مظاهر القهر في النكسة وسيريالية الديمقراطية العربية

بقلم: فايز رشيد

احتلال دولة الكيان الصهيوني لباقي فلسطين ولأراض عربية جديدة في نكسة عام 1967، هو قمة القهر والمأساة، خاصة بعد أن أُشْبِعت عقولنا يومها بحلم التحرير، بعد أن ملأ أحمد سعيد، رحمه الله، أسماعنا بجملة “تجوّعْ يا سمكْ” ما نقصده بمظاهر القهر قضايا كثيرة، منها: اهتزاز صورة الرئيس المرحوم عبدالناصر لدى الجماهير العربية. وما زاد الطين بلّة يومها، استقالته من منصبه وحسّن من الوضع قليلاً، عدوله عنها. في اليوم الثالث لحرب يونيو/حزيران، طرد المحتلون الصهاينة أهالي مدينتي قلقيلية، ومدينة طولكرم بنيّة مسحهما نهائيا.

ونحن سائرون مشيا في الجبال إلى مدينة نابلس، كان البعض يفتح الترانزستورات (الراديوات) على الإذاعة الإسرائيلية لمعرفة آخر الأخبار.

الأغنية الوحيدة التي كانت تبثها إسرائيل تلك الأيام، لعبدالحليم حافظ وهي، “سوّاح وأنا ماشي ليالي، سوّاح ولا داري بحالي”. بالطبع الأغنية كانت مقصودة لوصف مسيرة اللاجئين الفلسطينيين الجدد. بعد أسبوعين كان قرار الأمم المتحدة بإعادة أهالي المدينتين إليهما، عدنا إلى بيوتنا المهدومة، بعد أن سرق أهالي المستوطنات القريبة ما فيها من أثاث وأغراض، قبل تسويتها من قبل الجيش الغاصب بالأرض. وبدأنا البناء من جديد. من مظاهر القهر أيضاً، ما تكشّف بعد النكسة، من أن القيادات السياسية والعسكرية العربية للدول العربية المعنية، تبلّغت بموعد الهجوم الإسرائيلي بالساعة والدقيقة، وأن الجولة الأولى من الحرب كانت تستهدف الطائرات، لكن القيادات لم تفعل شيئا، ولم تأخذ احتياطاتها. وبالفعل كان كاتب هذه السطور، وكأنه يتجرّع السمّ وهو يقرأ صفحات كتاب الجاسوس الصهيوني باروخ نادل “وتحطمت الطائرات عند الفجر”، وبالفعل جرى تدمير الطائرات العربية على مدارجها. من مظاهر القهر أيضا، ما قيل وتردد من أنباء، أنه ليلة الخامس من يونيو (عشية بدء العدوان الصهيوني عام 1967) أن القيادة العسكرية المصرية كانت تحضر سهرة صاخبة بصحبة بعض الفنانات، واستمرت حتى ساعات الفجر الأولى. منها أيضا، ما ذكره الصحافي الهندي كارانجيا رئيس تحرير مجلة “بليتز” الهندية، صديق الرئيس عبدالناصر، الذي كان يجري معه مقابلات صحافية سنوية. كان ذلك في شهر نوفمبر/تشرين الثاني 1967 أجرى كارانجيا مقابلة مع موشيه ديان وزير الحرب الإسرائيلي آنذاك، سأله فيها، كيف استطاعت إسرائيل أن تكرر في حربها على العرب عام 1967، الخطة نفسها التي استعملتها في غزو مصر في العدوان الثلاثي عام 1956، بدون خوف من كشفها؟ أجاب ديان يومها: “ندرك تماما أن العرب لا يقرؤون، ولذلك كررنا الخطة ذاتها”، واستكمل الجملة بكلمات عنصرية بذيئة تنم عن الاستعلاء العنصري المقيت (التي يعرفها الجميع ـ وإن قرؤوا لا يفهمون، وإن فهموا لا يعملون).

مظاهر القهر في النكسة كثيرة، وهي بحاجة إلى مجلدّات، والقهر الأكبر أننا ما نزال نعيش نتائجها، لقد استعمل ضباط المخابرات الإسرائيليون في أقبية التحقيق، وإضافة إلى كلّ وسائل التعذيب الوحشي الجسدي (كهرباء، شبح، جلد، ضرب بالأيدي والعصيّ) وسائل الحرب النفسية، منها مثلا، ما يقوله المحقق للمعتقل: لقد هزمنا 13 دولة عربية، وتأتي أنت تريد هزيمتنا؟) طبعا المعتقل يردّ بكل العنفوان ويؤكد للضابط أنكم ستهزمون، بغض النظر ما سيلي ذلك من حملة تعذيب وحشية والمعتقل معصوب العينين، ومكبّل اليدين والقدمين. تحدثت عن مرحلة تلت النكسة مباشرة، أي بداية من أوائل عام 1968، ومرّ مثل المئات من أبناء جيله بالتجربة. في هذه المرحلة طوّرت إسرائيل وسائل تعذيبها للمعتقلين الفلسطينيين والعرب.

لو فكّر المحللون السياسيون لتلك المرحلة، بموضوع النصر والهزيمة جيّدا، لاعترفوا، بأن الأنظمة الديكتاتورية لن تحقق نصراً لشعوبها، ثم إن تلك الأنظمة بكل برامجها المنصبّة على قمع جماهيرها وتثبيت أنظمة حكمها، وقهر إنسانها وإيقاع كل أشكال الاضطهاد به، وتعذيبه بوسائل مختلفة، كلّ ذلك، على حساب عدم معرفة كل شؤون العدو، وعدم التوجه لمعرفتها من الأساس، حتى ما يمتلكه من أسلحة هذا في ظل انعدام إرادة القتال لديها (الأنظمة) من الأساس، من الصعب على هذه الأنظمة تحقيق النصر على إسرائيل، التي من السهل هزيمتها وقطع شمال فلسطين المحتلة عن جنوبها مسألة سهلة، فالمسافة من حدود قلقيلية، الداخلة في خاصرة فلسطين المحتلة 48، إلى بحرنا المتوسط 12 كم فقط وفي هضبة الجولان العربية السورية، لو توفرت خطة قتالية كاملة ومتكاملة، لتاه الجيش الصهيوني في تلك المرتفعات الشاهقة، التي يصعب تصوّر إمكانية احتلالها. أيضا، بوجود خطة قتالية عسكرية ذكية، كان من الممكن أن تجرف رمال صحراء سيناء كل جيش الاحتلال الذي دخلها، وتجعلهم هباءً منثوراً، وكل دباباته ومدرعاته. حرب 67 كانت انسحابات وملء فراغ أكثر منها قتالا اشتباكيا بين جيوش سوى في بعض المواقع المحدودة، التي أخذ فيها ضباط محليون وجنودهم الأشاوس قرارات على عاتقهم بالقتال حتى الاستشهاد، وفعلاً هذا ما حصل وقصص صمودهم الباسلة معروفة تماماً.

إذا كنّا قد مزجنا السيريالية بالديمقراطية العربية، فلأن كليهما يقع فوق الواقع الفعلي المحسوس. صحيح أن السيريالية تعبير ثقافي أساساً، لكنها تنطبق على السياسة في كثير من الجوانب (فالسياسة في جوهرها اقتصاد، وثقافة، وفن، ومحتوى وعلم وتكنولوجيا وبحث وخطة، ونهج حياتي، ومضمون جوهري وآليات، واستراتيجيا ومواقف متخذة). السياسة المبنية على الديمقراطية الحقيقية، هي استجابة الوعي للعقل الباطن، ولكن في عالمنا العربي، فإن التناقض قائم بين المحتوى الديمقراطي السليم المفترَض نهجاً، والأشكال الهشّة للديمقراطية المطبّقة في عالمنا العربي، الذي لكل بلد فيه، تجربته الخاصة، التي يعوزها النظام والمنطق والتطبيق الحقيقي، فالحاكم العربي فوق الدساتير والقوانين والمنطق. الإعلام العربي يصوّر حكّامه بأنهم السبب الرئيسي لازدهار الشعوب والمجتمعات العربية، وهم روّاد الخير، وأسباب تنفسنا للهواء، ومن دونهم لن نتنفسه، حتى الدولة، أخذت تلحَق بأسمائهم الشخصية، ولو تفحصت البند الأول في كلّ دستور عربي (هذا إن وجد)، فستجد أن الإنسان هو القيمة الأولى فيه، لكن شعوبنا تدرك تماما، كم هي رخيصة قيمة الإنسان العربي في البلدان العربية. في عالمنا العربي تجري قولبة القواعد الديمقراطية بالأشكال التي تشاؤها الحكومات، فنتائج الناجحين في المجالس التمثيلية للدولة معروفة مسبقاً، وهناك أجهزة خفيّة هي الحاكمة الفعلية للدول، والمحددة الرئيسية لحقوق الإنسان، الذي يظلّ رهينة لها ولقراراتها..

الديمقراطية الحقّة هي حكم الشعب للشعب. حكم يشارك فيه جميع المواطنين، يقترحون، يطورون، ويسنون القوانين الشاملة للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والثقافية، التي تمكّن المواطنين من الممارسة الحرة والمتساوية لتقرير المصير السياسي. ويطلق مصطلح الديمقراطية أحيانا على المعنى الضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطية، أو بمعنى أوسع لوصف ثقافة مجتمع، والديمقراطيّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميز يؤمن به ويسير عليه المجتمع، ويشير إلى ثقافةٍ سياسيّة وأخلاقية معيّنة، تتجلى فيها مفاهيم تتعلق بضرورة تداول السلطة سلميا وبصورة دورية. في دولنا العربية، فإن نسبة تأييد الحكّام في الانتخابات تبلع 99،99%. الحاكم يظل في الحكم حتى قيام انقلاب عليه، أو حتى يتوفاه الله. الحكومات العربية تتغنى بالديمقراطيات التي ترفل وتنعم بها شعوبها، ولولا بقية من خجل لأفتت بأنها وصلت إلى مجتمعات “الرفاه” تعالوْ لنرى. للعلم، تتبوأ منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، الحيز الأخير بين ترتيب مناطق العالم في مؤشر الديمقراطية، الذي تصدره وحدة “إيكونوميست إنتيليغنس” التابعة لمجلة “إيكونوميست” وغيرها الكثير من المؤسسات، إذ لم يختلف الرقم الذي حصلت عليه المنطقة في مؤشر عام 2018 عن ذاك الذي حققته عام 2017 وهو 3.54، وهو أضعف أرقام المناطق الجغرافية الواردة في التقرير، والذي جاءت على رأسه منطقة أمريكا الشمالية بمعدل 8.56. ويعود هذا التصنيف تحديداً لغلبة الدول المصنفة على أنها شمولية وسلطوية ديكتاتورية في المنطقة، ويطرح استمرار تراجع كلّ الدول العربية على هذا المؤشر عدة تساؤلات عن أسباب غياب الديمقراطية في هذه المنطقة، وهذه لها أسبابها، التي هي بحاجة إلى مجلّد لاستعراضها. للعلم أيضا، وفقا لتقارير ومحددات البنك الدولي، يوصف بالفقر كل من عاش بأقل من 3.20 دولار في اليوم في البلدان متوسطة الدخل. أما صفة الفقر المدقع، فتقع على من يعيش على أقل من 1.90 دولار للفرد في اليوم. لقد شهدت منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا زيادة في عدد من يعيشون على أقل من 1.90 دولار للفرد في اليوم، في اليمن، يصل عدد السكان الواقعين تحت خط الفقر المحلي إلى 12.8 مليون بنسبة تصل إلى 48.6% من إجمالي عدد السكان. في مصر، يصل عدد السكان القابعين تحت خط الفقر المحلي إلى 26.1 مليون نسمة. في العراق تصل نسبة السكان القابعين تحت خط الفقر المحلي إلى 18.9% من إجمالي عدد السكان. في الأردن، تصل نسبة السكان القابعين تحت خط الفقر المحلي إلى 14.4%. في المغرب، تصل نسبة السكان القابعين تحت خط الفقر المحلي إلى 4.8%. تمتلك السعودية الغنية بالنفط احتياطيات من النقد الأجنبي تتجاوز 500 مليار دولار، هي الأضخم في المنطقة العربية، وتعد أكبر مصدر للنفط في العالم، إلا أن نسبة الفقر فيها تبلغ 20% ونسبة البطالة 12.8% وفقاً لبيانات إحصائية دولية. أما معدلات البطالة فهي: اليمن 60%، ليبيا 19.2%، الأردن 18%، عمان 17.5%. تونس 15.3%. العراق 14%. السودان 13.3%. الجزائر 10.7%. مصر 10.6% الإمارات 2.7%. هذا ما تنتجه الديمقراطيات العربية العتيدة.

فايز رشيد

*كاتب فلسطيني