ما حدث في بلدة دير قديس غرب رام الله ,وما سبقه في الإفطارات الرمضانية مع الصهاينة, هو نتاج طبيعي لمسار سياسي عبثي , أهان القضية الوطنية وساهم في تشويه النضال الفلسطيني, وتُشكل هذه الحادثة إحدى مخرجات المنظومة الحاكمة بقبضة التنسيق الأمني المقدس في الضفة المحتلة , فلا يمكن لأي سلطة وطنية شريفة أن تسمح بهذا الإختراق للجبهة الداخلية , فكيف لها أن تردع المواطن عن فعل هي تأتيه وتباهي به , بل شكلت له لجان متخصصة تنفق عليها الأموال الطائلة من أجل التواصل مع المجتمع الصهيوني , والمهمة المزعومة لهذه اللجان أن تنال من المستوطن السارق عطفاً وإعترافا بالحق في العيش على أرضنا المحتلة أو إقامة دويلة على ما تبقى من أرض فلسطين .
الحرب على الوعي الوطني الفلسطيني، تتكشف فصولها الخفية ، في حفل زفاف إبن رئيس البلدية ، قد يكون رئيس البلدية دير قديس صادق في نفيه وعدم علمه بالمستوطنين الحاضرين عرس نجله ، ولكن الخيبة في الجمهرة الراقصة ، والتي شاركت المستوطنين البارزة ملامحهم وهويتهم المتطرفة ، أليس الشعب بمجموعه سياجا من الإختراق وسدا منيعا من الهجمة المعادية ، لماذا لم يبرز في ذات المكان الرفض الشعبي لهذا السقوط المدوي ؟ ، لماذا لم يغضب أي من الحاضرين على هذا السلوك المخزي، لم يكونوا حديثي عهد بنار الصهاينة , التي أحرقت عائلة دوابشة , وبالرصاصات التي أعدمت الشباب والحرائر على الحواجز الصهيونية ، أين ذهب الغيورين على وطنهم وقضيتهم؟ أسئلة بطعم العلقم تحتاج إلى إجابة عاجلة !.
لماذا حدث ما حدث ؟ , يسعى الإحتلال في معركته ضد الشعب الفلسطيني , إلى شن الحرب على الوعي الوطني الفلسطيني , وإلى إنزال الهزيمة المعنوية في نفوس الأجيال الفلسطينية , وقد تتشكل هذه الحرب عبر أدواتها بأكثر من صوره , فيُظهر لنا صورة الجيش الذي لا يقهر , وأن هزيمة "إسرائيل" مستحيلة , والتسليم بواقع الإحتلال والإستسلام لإرادته هو طريق النجاة للفلسطيني من أجل أن يفوز ببعض المسكن والمأكل على أرض أجداده , ومطلوب من الفلسطيني أن يستشعر بالعجز وأن تتسلل إليه الهزيمة , وبالتالي يقوده ذلك إلى شطب ذاكرته وطمس هويته الوطنية , وهذه هي النتيجة المراد تحقيقها صهيونياً.
وعندما فشل في إخضاع الفلسطيني بالحل العسكري , سعى الإحتلال وحلفائه الأمريكان بطرق خبيثة إلى ضرب جوهر القضية الفلسطينية , عبر أكذوبة " السلام" وإنهاء الحرب الدائرة في فلسطين , فأذعن البعض الفلسطيني لهذا الراوية الخادعة تحت حجج واهية , وإنساق إلى جحر التسوية , يعترف بـ "إسرائيل" وبشرعية وجودها, وفُتحت لها بذلك أبواب التطبيع في كافة العواصم التي بقيت مغلقة أمام الصهاينة , وأصبح الحديث عن الجار "الإسرائيلي" وحقه في العيش بأمان ! , هي السيمفونية المحببة لبعض القادة الفلسطينيين , وأسست السلطة وحزبها لجان للتواصل مع المجتمع الصهيوني , وإسُتقبلت الوفود الصهيونية في رام الله تحت عناوين التعايش , وفرض على الفلسطيني أن يعطي دائماً العهود والمواثيق على القيام بحفظ أمن الصهاينة في مستوطناتهم المقامة على أرضنا , شارك من يطلق عليهم الزعماء والقادة الفلسطينيين في جنائز الصهاينة رؤساء ووزراء وجنرالات قتلة , وبكى البعض حزنا على نفوق الهالك بيرس ! , لقد حاول الصهاينة من خلال مسيرة التسوية ذات الأهداف الخبيثة , تحقيق إختراقا كبيرا في حالة الوعي الوطني الفلسطيني دون إطلاق رصاص أو قذيفة واحدة .
أيضا لم يغفل الصهاينة الوسائل الناعمة , في عملية إختراق وعي الشعب الفلسطيني , ومنها إبقاء الإدارة المدنية في مدن الضفة المحتلة, التي يرتادها الفلسطينيين الذين هم بحاجة إلى الموافقة على السفر أو العمل داخل الكيان أو العلاج , وكذلك إقامة مراكز التسوق على مداخل المستوطنات , والسماح للفلسطيني أن يتسوق منها , وهي بذلك تحقق هدفين , الأول فرض صيغ من التعايش المذل للفلسطيني مع مغتصب أرضه , والهدف الثاني هو ضرب الإقتصاد الوطني , عبر محاربة المنتوج الفلسطيني بعرض البدائل وبأثمان بخسة, وإستخدم الإحتلال أدوات التواصل المجتمعي " الفيس بوك وتويتر وغيره " للوصول إلى الجمهور الفلسطيني ومخاطبته بلغته ولهجته , عارضاً التعايش الكاذب والإستسلام للأمر الواقع الذي يشهد الهيمنة والعلو الفاجر للصهاينة .
ومن العوامل التي ساعدت الإحتلال في حربه على الوعي الوطني الفلسطيني , سلوك السلطة وأحزابها مسلك التطبيع مع الإحتلال الصهيوني , إلى جانب قيام السلطة بوظيفة التنسيق الأمني على أكمل وجه وبلا حدود , فكان القمع والمحاربة لكل القوى الحية الرافضة للإحتلال والتطبيع معه , فإنحصر المشهد في الأراضي التي تسيطر عليها السلطة في التوجه الرسمي لرئاسة السلطة , هو التطبيع وإستجداء التعايش مع الإحتلال , ويقدمون من أجل تحقيق أمنية " الدولتين " , فروض الطاعة والواجب في حماية أمن " إسرائيل " والحفاظ على مستوطنيها.
حقاً إننا بحاجة إلى مراجعة وطنية شاملة , لتصحيح المسار وإيقاف حالة الانحدار في السلوك الوطني , ومقاومة الإحتلال بكافة الوسائل , وإبقاء العلاقة واضحة ومكشوفة مع الإحتلال وهي القائمة على العداء التام , لمن يسرق الأرض ويسلب الحرية ويدنس المقدسات , ويحاول طمس الهوية الفلسطينية عبر هجمة التهويد المسعورة والتزييف الهمجية التي تطال كل ما هو فلسطيني على هذه الأرض المباركة.
بقلم : جبريل عوده *
كاتب باحث فلسطيني
14-6-2019