منذ مدة طويلة وأنا أحجم حد النفور عن متابعة المسلسلات الرمضانية، وأذكر أن آخر مسلسل تابعته كاملا كان ليالي الحلمية بأجزائه كافة، ثم توقفت عن ذلك، وصرت أرى أن متابعة المسلسلات تخلّف تخلُّفا في العقل وتسلسل النفس ثلاثين يوما، والمشاهد متسلسلا مقيدا ينتظر الحدث وتتابعه وما يسفر عنه.
هذا العام استهوتني الفكرة من جديد، لأرى ماذا يعرض على قنوات MBC فتابعت ثلاثة مسلسلات وهي "حكايتي" و"خمسة ونص" و"أمنيات بعيدة"، وجزءا كبيرا من مسلسل "وما أدراك ما أمي"، لكن إن ضاعت الحلقة من هذا المسلسل الأخير لم تستهوني ملاحقتها في وقت آخر كما أفعل مع المسلسلات الثلاثة الأُخَر.
جذبني على نحو غامض المسلسل الكويتي "أمنيات بعيدة"، فيه من الدراما والإتقان ما يجذب المشاهد، وشيئا فشيئا تكشفت القصة، كانت القصة مغايرة تماما لما يعرض من قصص. كانت القصة غريبة عن الدراما العربية في حدود ما أعرف وأتابع، وهنا أسجل تواضع معرفتي في ذلك، ولست أدري إن كانت القصة قد تم تناولها في أعمال درامية أخرى عربية وأجنبية أم لا.
تدور القصة حول أختين توأمين، وقد جسدت هذا الدور الفنانة المبدعة هدى حسين، إحداهما ثرية استولت على ميراث أمها بالكامل، ولكنها لا تنجب، والأخرى فقيرة إلى حد اضطرارها العمل، وهي ذات بنات وأولاد (ثلاث بنات وولدين) وتزوجت مرتين وأنجبت في كلتيهما، تدخل "شريفة" في أزمة مالية هي وزوجها "سلمان" بسبب تجارة خاسرة لتدخل السجن، فتنقذها أختها لطيفة من السجن ولكن بشرط أن تعطيها ابنتها أو تتنازل عنها، ولم تكن "دلال" هي الوحيدة التي تبنتها لطيفة، بل إنها جمعت بالتبني ولدا آخر "حمد" وبنتا أخرى "ضحى"، وقد جمعتهما من الملاجئ وكانوا أبناء غير شرعيين.
تدور الأحداث وتتشابك وتنكشف الحقيقة ويحتدم الصراع بين الشخصيات، ويثور السؤال: من هو الأحق بدلال أمها الحقيقية التي تنازلت عنها مقابل المال، بغض النظر عن الظروف، أم لطيفة التي أحبتها جدا وحققت فيها وفي حمد وضحى أمنيتها البعيدة في أن تكون أماً، ولقد كانت أما صالحة على كل حال.
هذه القصة لها شبيه في المسرح العالمي في مسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" لـِ برتولد بريخت التي تتحدث عن الأم الحقيقية والأم التي ربّت، وأيهما أحق في الطفل، وسبق أيضا قبل المسلسل أن ناقش الروائي غسان كنفاني هذا الموضوع في روايته "عائد إلى حيفا" والصراع الفكري على خلدون الطفل الذي تركه أبواه وهاجرا تحت وقع كارثة النكبة عام 1948، ليعودا بعد تسعة عشر عاما (1967)؛ ليبحثا عن خلدون وإذا به يصبح جنديا في "جيش الاحتلال" ويصبح اسمه "دوف". فلم يعطهما الولد "دوف"عذرا في تركه رضيعا، ويرحلا، مهما كانت الظروف قاسية ومميتة. ولعل بريخت متأثر بقصة النبي سليمان عليه السلام في نزاع المرأتين حول طفل تدّعي كل منهما أنه ابنها، وعندما أراد أن يشق الطفل نصفين لم تقبل الأم الحقيقية بذلك، ورضيت أن يظل مع الأخرى مقابل أن يعيش. هل تأثر غسان ببريخت أم بقصة سيدنا سليمان، أم أنه كان يكتب قصصه من الواقع الذي حدث فعلا كما هو معروف عنه، فقد كان يلتقط أفكار رواياته الفكرية من عناوين الصحف كما هو الحال في رواية "رجال في الشمس" على سبيل المثال. وهل تأثرت منى الشمري كاتبة العمل بكل هذا الإرث الأدبي عندما كتبت القصة أم أنها عالجت قصة واقعية لها مثيل في الأدب الفلسطيني والعالمي وقصص الأنبياء دون أن يكون لها اطلاع على ذلك؟
بسبب قصة دلال وصراع الأختين على أحقية الأمومة، تموت قصة ضحى وحمد؛ إذ إنهما ابنان لا شرعيان، ومن خارج الكويت (مكان القصة)، ولكن لا تكفّ ضحى عن طرح السؤال بعصبية وقوة ولكن دون صراع مع طرف آخر غير الأم التي تبنتها. ونجد تصالح حمد مع الفكرة، منتميا لأمّه ولمشاريعها ومخططاتها، ويعرف كل أسرارها ويدافع عن شرها.
وبموازة قصة دلال تظهر قصة "غانم" الذي رباه سلمان زوج أمه رضيعا، وتكفّل به، وكان يعامله كأنه ابنه، فهو لم يعرف أباه إلا بعد "26" عاما. (هل كان الأمر مصادفة أن يتعرف الابن على أبيه في الحلقة 26 أيضا؟)، ويتخذ موقفا واضحا تجاه الأب البيولوجي فلم يعترف به، فهو ليس أباه، بل أبوه سلمان، فهو من رباه ورعاه، إذ لا معنى لوجوده في حياته بعد كل هذه السنوات من الإهمال والنسيان. القصة بأسئلتها الفلسفية الإنسانية العميقة، وواقعيتها المريرة تعيد طرح هذه القضية التي لها تجليات مختلفة، فمن هو الأحق بهؤلاء الأبناء؟ من ربّاهم أم من أنجبهم؟ وتعيد طرح مفهوم الأمومة والأبوّة والبنوّة.
لقد خلق المسلسل نوعا من التعاطف مني شخصيا مع "لطيفة" على الرغم من أنانيتها الواضحة وشرها متعدد الوجوه؛ مع أختها وزوجها وابنها الآخر المعاق عادل، ومع مدام وفاء أخت زوجها المتوفى التي حبستها في البيت وقهرتها بالأدوية، دون أن يكون هناك أدنى عذر لشريفة أو الأب البيولوجي لغانم، لم أجد لهما عذرا، دون أن يقلل ذلك من واقعية القصة ومدى الإقناع التي وصل للمشاهد عموما.
هل يمكن اعتبار ما شاع مؤخرا من إنجاب الأطفال بأمهات بديلات، لأزواج لا ينجبون أو لأزواج مثليين تجليا آخر لمسرحية "دائرة الطباشير القوقازية" ولرواية غسان كنفاني وتعيد التذكير بقصة النبي سليمان؟ إن هذا أمر واقع كذلك وله أسئلته الفلسفية والأخلاقية أيضا المتصل بلب هذه القضية.
وأخيرا أذكر بالمثل الفلسطيني الشائع: "أهلك اللي شروك مش أهلك إللي باعوك". هل يحل المثل الشعبي القضية ويحسم الصراع؟ لست متأكدا من ذلك، على كل حال، لم يتبق على انكشاف الحقيقة كاملة سوى أربع حلقات، ربما لن يكون هناك إضافة تذكر، في صلب القصة سوى امتداداتها الاجتماعية والأثر الذي خلفته على هؤلاء الأبناء المتبنين وعلى علاقتهم بمن حولهم من الأصدقاء الذين سيعرفون القصة، ويتخذون حيالها مواقف متباينة، كما أخذ يظهر ذلك في الحلقة السادسة والعشرين.
بقلم/ فراس حج محمد