مستقبل القضية الفلسطينية في ظل المتغيرات الاقليمية

بقلم: عودة عابد

يُجمع المتابعون على أن القضية الفلسطينية تتأثر سلباً وتتراجع بسبب ما يعصف بالمنطقة من متغيرات. وأن شكل الدولة العربية ما بعد الاستعمار، لم يخدم القضية الفلسطينية، على الرغم من دعم الشعوب للقضية الفلسطينية ووقوف الأنظمة إلى جانب دعم الموقف الفلسطيني في معظم الأحيان، وتقديم المساعدات للفلسطينيين.
وأن هناك عدة أسباب وراء ذلك، من أبرزها المؤامرات التي تحاك من أطراف متعددة، على رأسها إسرائيل وقوى الاستعمار القديم والجديد؛ والتي سعت إلى تدمير الدولة وتقسيم البلدان وحرف الصراع وكأنه صراع ديني بين المسلمين والمسيحيين ومذهبي بين السنة والشيعة والأقليات.
تراجع مكانة القضية: أدت الأحداث والمتغيرات المتلاحقة بالمنطقة، منذ زهاء الأربعة أعوام تقريباً، إلى تراجع القضية الفلسطينية عن صدارة الاهتمام في المشهد الإقليمي العربي، بينما منحت الكيان الإسرائيلي فرصة كافية لتعميق الخلل القائم في الأراضي المحتلة لمصلحته.
وإذا ما استمرت سياسة الاحتلال في سلب الأرض والعدوان، وسط الانشغالات العربية عن القضية، واستمرار الانقسام الفلسطيني، والانحياز الأمريكي المفتوح للكيان الصهيوني، فلن يبقى من المساحة المخصصة لإقامة الدولة الفلسطينية المنشودة شيء.
ولا شك بأن الأحداث الجارية بالمنطقة تحتل أولوية الاهتمام في الأجندة الإقليمية والدولية, فالأحداث والمتغيرات الجارية في المنطقة تلقي بظلالها السلبية على القضية الفلسطينية، مثلما تقود انشغالات دولها الداخلية إلى صرف الاهتمام عنها، أسوّة بما يحدث حالياً مع الأزمة اليمنية. فالأنظمة العربية المهمّومة اليوم بقضاياها وإشكالاتها الداخلية، تريد التخلص من "ثقل" القضية الفلسطينية عن كاهلها، تحت عنوان ما يريده الفلسطينيون فنحن موافقون عليه.
فالانقسام الفلسطيني القائم حتى اليوم، يؤثر سلباً، أيضاً، فيما ما زالت الأوهام تشغل ذهن القيادة الفلسطينية بإمكانية الذهاب مجدداً إلى المفاوضات، بوصفها خياراً وحيداً، أن كل تلك العناصر المتداخلة لن تقرّب الشعب الفلسطيني من حقوقه المشروعة.
فكلما تم الاقتراب من تحقيق المصالحة وإعادة الحوار الوطني إلى المشهد الفلسطيني، تطلّ أطراف معرقلة، من حركتي "فتح" و"حماس"، في ظل غياب الإرادة السياسية الحقيقية عند طرفي الانقسام..
إن الاحتلال الإسرائيلي هو المستفيد الأكبرمن متغيرات المنطقة، عبر الاستمرار في نمط عدوانه الثابت ضد الشعب الفلسطيني، متحرراً من ضغط المسائلة العربية والدولية، بمواصلة الاستيطان والتهويد والقتل والاعتقال، وحصارغـزة، وسط عملية إعادة الإعمار المشلولة، وادخال الاموال المشروطة لغزة مقابل الهدوء على الحدود من قبل حماس واتباعها، فحتى مفاوضات التهدئة بين اسرائيل وحماس ظلت ترواح مكانها بين الفشل والنجاح؟ الا أن الواضح هو الفشل واسبابه عديدة..
وهنا لا بد من التأكيد بأن لا صحة لشعار "على الرغم من تعثر المصالحة سنواصل الإعمار"!!. وحتى لا يتكرر النموذج البائس لنتائج مؤتمر شرم الشيخ عام 2009 وبعد حرب غزة، حيث تبخرت 4.7 مليار دولار خصصت لإعمار غزة تحت ذريعة الانقسام. كما أن نموذج المقاومة المتألق وتضحيات شعبنا الهائلة في حرب 2014 لم يتحول إلى انجازات وطنية هو مثال آخر على الخسائر الفادحة لشعبنا جراء الانقسام المدمر. فلا إعمار بدون إنهاء الانقسام، بل لا أفق وطنياً دون استعادة الوحدة الوطنية.
إن معالجة المسائل المباشرة لقطاع غزة، تتطلب حضوراً مباشراً لحكومة التوافق الوطني واضطلاعها بكامل مسؤولياتها ومهما كانت الملاحظات على دورها أو التعطيل المتعمد لأعمالها. ولمجابهة العدوان الإسرائيلي المتواصل والتهديد بتصعيده على قطاع غزة، علينا الشروع باستراتيجية وطنية موحدة بمرجعية سياسية واحدة بيدها قرار الحرب والسلم.
وفي ظل كل هذا التراجع في الاهتمام العربي بالقضية الفلسطينية، فقد استمرت إسرائيل في بناء المستوطنات ومصادرة الأراضي الفلسطينية لبناء وحدات سكنية عليها للمستوطنيين، واستمرت في بناء جدار الضم والتوسع، وتهويد القدس، وهدم المنازل، الذي شهد ارتفاعاً ملحوظاً في الآونة الأخيرة، حسب تقارير مؤسسات الأمم المتحدة، ومنظمات حقوق الإنسان المحلية والدولية. ويبرهن الاحتلال اليوم للعالم بأسره أنه مستمر في سلوكه العسكري ذاته، ضاربا عرض الحائط بكافة القواعد والأحكام الملزمة لها في القانون الدولي الإنساني. وهو يؤكد أن آلته العسكرية لـن ترحـم أحـداً، وبالفعل لم تسلم أي من الفئات والممتلكات المحمية في الحروب (أطفال، نساء، شيوخ، أطقم طبية، أطقم صحفية، رجال شرطة مدنية، منازل ومقار حكومية مدنية،...الخ) من قبضة هذه الآلة المتغطرسة.
وهكذا فإن أسباباً عديدة محلية وإقليمية ودولية أدّت إلى تراجع صدارة القضية الفلسطينية عن دائرة الاهتمام الأولى، بالمقابل هناك شبه غياب دولي عن كافة التعديات الإسرائيلية، حيث يتحرر الاحتلال شيئاً فشيئاً من ضغط المساءلة: في ما يتعلق بخطواته الاستيطانية المتسارعة، وتهويد القدس، والاستيلاء على الأراضي الفلسطينية التي يجري قضمها في كافة المناطق المحتلة: منطقة عام 1948 فقد جرت مصادرة أراضٍ في النقب، وفي منطقة عام 1967 إذ يجري حالياً إلقاء القبض على مناطق شاسعة في غور الأردن. على صعيد آخر، “إسرائيل” تفرض وقائع على الأرض ستصبح بعد فترة(حقائق) لا يجوز النقاش حولها، والحصيلة تآكل متدرج للحقوق الوطنية الفلسطينية، وقتل حلم حل الدولتين بالنسبة للفلسطينيين نتيجة التغيرات الجغرافية على الأرض، لذا على القيادة الفلسطينية ان تدرك جيدا بأن المحتل غاشم وقوى وتسانده قوى عظمى بالمنطقة، وان الجانب الفلسطينى لا تسانده قوى تساوى نصف ما تساند اسرائيل...

مستقبل القضية في ظل المتغيرات:
إن مصير القضية الفلسطينية رهين طي صفحة العنصرية الصهيونية الاستئصالية، وعودة الشعب الفلسطيني إلى ممارسة وجوده المجتمعي على أرضه بكل أبعاد هذا الوجود المعنوية والمادية.. إنه المصير الصحيح لمشكلة تقتضي حلاً ناجزاً تتوفر عناصر تحققه في الواقع المعاش. والقضية الفلسطينية في جوهرها حركة تحرر وطني (للأرض من الاحتلال الاستيطاني، وللبشر والتراث من الطغيان الإحلالي؛ إحلالاً للصهاينة مكان العرب في فلسطين، وإحلالاً لمعالم ثقافية غريبة ومصطنعة محل ثقافة فلسطين العربية الإسلامية فيها). لكل هذا علينا أن ننظر ونكشف مكمن الوهن في ما يتوهم بشأن استعصاء قضية فلسطين على الحل حلا منصفاً يرسي أساساً للسلم الإنساني قائماً على الحق وشرعيته التاريخية، وليس الحل حل تسوية تكرس الاستقرار المصطنع القائم على الطغيان الإقصائي. إن ما يبدو من استعصاء على الحل هو في حقيقته عجز واضطراب في التدبير وليس في توفر عناصر تحقيق الحل في الواقع الموضوعي.

إن الركيزة الأساس لتحقيق الغايات الوطنية التحررية إنما تكمن في إدارة التحررالتي لا تقبل أبداً بالمساومة على الحقوق الجماعية والوطنية. ولقد بذل الفلسطينيون من أرواحهم ودمائهم وعرقهم ووجدانهم وما زالوا يبذلون، ما لا يدع مجالاً للشك في تجذر إرادتهم التحررية في نفوسهم، ناهيك بمجاهدتهم النضالية التي تسم تقاليدهم وسلوكهم منذ أن نُكبوا بالمشروع الصهيوني: لذلك يتوجب تجديد أساليب النضال الوطني التحرري الفلسطيني لأن أسلوبنا في النضال ما زال قاصراً على المفاوضات السياسية فقط، لذا يجب علينا أخذ نموذج جنوب افريقيا بمقاومتها الشعبية والسياسية نموذجا يمثل الديمقراطية الحقيقية ونبذ العنصرية وان لا نتشبط بحل سياسي واحد يركز على اقامة دولتين ، بل يجب ان تكون سياستنا متغيرة كما هناك متغيرات اقليمية ودولية بمعنى ان لا نركز على سياسة واحدة لا تقبل التبديل والتغيير ، واعتقد بانه الصواب جنوب افريقيا كانت ذكية بسياستها ومطالبها اتجاه الطرف العنصرى الاخر، فلماذا لا نفعل كما فعل الافارقة الاذكياء وان نقبل بدولة واحدة يسودها الديمقراطية والمساواة والعدل ؟ لان الارض والمتغيرات الديمغرافية تجبر المفاوض الفلسطينى والاسرائيلى على تطبيق ذلك..
إن البعد الأخلاقي لقضية فلسطين يلزم كل الاحزاب والتنظيمات الفلسطينية الهدامة على نصرة القدس وفلسطين وأن تستهدف فضح الممارسات الصهيونية بأبعادها العنصرية والإقصائية، وتجريم هذه الممارسات على الصعيد الدولي سياسياً وقانونياً، ليتحقق في خاتمة المطاف اقامة دولة واحدة ثنائية القومية يعيش عليها الشعب الفلسطينى والاسرائيلى بسلام ومحبة واستقرار.. وبغير هذا لا يستقيم تحرير فلسطين بقدسها من التهويد ، وتمكينها ثانيةً من التعبير عن هويتها المجتمعية العربية والاسرائيلية، وعن ذاتها الحضارية الإسلامية اسوة بالديانات السماوية الاخرى الموجودة بنفس المكان واحترام كل الشعائر الدينية سواء الاسلامية او المسيحية او اليهودية.
من كل ما سبق ذكره نخلص إلى القول:
1- إن مسار التسوية قد وصل إلى طريق مسدود، وما يحدث لا يتعدى المراوحة بالمكان, وهذا سيؤدي عاجلا أم آجلا إلى انفجار الوضع سواء كان ذلك على شكل هبات أم انتفاضة شعبيه كاملة.
2- إن مشروع المصالحة بدورة قد وصل إلى نهاياته, لا يمكن تحقيق مصالحة إلا ضمن اتفاق على البرنامج السياسي, وكل ما يحدث لا يتعدى محاولة فاشلة لإدارة الانقسام. بل أن هذا المشروع قد دخل في تعقيدات عربية وإقليمية تنذر بالخطر الشديد على قطاع غزة وفلسطين بأكملها.
3- إن ما يحدث بالإقليم سيترك أثره بلا شك على مسار القضية الفلسطينية وسيتيح المجال لاصطفافات وتحالفات جديدة وموازين قوى مختلفة.
4- إن واجب الفلسطينيين يحتم عليهم إبقاء جذوة قضيتهم مشتعلة, وعدم انتظار حدوث متغيرات في الوضع الإقليمي لكي يتبينوا موقع خطوتهم القادمة, وهذا يستدعي منهم استمرار المقاومة بكل أشكالها المتاحة, وعدم السماح للاسرائيليين بالتقاط الأنفاس أو الاستفادة من الظروف الإقليمية لتصفية القضية الفلسطينية بل انقاذ الموقف عبر المطالبة بدولة ديمقراطية واحدة.
5- أن نحقق قيام دولة فلسطينية واحدة على أراضي 1967م في ظل سياق المفاوضات وسقف التسوية الحالي قد أصبح مستحيلا, لكن يمكن اقامة دولة فلسطينية اسرائيلية واحدة عبر المقاومة الشعبية في الضفة وغزة وباقى مناطق فلسطين والحفاظ على سلمية المقاومة والاستعداد للمواجه وتشكيل إدارة وطنية موحدة لكل الفلسطينيين. أي عبر اللجوء إلى برنامج نضالي مختلف كلياً عن ما هو سائد حالياً.
6- أغلب الظن أن المرحلة القادمة ستكون مرحلة عابرة للفصائل, و أن ثمة مخاضا فلسطينيا جديدا لابد وأن يتشكل بعد أن وصلت كل المحاولات لتحقيق تسوية إلى نهاياتها, وبدأت تجربة السلطة الوطنية تعاني من فشل ذريع لا اعتقد أنها ستكون قابله للاستمرار في مرحلة ما بعد الرئيس "محمود عباس" أن لم يكن قبل ذلك, مما يطرح تحديات أخرى جديدة لا حل لها إلا عبر بناء جبهة وطنية متحدة تكون ساحتها كل فلسطين وتكون على اساس تعايش سلمى بدولة واحدة.
7- ويبدو أن على الشتات الفلسطيني أن يتحمل مسؤوليات جديدة تحث على اقامة دولة فلسطينية اسرائيلية واحدة يعيش عليها الشعبان بسلام وامن واستقرار انسجاما مع المتغيرات الاقليمية والدولية والديمغرافية التى يجب ان نسلم بها على ارض الواقع ، فهذا ليس استسلام للواقع الجديد، بل انقاذ لما اضاعته القيادات الفلسطينية السابقة والحالية، وما تبقى من القضية الفلسطينية ومن مراحل تصفوية قادمة ومؤامرات اقليمية دولية نحو الشعب الفلسطينى بالداخل والخارج.
اعداد الباحث: د.عــودة عابـــد..