الحداثة لها ارهاصات متنوعة ومتشعبة يراها المراقب ويعيشها الانسان في مجالات عديدة بالحياة. الحداثة بمفهومها الاجتماعي اوسع بكثير من انتاج المعرفة والنقلة التكنولوجيه بالصناعة والحياة اليوميه. ألحداثه أيضاً نمط حياة بكل جوانبها، الإيجابية والسلبية… هي نوعية العلاقة بين الأفراد وآلية العلاقة المتبادله بين الفرد والمجتمع والعكس أيضاً، وهي بالبداية علاقة الدولة بالفرد وعلاقة الدولة بالمجتمع وقدرة الدولة على تنظيم هذه العلاقة وتنظيم احترام قواعدها من اعلى إلى أسفل ومن أسفل إلى اعلى.
احترام الحيز الخاص للفرد من قبل محيطة الاجتماعي المكون من أفراد، هو عمود فقري أساسي لبداية سليمة للحداثة الاجتماعية… تضييق الحيز الخاص للفرد من قبل المجتمع أو الدولة هو تعبير صارخ لانعدام الحداثه… وانعدام التزام الفرد بالقيم الاجتماعية الأخلاقية للمجتمع وقلة احترامه لسلطة الدولة وقوانينها هو أيضاً دليل واضح لشحاحة الحداثة في هذا المجتمع .
بهذا نكون أمام معادلة بسيطة لانتقال المجتمعات من الهمجية الاجتماعية إلى الحداثة، معادله بمكون أساسي يرتكز على الاحترام المتبادل في كل الاتجاهات … احترام الفرد للفرد واحترام الفرد للمجتمع وركائزه واحترام الدولة وثوابتها من قبل المجتمع وأفراده وبالعكس أيضاً.
في مجتمعاتنا الشرقية نراقب قلة الاحترام في كل المجالات وهي بتزايد مستمر. الكل يعيش يومه وواقعه رهينه لإرهاصات قلة الاحترام بجوانبها المختلفة على واقعه اليومي.
استراتيجية أخذ الآخر، أفراد وجماعات، كرهينة هي الاستراتيجية الشائعة… واستعمال هذه الاستراتيجية من قبل الأفراد يأتي عادة بمحض الصدفة وليس عن قناعات راسخة وتخطيط مسبق …والاستعمال يتراكم مع الزمن وفي احيان كثيرة تستقل العفوية بالاستعمال وتصبح "عادة طبيعية" يأخذ بها الجميع .
بعكس ذلك تقوم مجموعات اجتماعية واجتماعية سياسيه باستعمال استراتيجية الرهينة عن قصد ومعرفة تامتين لاهداف الاستعمال وتأثيرها، وعادة تكون لترويض الإطار الاجتماعي المحيط بها ليأخذ بأجندتها وتصبح هذه الأجندة مسلمات وجزء من المنظومة الحضارية المزورة للمجتمع، مع ان اكثرية ساحقة من المجتمع تبغضها وترفضها.
ارهاصات استراتيجية أخذ الآخر كرهينة متعددة وهي بديناميكية مستمرة وبتجدد مستمر … لهذا اكتفي في هذه المقالة القصيرة بالإشارة إلى بعض هذه الإرهاصات تارك للقارئ إمكانية مراقبة محيطة ورصد ارهاصات هذه الاستراتيجية في حيزه الاجتماعي :
الحركات الإسلامية بأنواعها وتشعباتها المختلفة هي اكثر من يستعمل استراتيجية الرهينة وللأسف بنجاح باهر … بدأوا باللباس، المسمى زيفاً لباساً دينياً وأسقطوه على المجتمع، الذي بفطرته أصلاً لا يميل إلى معارضة الدين، واستغلوا هذه الفطرة لأخذ المجتمع رهينة لأجندتهم التي تهدف إلى محي الوطنيه والقومية وترسيخ الانتماء الطائفي في مجالات الحياة ومظاهرها. وها نحن الان في عموم الشرق نراقب سطو مبرمج على الحيز الشخصي للأفراد وتدخل سافر مدروس من قبل هذه المجموعات ومن قبل بعد الأنظمة التي تبنت استراتيجيتهم في الشأن الخاص للمواطن وقراره الفردي الخاص.
لم تقتصر استراتيجية أخذ المجتمع والأفراد رهينه لأجندة الأسلمة، التي تتعارض باغلبيتها الساحقة مع كتاب الله ومحتواه، على المظهر الخارجي للأفراد بل انتقلت إلى ما هو اكبر وأصبح بث خطبة الجمعة وصلاة التراويح والشعائر الأخرى عبر المايكرافونات بالجوامع امر طبيعي… وأصبحت تأخذ كل أفراد المجتمع، من اتباع الطوائف الأخرى وهؤلاء الذين يعتبرون الإيمان شأن خاص بين الخالق والمخلوق، رهينة لساعات يضطر الفرد لسماع خزعبلات هؤلاء وبث سموم الطائفية والتعصب الأعمى بالمجتمع… ناهيك عن التنافس برفع الصوت بين الجوامع في الحي أو القرية وبين شيوخ الفتنة المتواجدون هناك. هذا التصرف الاستعماري للعقل والحيز العام استغله البعض للمناداة بمنع رفع الأذان من الجوامع وهذا المطلب بحد ذاته أيضاً أخذ المجتمع رهينه لأجندة بعض المجموعات المعادية للإرث الحضاري… رفع الأذان من الجوامع وقرع الأجراس بالكنائس جزء من إرثنا الحضاري بالشرق نعتز ونفتخر به ولا علاقة له بالصراخ في خطبة الجمعة والتي تعني فقط المتواجدين بالجامع.
وذهبت حركات التكفير المسمى زيفاً الحركات الإسلامية وحركات الدعوة إلخ … إلى اغتصاب الحيز العام بزرع لافتات على الشوارع وفي الأماكن العامة تحمل خزعبلات الفقه التزويري من دعاء السفر وشعارات دينيه أخرى تملأ الشوارع وتأخذ الجميع رهينة.
انتقل هذا ألداء الفتاك باللحمة الاجتماعية إلى تزوير العادات والتقاليد التي كنا على مدار اجيال نعتز ونفتخر بها كاحترام الجار واحترام الضيف والمحافظة على الحيز العام. وأصبح أفراد يأخذون أفراد اخرين، ضيوف وأصدقاء وأهل بلد، رهينة لمشاعرهم الانيه الخاصة… من فرحٍ وطرحٍ ووجعٍ ومرضٍ … فها أنت ترى كيف يقوم أهل الفرح باغلاق الشوارع العامة والساحات للاحتفال بعريسهم ودوي الموسيقى يصدح أيام بلياليها غير مهتمون بالمرضى وكبار السن والأطفال والعمال والطلاب من جيرانهم الذين يحتاجون إلى الراحة والهدوء… وانتقلنا من احترام الجار إلى أخذ الجار رهينة لمشاعرنا…
كنا نذهب للاطمئنان عن المريض وعن سلامته لنخفف عنه المه ووجعه ومواساته ومحاولة أخذ فكره،ولو لفترة صغيرة، بعيداً عن الأوجاع والمرض والبؤس الناتج عنهم… اليوم تذهب لزيارة مريض فينهال عليك أهل المريض والمريض نفسه بتفاصيل التفاصيل حول مرضه وعلاجه وعمليته الجراحية وادويته وكلام الطبيب وتصوره للمرض وتبقى ساعة من الزمن أو اكثر رهينه لمشاعره …وبدل ان تواسيه وتخفف عنه ألمه تخرج أنت بإحباط وخوف…
تذهب اليوم لمواساة أهل فقيد بمصابهم فتجبر على سماع خزعبلات شيوخ الفتنة المتواجدون هناك وصوتهم يدوي بالمايكروفون حول عذاب القبور ومخافة الله … هم يأخذون أهل الفقيد وضيوفهم رهائن لفكرهم العقيم وتراهم يتصرفون كاهل البيت ناسين بانهم ضيوف وعليهم احترام أهل البيت واحترام أنفسهم كضيوف … لم يعد لاحترام الضيف مكان في اجواء استراتيجية الرهينة التي أصبحت جزء من حياتنا اليوميه بالشرق… جزء أساسي لتزوير تراثنا وعاداتنا وارثنا الحضاري.
اليوم أصبحنا بالشرق بعيدون كل البعد عن ان نكون نحن كما كنا وكما اردنا ان نكون… أصبحنا اشباح من ماضينا وتسومبي حاضرنا… أصبحنا ممثلون بائسون في مسرحية الحياة التي نكتب حلقاتها بالتقليد الأعمى والركض وراء السراب والاستسلام كرهينه لا حولة لها ولا قوة!
افيقوا أفراد وجماعات … واخرجوا من هذه المسرحية … افعلوها ؛ ان لم يكن احترام لانفسكم ولتراثكم فاحتراماً لمستقبل أطفالكم وبلدكم… ذكر ان نفعت الذكرى !
الجليل 12/6/2019
بقلم/ رائف حسين