رفض الشعب المصرى الهزيمة ومعه كل الشعوب العربية، وقرروا مواصلة القتل. وظلوا على العهد على امتداد ست سنوات. ولكن بعد حرب 1973 ورغم ما تحقق فيها من نصر، قررت القيادة السياسية فى مصر، ويا للعجب، قبول شروط العدو للانسحاب من سيناء، التى رفضها المصريون عام 1967 فقامت بالانسحاب من الصراع ضد (اسرائيل) والاعتراف بشرعية دولتها الباطلة وتسليم مصر على طبق من ذهب الى الولايات المتحدة الامريكية. حينها فقط استطاع الامريكان والصهاينة ان يحصدوا نتاج عدوانهم فى 1967، ولا يزالوا يحصدون فيه حتى اليوم.
***
فما زلنا ومنذ 52 عاما نسدد فواتير استرداد سيناء وازالة آثار عدوان 1967:
· كانت الفاتورة الاولى بعد العدوان مباشرة، عندما قبلنا قرار مجلس الامن رقم 242، الذى مهد الطريق لاعتراف السادات بحق (اسرائيل) فى الوجود فى حدود ما قبل 5 يونيو. وهو الاعتراف الذى توالت بعده التنازلات والاعترافات العربية: منظمة التحرير فى 1993 والاردن فى 1994 وجامعة الدول العربية فى 2002 وهكذا.
· وكانت الفاتورة الثانية فى 18 يناير 1974، فى مفاوضات فض الاشتباك الأول، عندما قبلنا سحب معظم قواتنا التى عبرت فى 6 اكتوبر، واعادتها مرة اخرى الى غرب القناة مقابل انسحاب القوات (الاسرائيلية) التى قامت بثغرة الدفرسوار الى سيناء شرق القناة.
· وكانت الفاتورة الثالثة هى قبولنا بدخول مراقبين امريكيين لاول مرة الى سيناء بموجب اتفاقية فض الاشتباك الثانى الموقعة فى اول سبتمبر 1975.
· وكانت الفاتورة الرابعة هى قبولنا بتوقيع اتفاقية سلام بالاكراه مع (اسرائيل) تتضمن تطبيعا بالاكراه وقيودا وشروطا كثيرة تنتقص من سيادتنا وتخضع اراداتنا وتجردنا من استقلالية قرارنا الوطنى.
· وكانت الفاتورة الخامسة هى قبولنا بنزع سلاح ثلثى سيناء بموجب الترتيبات الامنية الواردة فى اتفاقية السلام المصرية الاسرائيلية الموقعة 1979، وقبولنا بوجود قوات اجنبية لمراقبتنا فى سيناء، تسمى قوات متعددة الجنسية، لا تخضع للامم المتحدة، بل تخضع لقيادة مدنية امريكية. 40% منها قوات امريكية، وباقى القوات من حلفائها.
· وكانت الفاتورة السادسة هى تنازلنا للعدو الصهيونى عن 78 % من فلسطين بموجب اعترافنا بشرعية دولة (اسرائيل) وحقها فى الوجود على ارض فلسطين المغتصبة منذ 1948.
· وكانت الفاتورة السابعة هى الاختلال الهائل فى ميزان القوى بعد انسحابنا من التحالف العربى ضد العدو الصهيونى، لنتركه ينفرد بباقى الاقطار العربية، ويعيد ترتيب المنطقة ويعربد فيها كما يريد.
· وكانت الفاتورة الثامنة هى خضوعنا الكامل للولايات المتحدة، واعطاءها 99 % من اوراق ادارة الصراع، وإدخالها مصر من اوسع ابوابها، واعادة صياغة النظام المصرى عسكريا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا على مقاس الاجندة الامريكية.
· وكانت الفاتورة التاسعة هى ما سبق ان ادلى به الدكتور مصطفى الفقى عام 2009 من ان رئيس مصر يجب ان توافق عليه الولايات المتحدة وترضى عنه (اسرائيل).
· وكانت الفاتورة العاشرة هى الدور المصرى فى الضغط على منظمة التحرير الفلسطينية لاجبارها على التنازل عن فلسطين والاعتراف باسرائيل، وذلك بعد العدوان الصهيونى على لبنان عام 1982 وما ترتب عليه من اخراج القوات الفلسطينية الى المنفى، ثم استدراجها الى توقيع اتفاقيات اوسلو عام 1993.
· وكانت الفاتورة الحادية عشر هى قيادة مصر لعملية تعريب التسوية فى المنطقة، والصلح مع (اسرائيل) والاعتراف بها والتطبيع معها، والذى تم تتويجه بمبادرة السلام العربية فى عام 2002.
· وكانت الفاتورة الثانية عشر هى اعطاء الشرعية للوجود الامريكى العسكرى فى الخليج العربى عام 1991، بمشاركتنا بقوات مصرية مع قوات ما سمى حينذاك بالتحالف الدولى.
· وكانت الفاتورة الثالثة عشر هى تقديم تسهيلات لوجيستية للامريكان فى قناة السويس وفى المجال الجوى المصرى دعمتهم كثيرا فى عدوانهم على العراق 2003/2014.
· وكانت الفاتورة الرابعة عشر هي الصمت المبين على الابتلاع الصهيونى اليومى لمزيد من الاراضى الفلسطينية وللجولان وبناء مزيد من المستوطنات وتهويد القدس والتحرش اليومى بالمسجد الاقصى.
· وكانت الفاتورة الخامسة عشر هي المشاركة في حصار غزة، بإغلاق معبر رفح، لإخضاع إرادة المقاومة وإرغامها على الدخول فى عملية التسوية والاعتراف باسرائيل والتنازل عن فلسطين والقاء سلاحها.
· وكانت الفاتورة السادسة عشر هى العمل على امتداد 40 عاما، على مطاردة وتصفية كل القوى الوطنية المصرية المعادية لإسرائيل وأمريكا، والداعمة لفلسطين.
· وكانت الفاتورة السابعة عشر هى الحماية الامريكية والدولية للنظام المصرى ضد الاجماع الشعبى والوطنى، من حيث أنه حامى " السلام والاستقرار فى الشرق الاوسط ". وهو الاسم الحركى "لأمن اسرائيل".
· وكانت الفاتورة الثامنة عشر هى العجز الرسمى المصرى عن الاعتراض او الرفض او التصدى لكل المشروعات الامريكية الصهيونية الهادفة الى تصفية ما تبقى من القضية الفلسطينية مثلما يجرى اليوم على قدم وساق فيما يسمى بصفقة القرن.
· وليست هذه هى كل الفواتير التى قمنا بسدادها ولا نزال، فالقائمة تطول.
***
· وبالطبع لم تكن مصر الرسمية وحدها فى هذا الانحياز والالتزام الكامل بتعليمات الخواجة الامريكى، بل كانت معها كتفا بكتف وبدرجات متفاوتة، عديد من الانظمة العربية، على رأسها السعودية ودول الخليج التى تهرول اليوم للتطبيع والتحالف مع (اسرائيل).
***
· لم تنكر الإدارات المصرية المتعاقبة ابدا هذه التوجهات والسياسات، بل هى تمارسها فى السر والعلن، مبررة مواقفها على الدوام بانها انما تقوم بذلك حماية للامن القومى المصرى، حيث انها لا ترغب فى التورط مرة اخرى فى حروب لا تعنيها ولا تخصها قد تفقدها سيناء مرة اخرى، وتعرضها لعقوبات وغضب لا قبل لها به من امريكا ومجتمعها الدولى. وأنها لا تستطيع ان تواجه امريكا كقوة العظمى، وليس امامها الا التحالف معها والانحياز لمشروعها والسير فى ركابها.
· وهو كلام باطل يراد به باطل؛
فلقد كان بمقدورنا ان نسترد سيناء بمواصلة القتال بعد 1973 بلا فواتير أو تنازلات، وكان بمقدورنا ان نقود ونطور وندعم خط المقاومة العربية إلى أن نحقق التحرير والاستقلال الكامل كما فعلت كل الأمم والشعوب المحترمة.
ولكن استردادنا لسيناء عن طريق الصلح مع العدو الصهيونى وتحت رعاية العدو الامريكى، كان له أثمانٌ فادحةٌ وفواتيرٌ لا تنتهي.
ويا ليتنا استرددناها كاملة، بل عادت الينا مقيدة التسليح مجروحة السيادة.
وكما قال شيوخنا منذ 40 عاما، لقد أخذنا نحن سيناء، واخذوا هم مصر كلها.
***
ولكن فى النهاية لابد من التأكيد على أنه مهما كان وقع الهزائم وقسوة اهدار الانتصارات وجسامة العواقب، فان الفصل الأخير فى صراعنا مع هذا المشروع الامريكى الصهيونى لم يكتب بعد.
*****
محمد سيف الدولة
القاهرة فى 8 يونيو 2019