه في وحدته، وتصنع له طعاماً كعكتيْن، فيأكل من عمل يدها، وافق الملك وأرسل في طلب ابنته ثامار أن تحضر إلى أخيها المريض لتقوم على خدمته. فجاءته دون إبطاء، فعجنت وخبزت له كعكاً وهو ينظر. وحين قدمت له طعامه، طرد أمنون كلَّ مَن كان في حضرته، وخلا له المكان بأخته، فأمسك بيدها، وقال لها: " تعالي اضطجعي معي يا أختي". قالت له ثامار: " لا يا أخي! لا تُذِلُّني! لأنه لا يُفعل هكذا في بيتنا. فلا تعمل هذه القباحة، فتكون واحداً من السفهاء في إسرائيل، وأما أنا فأين أذهب بعاري؟ " . وحين لجَّ في القول وهمَّ بها، قالت " يا أخي الآن كلِّم الملك فإنه لا يمنعني عنك". (ملاحظة للقارئ: كان التحريم في ديانة بني إسرائيل للأخت من الأم، وليس للأخت من الأب، وأن النسب الديني حتى اليوم هو للأم وليس للأب، فمن كانت أمه يهودية فهو يهودي، ولا يُسأل عن دين الأب أو جنسه. ومن كان أبوه يهودياَ وأمه غير يهودية فهذا الابن ليس يهودياً حسب شريعتهم). ولكن أمنون لم يسمع لها ولم يستجب لتوسلاتها، فتمكَّن منها وقهرها واضطجع معها. وبعد نواله منها أبغضها بغضاً شديداً وطردها من وجهه، فانكفأت على نفسها تبكي حالها. علم الملك (داود) بالأمر، وعلم أبشالوم شقيقها بما جرى لها مع أخيه أمنون، فكتم غيظه وأخفى حقده، وأضمر في نفسه أمراً لم يفصح عنه. وحين واتته اللحظة المناسبة قتل أخاه أمنون انتقاماً لشرف شقيقته. وهرب من وجه أبيه، لأنه يعلم مقدار سخطه وغضبه عليه، لأن أمنون القتيل كان أحب الأبناء إلى أبيهم. هذا هو صراع الإخوة الذي انتهى بقتل بعضهم بعضاً بدافع الرغبة الجنسية وقهر الآخر. ولكن أبشالوم أخذ بالثأر من فاضح عرض أخته، وانتقم لها ولنفسه من هذا المجرم وإن كان هو أخاه ابن أبيه. [ تُرى مَن يثأر للشرف الفلسطيني المهدور يوميا؟].*

أسطورة الزير سالم ( صراع أبناء العم الذين هم في حُكم الأخوة ):

تروي الملحمة الشعبية الأسطورية أن هناك جريمتين وقعتا فيها، أما الأولى فهي مقتل الملك اليمني المستبد " تُبع حسان " غدراً على يد شقيقه عمرو، بدافع التنافس على السلطة وحب الاستيلاء على العرش اليمني، وكان للغادر ما أراد . أما الثانية: فهي بين أبناء العم الذين هم في مقام الإخوة حسب العُرف العربي الذي كان سائداً ومازال. فقد نشأ الصراع بين جَسَّاس وبين ابن عمه كُلَيْب (ملك ربيعة بشقيها بني تغلب وبني بَكر). حسداً وغيرة من عند جساس الذي رغب في التمرد وشق عصا الطاعة على الملك الشرعي كما يقولون، فقتل جساسُ ابنَ عمه وصهره - زوج أخته - كليباً غدراً، وبموت كليب اندلعت نيران الحرب التي قادها وأجَّج نيرانها أخو القتيل المعروف بالزير سالم، فحصد منجل الموت خَلْقاً كثيراً من الطرفيْن حباً في الثأر ورغبة في الانتقام. وحين تقدم العمر بالزير وأصابه الوهن والعجز، نهض الهجرس بن كليب مع عمه يحمل لواء الحرب والانتقام من أخواله، إذ كانت جليلة أرملة كليب حاملا به حين قُتل زوجها على يد أخيها جساس، فوضعت وليدها في ديار أخواله بني بكر. ولكنه حين أدرك وفهم الحياة، انقلب على أخواله مع أعمامه يقتل قاتلي أبيه. وما إن فرغ الهجرس من الثار والانتقام لأبيه حتى استرد عرشه وتُوِّج ملكاً وزعيماً للقبيلة، وخرج حيَّا ربيعة ( بكر وتغلب) من الحرب بعد أربعين سنة سواء بسواء. فكلاهما كان غالباً ومغلوباً، وكلاهما كان منتصراً ومهزوماً، وكلاهما قد تعطَّلت حيواتهم، وتهدَّمت بيوتهم، وتشرد أهلوهم، وقُتل أبناؤهم بلا مردود غير الأوجاع والدموع والحسرة. والناظر في ملحمة الزير وفي غيرها يرى أن دوافعها الحسد والغيرة وإزاحة الآخر والسطو على السلطة. [ وهو نفس الصراع الدامي الذي حدث أيضاً منذ ألف عام تقريباً بين الأختيْن فتح وحماس ] .*

أسطورة الصراع الدموي بين الأختيْن : فتح وحماس:

فتح ، حركة وطنية نشأت لصناعة الكفاح المسلح من أجل تحرير الأرض المغتصبة والعودة إلى الديار السليبة، وكانت البندقية أهم أدوات نضالها. وبعد ثلاث وعشرين سنة تقريباً ظهرت حماس إلى الوجود من بين طيَّات حزب الإخوان المسلمين، فنزلت ساحة النضال الوطني بعقيدة دينية مُتَّشحة بالعنف، مُتوثِّبة للعداوة والمخاصمة، فهي لن ترضى عن طرف حتي يتَّبع حِزبها. وما إن استراح المحاربون في غزة حتى آلت السلطة والحكومة لفتح رائدة النضال الفلسطيني، وهو ما أثار الغيرة والحسد والطمع في نفس حماس، فانقلبت على فتح بقوة الغدر، بعد موت زعيمها العظيم ياسر عرفات، وأدارت معركة دامية على فتح التي لم تكن ترغب في قتل أختها خوفاً من الله وحياءً من الوطن. وهكذا ينتهي السيناريو بأدواته الرخيصة في المكر والخديعة، ومن وراء ذلك دافع أكبر يتمثل في التنافس الدموي للفوز بعرش إمارة غزة العظمى، بعد ذبحها وسلخها عن المملكة الفلسطينية الأُم، فطوَّعت لها نفسُها قتْلَ أُختها، فقتلتها. وباءت سليلة الإخوان المسلمين بالإثم والعار، وكانت من الخاسرين. فقُتل مِن فتح مَن قُتل، وشُرِّد مَن شُرِّد، وتقطَّعت الأوصال والأطراف، وتسلَّمت حماس السلطة، واستحبَّت الجلوس على عرش الإمارة الغُـزية الجديدة، تحكم وتتحكم في مصير أهلها الذين عاشوا في حصار الظلم والظلام، فزادت ضربات الجوع والمرض والجهل والبطالة في ربوع غزة، وتحوَّلت الدُّور إلى قبور، والأحياء إلى أموات. هذه غزة التي كانت مقبرة الغزاة عبر التاريخ؛ أضحت مقبرة لأهلها وساكنيها أنفسِهم. وهذه أسطورة الأختيْن فتح وحماس، القائمة على جريمة قبيحة جلبت الإثم والعار والدمار، بسبب الحقد والحسد والغيرة. ولكن الأسطورة تذكر أن فتح أُخِذت غيلةً وهي نائمة مسترخية في أحضان الترف والنعيم، ولو أنها كانت مُتيقظة ومُقتدِرة لشرعت في صد حماس دون تردد أو إبطاء، لكنها كانت عاجزة عن مواجهة الهجمة المغولية التترية البغيضة. واغترَّت حماس بنفسها لمَّا ولَّت فتح فراراً من أمامها، وأُترِعَتْ كأس النشوة حين تحقق لها الجلوس على عرش الإمارة ذي القوائم الهزيلة، وغرَّها إشادة الأعداء بها وبقوتها، فأصابها العُجْبُ والتِّيه بنفسها؛ فخُيِّل إليها أنها دولة عُظمى غير قابلة للانكسار، فتوالى الدعم والتأييد لها من العرب المتصهينين، ومن الكارهين لوحدة الصف الفلسطيني إرضاءً لغرورها وتثبيتاً للانقسام وترسيخه. لقد دام الانقسام أكثر من اثنتي عشرة سنة وهو مُرشح لأن يطول عمرُه لعشرات السنين ما بقي زيرُنا بشيخوخته ووهنه، وما دام اليأس والقنوط هما العنوان، وسيبقى السواد يُجلل سماءنا، ما لم نصنع الأمل المنتظر فيأتي بولادة حورس، وقدوم الهجرس على صهوة جواده مُشهراً سيفه لأخذ الثأر وكسر القيد، واسترداد غزة السبيَّة من أيدي خاطفيها."

للكاتب الصحفي/ عبدالحليم أبوحجاج