(1)
■ يمكن وصف الدعوة الأميركية إلى ورشة البحرين الإقتصادية، تحت شعار «السلام من أجل الإزدهار»، مناورة إستراتيجية كبرى، تلجأ إليها إدارة ترامب، على الصعيد الإقليمي، للإلتفاف على موقف الجانب الفلسطيني، ومحاصرته وحشره في الزاوية الضيقة، وفرض شروطها الإستسلامية عليه. تدرك الولايات المتحدة أنها بتبنيها «صفقة ترامب»، لم تقدم شيئاً يمكن أن يغري الجانب الفلسطيني الرسمي في الإنخراط فيها، وهو الذي رحب بها قبل الإعلان عنها، وإستعجل الولايات المتحدة للكشف عنها، لإخراج المفاوضات مع إسرائيل من أزمتها، وإخراج مشروع أوسلو من مأزقه، والوصول إلى تسوية «مقبولة» مع الجانب الإسرائيلي.
كما تدرك الولايات المتحدة أن ما كشفت عنه من خطوات تطبيقية «للصفقة» (قبل الإعلان عنها) هي بالأساس تشكل عناصر المشروع الإسرائيلي للحل، قدمته إدارة ترامب على أنه من بنات أفكارها؛ في محاولة مفضوحة لإستغباء العقول، سياسة تقوم على فرض الأمر الواقع بإعتباره هو الحل المناسب. أي سياسة تقوم على الإعتراف بحق إسرائيل في إحتلال الأرض العربية والفلسطينية وضمها إليها، وإعادة صياغة الخارطة السياسية بما يخدم قيام دولة إسرائيل الكبرى.
في هذا السياق، إعترفت بضم إسرائيل للقدس، بإعتبارها «العاصمة الموحدة» لدولة الإحتلال . ووفرت لإسرائيل الغطاء السياسي الأميركي للذهاب بعيداً في تهويد المدينة، في ديمغرافيتها، ومدارسها، وشوارعها ومبانيها، ومؤسساتها الإقتصادية، والثقافية عبر محاصرة كل شيء فلسطيني عربي فيها ومطاردته ليغادر المدينة، سكاناً ومشاريع.
كما إعترفت لإسرائيل بحقها في الإستيطان وضم المستوطنات إلى دولة الإحتلال، في إطار الحل الدائم، بذرائع إستعمارية أمنية وإقتصادية وإستيطانية، بما في ذلك مصادرة الأراضي الفلسطينية، وتدمير القطاع الزراعي الفلسطيني في الضفة ( على ضعفه الشديد) ومحاصرة الفلسطينيين في المدن، وترحيلهم، عبر خطط تراكمية من مناطق الريف، وتحويل القرى تدريجياً إلى «قرى مدينية» لا تملك عمقاً ريفياً لها، في ظل المصادرات الواسعة، في تكرار واضح لتجربة إعادة صياغة المجتمع الريفي الفلسطيني في دولة الإحتلال، بعد العام 1948، ليتحول من مجتمع زراعي، إلى مصدر لليد العاملة الرخيصة في المشاريع الإسرائيلية.
وتأتي تصريحات السفير الأميركي في إسرائيل ديفيد فريدمان، حول حق إسرائيل في ضم أجزاء من الضفة الفلسطينية، لتمهد للخطوة الكبرى، لوضع اللمسات الأخيرة على الخارطة النهائية للضفة الفلسطينية.
المحور الثالث الذي شنت فيه صفقة ترامب حربها على المشروع الفلسطيني، بواسطة «صفقة القرن» هو محور قضية اللاجئين ، حين دعا إلى إعادة تعريف اللاجئ ليقتصر على مواليد فلسطين (بضعة آلاف) وحين دعا إلى حل وكالة الغوث بإعتبارها العقبة الكبرى في طريق الحل، فهي إعتراف المجتمع الدولي بعدالة قضية اللاجئين وبحقهم في العودة . وحين دعا إلى نقل مهام الوكالة وخدماتها إلى الدول المضيفة، في إطار شطب حق العودة وفرض التوطين حلاً بديلاً.
وهكذا، يكون ترامب في صفقته قد شطب قضية القدس، ومشروع الدولة الفلسطينية المستقلة، وحق العودة، أي العناصر الجوهرية والرئيسية للمشروع الوطني الفلسطيني..
بتعبير آخر، العودة إلى الوراء، عبر شطب الكيانية والهوية الوطنية للشعب الفلسطيني، وتحويله إلى «ملحق» ديمغرافي، في كيان سياسي هجين، فاقد لكل أشكال الإستقلال، ولكل عناصر تطوير شخصيته الوطنية وممارسة حقه في تقرير مصيره على أرضه، ومحو آثار النكبة الوطنية، عبر عملية سياسية تصاعدية تراكمية، تفتح الباب لمرحلة جديدة في العلاقات الإقليمية.
(2)
تدرك إدارة ترامب أنها فشلت في تمرير صفقتها لدى الفلسطينيين. وأن ضغوطها فشلت في جر الموقف الفلسطيني الرسمي إلى التفاعل الإيجابي مع الصفقة. ولا شك في أن إدارة ترامب تابعت باهتمام نتائج أعمال المؤسسة الفلسطينية وقرارتها، في المجلس المركزي (الدورتان الـ 27+28) والوطني (الدورة 23) والمدى الذي ذهبت إليه هذه القرارات بما ذلك رسم إستراتيجية للخروج من أوسلو، والرهان على المشاريع الهابطة، والعودة إلى المشروع الوطني، بسلسلة قرارات، مازالت معطلة بقرار من القيادة الرسمية.
كما لا شك في أن إدارة ترامب، وحكومة دولة الإحتلال تقرأ جيداً المعاني العميقة لتعطيل القيادة الرسمية الفلسطينية لقرارات المجلسين المركزي والوطني، وتدرك المعنى الحقيقي لما بات يسمى «رؤية الرئيس» (20/2/2018). ولعل هذا هو رهانها.
لكنها بالمقابل أن ما قدمته حتى الآن، لا يتضمن أي منفذ ولو بسيط، يمكن الرهان عليه، لإستدراج الجانب الفلسطيني. لذلك تراها، في مواجهة وحدة الموقف الفلسطيني الرسمي والشعبي، في رفض صفقة ترامب، ورفض تطبيقاتها، تلجأ إلى إتهام القيادات الفلسطينية بالإفتقار إلى الإحساس بالمسؤولية عن شعبها، وإتهامها بأنها بارعة في تضييع الفرص، ومنها فرصة «صفقة ترامب».
غير أن هذا الوضع سيشكل عقبة أمام واشنطن لطرح صفقة ترامب، كما وعدت بعد عيد الفطر، فالمعارضة والرفض الفلسطيني سوف يتصاعدان في ظل موقف عربي رسمي، مازال يتمسك، وإن بالبيانات، بالدولة الفلسطينية على حدود 4 حزيران وعاصمتها القدس.
من هنا، بتقدير المراقبين، لجأت الولايات المتحدة إلى مناورة جديدة، هي الإنتقال من الترحيب إلى الترغيب، واللجؤ إلى عامل المال، كمدخل لجذب المواقف الإقليمية العربية، في مشروع إقتصادي إقليمي، عنوانه «السلام من أجل الإزدهار». أي أن القضية الفلسطينية المعلقة، والصراع مع إسرائيل هما العاملان اللذان يعطلان إنتقال المنطقة بدولها وأنظمتها وشعوبها، من حال الدول الفقيرة الغارقة في الديون، إلى الدول المزدهرة إقتصادياً. والإنتقال من دول تراكم السلاح [مصدره الكبير هو الولايات المتحدة] إلى دول تراكم النمو وتعلي فيه العلم. ولا مجال للوصول إلى هذا كله إلا من خلال إزاحة القضية الفلسطينية من الطريق. ولا سبيل إلى ذلك إلا بإعادة النظر بأسس حل القضية، أي نسف قرارات الشرعية الدولية، التي نصت على حق الشعب الفلسطيني في تقرير المصير، والإستقلال والعودة، لصالح حل يعترف بالأمر الواقع، في صيغته الحالية، حلاً وحيداً ممكناً..
فإلى أي مدى سوف تستجيب الدول العربية للمناورة الأميركية؟
(3)
• العربية السعودية:
تمارس الرياض سياسة مركبة، تحمل في طياتها الشيء ونقيضه.
فهي من جهة تحتل ما تعتبره موقع الزعامة في العالم السلم السني، نظراً لموقعها الجغرافي المميز في احتضان الحرمين الشريفين في مكة والمدينة، وولادة الدعوة الإسلامية، والأرض التي حكم الدين الإسلامي بالحج إليها. حتى إن ملك العربية السعودية تخلى عن لقبه المعتاد، وفضل عليه لقب "خادم الحرمين"، لما في هذا اللقب من مضامين دينية وسياسية في آن. لذلك ترى الرياض أنها معنية، بشكل مميز، بموقف ثابت من المقدسات الإسلامية في مدينة القدس، ومع أن الإشراف على هذه الأماكن هو من وظائف ومهام الدولة الأردنية، إلا أن العربية السعودية تعتبر أن أحد مقاييس الحفاظ على زعامتها للعالم السني، هو موقفها الثابت من قضية مدينة القدس وضرورة استعادتها من يد الاحتلال.
وفي السياق نفسه تجد الرياض نفسها ملزمة بتأييد الحقوق المشروعة بشعب فلسطين في دولة مستقلة، وعاصمتها القدس، ولا يتردد العاهل السعودي سلمان بن العزيز في تأكيد ذلك الموقف عند كل فرصة متاحة. آخرها، مؤتمرات مكة الثلاثة حيث أعيد التأكيد على القضية الفلسطينية بثنائية "الدولة ـ القدس".
بالمقابل تحتفظ الرياض بعلاقات سياسية وثيقة مع الولايات المتحدة تتجاوز في بعض جوانبها حدود التحالفات السياسية المعتادة، بما في ذلك تأكيد واشنطن استعدادها لحماية العربية السعودية [وكل المنطقة النفطية] من أي خطر خارجي. والخطر المقصود هنا هو إيران.
لذلك تجد الرياض في الجانب الإقليمي من صفقة ترامب، مصلحة لهاـ أي قيام حلف إقليمي ترعاه الولايات المتحدة ضد إيران، ولا مانع أن تكون إسرائيل في عداده. في الوقت نفسه تجد الرياض في الشق الفلسطيني من الصفقة حرجاً لها، خاصة عدم مراعاة المشاعر الدينية بشأن القدس، وعدم "انصاف" الفلسطينيين في "منحهم" حقوقهم الوطنية، بحده الأدنى، أي الدولة.
لذلك لا تجد الرياض تعارضاً بين تلبية الدعوة إلى ورشة البحرين، وبين إعلان "تمسكها" بقرارات القمم العربية والمسلمة بشأن القضية الفلسطينية. وبالتالي لا غرابة أن تكون المنامة هي حاضنة الورشة، الاقتصادية، ولا غرابة أيضاً أن تكون الرياض في مقدمة من أعلن موافقته على تلبية الدعوة لحضور الورشة التحقت بها بعد قليل دولة الإمارات العربية المتحدة. وهي تلتقي مع الرياض في الكثير من جوانب موقفها المركب من القضية الفلسطينية.
لكن ما يجب توضيحه هنا، أن معارضة الرياض (وإلى جانبها الإمارات) للجانب الفلسطيني "لصفقة القرن" لم تتجاوز حدود الموقف اللفظي والمعارضة الكلامية، دون أن يؤثر ذلك على متانة علاقة الدولتين مع الولايات المتحدة.
في الوقت نفسه تخطو الدولتان خطوات عملية في تطبيق «صفقة القرن» في جانبها الإقليمي، أي بناء الحلف الإقليمي ضد إيران. ولعل المؤتمرات الثلاثة التي عقدت في مكة نهاية الشهر المنصرم، بعناوينها الرئيسية وبياناتها الختامية، تفسر هذا الأمر بشكل لا يحتاج إلى المزيد من التوضيح. رغم أن بعض هذه الخطوات تشكل انتهاكاً لمبادرة السلام العربية التي قدمتها الرياض، في الربط بين التطبيع وبين الانسحاب الإسرائيلي من الأراضي المحتلة. فقد شاركت الرياض في مؤتمر وارسو، إلى جانب الوفد الإسرائيلي، كما أن مشاركتها في المنامة، ستكون أيضاً بحضور الوفد الإسرائيلي.
(4)
مصر: موقع مصر الإقليمي أكثر تعقيداً من موقع العربية السعودية. فعدا عن موقعها الجغرافي المميز، وكونها أكبر دولة عربية، وصاحبة أكبر جيش عربي، وتاريخ صراعها مع إسرائيل معروف تماماً، فهي ترتبط بالقضية من زواياها التالية:
• من زاوية القضية الفلسطينية نفسها، أولاً كون مصر تشكل بوابة قطاع غزة إلى الخارج، وعلى أرض القاهرة ولد اتفاق المشروع ببناء السلطة الفلسطينية (أوسلو2) ولعبت القاهرة دوراً مهماً في تطبيقات مؤتمر مدريد، واتفاق أوسلو، واستقبلت عشرات المؤتمرات بشأن القضية الفلسطينية، ولا زالت القيادة الرسمية تنظر إلى القاهرة باعتبارها "الأخ الأكبر"، فضلاً عن تكليف العرب للقاهرة متابعة ملف الانقسام الفلسطيني بين فتح وحماس.
لذلك تعتبر القاهرة نفسها طرفاً رئيسياً معنياً بالقضية الفلسطينية لا ترى نفسها إلا في قلب القضية، ولا يمكن أن تغيب عن محفل عربي أو إقليمي أو دولي، تكون القضية الفلسطينية على جدول أعماله. وما زالت القاهرة تؤكد تمسكها بقرارات الشرعية الدولية بشأن القضية الفلسطينية، خاصة قضية القدس والدولة. وفي الحوار الأخير الذي أجرته الإعلامية فجر السعيد مع حسني مبارك، أكد الرئيس الأسبق لمصر أن عرفات اتصل به من كامب ديفيد (2000) يشكو إليه الضغوط ليتخلى عن القدس إلا أن مبارك حذره من خطورة هذه اللعبة مؤكداً أن القدس خط أحمر. ولا يعتقد المراقبون أن الرئيس الحالي لمصر، عبد الفتاح السيسي، سيكون أقل تشدداً من مبارك بشأن القدس، أو بشأن الدولة الفلسطينية. فالمسألة، بالنسبة لمصر، هي مسألة أمن قومي، أولاً، وقبل كل شيء.
• من جهة أخرى ترتبط القاهرة مع إسرائيل بمعاهدة سلام. وهي لا ترى في أية لقاءات أو مؤتمرات تشارك بها إسرائيل خطوة غير طبيعية، بل تأتي في سياق "العلاقات الطبيعية" بين البلدين. مع التأكيد أن لا يكون ذلك على حساب المصالح الوطنية الفلسطينية (مثلاً رفض القاهرة التوقيع على اتفاق الحكم الذاتي للفلسطينيين بغياب الجانب الفلسطيني).
• من جهة ثالثة تعتبر القاهرة نفسها الدولة العربية الأولى المعنية بالأمن القومي العربي، خاصة في مواجهة ما بات يسمى "خطر إيران" على المنطقة. لذلك لم يبدو غريباً أو مستغرباً أن توافق القاهرة على حضور ورشة البحرين (لما فيها من فوائد مالية) وأن تواصل دورها في الميدان الفلسطيني.
بقلم/ معتصم حمادة