محاكمة الواقعيين العرب

بقلم: محمد سيف الدولة

لو امتلكت شعوبنا حريتها وارادتها، لكانت قادرة اليوم على محاسبة ومحاكمة كل الذين ورطوها فى رهانات وسياسات خائنة وخاسرة وكارثية؛ وكل الذين تسببوا فيما نراه اليوم من مشروعات وصفقات "أمريكية صهيونية عربية مشتركة" لتصفية القضية الفلسطينية.

***

تصدروا المشهد منذ عام 1974، وانفردوا بحكمنا وبقيادة المنطقة حتى يومنا هذا. 45 عاما نعيشها فى ذل ما يسمى بالواقعية والاعتدال وهوانهما، الى أن أوردونا موارد الهلاك؛ ضاع الاستقلال، وضاعت الهوية، وضاعت المكانة، وضاعت الكرامة، وضاع الحلم والمشروع الى حين، ويكاد يضيع ما تبقى من أرض فلسطين الحبيبة لا قدر الله.

***

  •        استخدموا كل انواع الاسلحة الثقيلة والوسائل الخسيسة لتدمير صمودنا ومقاومتنا، ونزع اسلحتنا واضعاف مناعتنا، وتسفيه قيمنا وانتهاك مبادئنا وثوابتنا، واهدار حقوقنا واهالة التراب على تاريخنا.
  •        وخدعوا الشعوب فادعوا انهم الوحيدون الذين يمكنهم ان يحلوا القضية ويعيدوا الارض المسلوبة، بواقعتيهم ومرونتهم وعلاقاتهم الطيبة والحليفة والتابعة للولايات المتحدة الامريكية.
  •        وادعوا انه ليس لنا قَبَّل بتحدي امريكا ولا بقتال (اسرائيل)، ولكن يمكننا ان نأخذ منهم ما نريد بمفاوضات سلام نقدم فيها "بعض التنازلات"، وانه كفى تطرفا وعنجهية وشعارات غير واقعية، "فلا تلقوا بنا وبأنفسكم الى التهلكة. واتركونا نفاوضهم وسناتي لكم بما عجزت عنه بنادقكم."
  •        فقام تنظيمهم الحاكم فى مصر بعد حرب 1973 بالصلح مع (اسرائيل) والاعتراف بها والتنازل لها عن فلسطين 1948، مع قيامهم بتسليم مصر على طبق من فضة للولايات المتحدة الامريكية، وكل ذلك مقابل استرداد سيناء منقوصة السيادة، منزعة السلاح والقوات فى ثلثى مساحتها، الا باذن اسرائيل، مما جعلها رهينة حتى يومنا هذا لاى عدوان صهيونى امريكى جديد لا قدر الله، مما اخضع الارادة والقرار المصريين لما تمليه علينا الولايات المتحدة وما تتشرط به (اسرائيل)، التى تحولت بعد كامب ديفيد الى القوة الاقليمية الكبرى فى المنطقة.
  •        ثم نجح تنظيم المعتدلين والواقعين العرب تحت القيادة المصرية، فى استقطاب قيادة منظمة التحرير الفلسطينية، التى انكسرت ارادتها بعد اجتياح بيروت 1982 ونفيها الى تونس، فأعلنت قبولها الاعتراف باسرائيل وتنازلها هى الاخرى عن فلسطين 1948 واكتفائها بالمطالبة بدولة على حدود 1967 والتنازل عن حقها فى المقاومة والكفاح المسلح فى بنود صريحة فى اتفاقيات اوسلو 1993.
  •         ثم بدأوا فى شن حملات من الاكاذيب والادعاءات الزائفة تحرض على عدم تكرار ما أسموه بأخطائنا الماضية حين رفضنا قرار التقسيم وطالبنا بكل فلسطين، وحين رفضنا الاعتراف باسرائيل والتفاوض والصلح معها، وأصررنا على قتالها، وحين عادينا الامريكان، فحدث ما حدث. وانه يتوجب علينا أن نكون واقعيين ومعتدلين، وسنفوز فى النهاية بالسلام المنشود، بالإضافة، وهو الأهم، اننا سنربح الرضا والدعم الأمريكي وما يترتب عليه حتما من اعتراف المجتمع الدولي.
  •         وتخابثوا؛ بأنه علينا فى البداية أن نُطَمِّئن (اسرائيل) وامريكا ومجتمعهما الدولي على حسن نوايانا وعلى رغبتنا الحقيقية والصادقة فى السلام، وهو ما يتطلب ان نلقى السلاح ونصفي المقاومة ونعتمد التفاوض طريقا وحيدا للحل. تفاوضوا تصحوا.
  •        وتواطأوا، فلم يكتفوا بالتحريض على الواقعية والتبعية والاعتدال والقاء السلاح، بل بدأوا ينوبون عن الصهاينة فى حصار ومطاردة المقاومة والمقاومين ونزع سلاحهم وتوقيفهم وابلاغ سلطات الاحتلال عنهم وتجريدهم من اى حماية او شرعية قانونية.

***

ان الواقعيين هم أكبر تنظيم حاكم ابتلينا به فى الوطن العربى، انه النظام الرسمى العربى الحقيقى، تم تأسيسه فى مصر كامب ديفيد، قبل ان يمتد نشاطه ويتسع نفوذه فى كل مكان، وينجح فى استيعاب بعض القيادات الفلسطينية ليستدرجها الى توقيع اتفاقيات اوسلو وتشكيل سلطة فلسطينية خاضعة للاحتلال يصرح رئيسها أن الانتفاضة الفلسطينية كانت بمثابة الكارثة على الشعب الفلسطينى، كما نجح بامتياز فى ادخال غالبية الدولة العربية الى الحظيرة الأمريكية.

***

وحين نسألهم اليوم عن النتائج والمآلات ونطالبهم بتقديم كشف حساب للامة عما جلبته الينا وجنته علينا واقعيتهم المصونة، وعن موقفهم بعد أن اعترف ترامب بالقدس الموحدة عاصمة لإسرائيل وأطلق رصاصة الرحمة على اوهام ما يسمى بعملية السلام، تخرس السنتهم ويراوغون ويتهربون ثم يطلقون علينا النسخة المحدثة من الواقعية الرسمية العربية، نسخة ترامب.

***

واليوم تتشكل قيادة عربية جديدة لتنظيم الواقعيين العرب، فلقد قررت السعودية ودول الخليج ان يتولوا قيادة سفينة "الاعتدال" و"الواقعية" فى اتجاه اقامة علاقات مباشرة مع (اسرائيل) بدون ان تطالبها بتقديم اى تنازلات للفلسطينيين، وهو ما يسمونه بصفقة القرن، ينفذ فيها القادة العرب ما يمليه عليهم الامريكان وما يردده نتنياهو ليل نهار من ان فلسطين لم تعد تمثل مشكلة بين العرب و(اسرائيل)، فهناك اليوم مخاطر مشتركة تهددهم جميعا متمثلة فى ايران والارهاب والاسلام الراديكالى المتطرف، وهو ما يستدعى تشكيل تحالف عربى اسرائيلى لمواجهتها، ولتذهب فلسطين والفلسطينيين الى الجحيم.

***

لو أن شعوبنا قد نالت حريتها وامتلكت ارادتها، لكانت قادرة اليوم على محاسبة ومحاكمة كل الذين ورطوها فى رهانات وسياسات خائنة وخاسرة وكارثية؛ وكل الذين باعوا فلسطين او فرطوا فى ترابها او تواطؤا عليها وكل الذين تسببوا فى تراجع مصر وعربدة (اسرائيل) وهيمنة الامريكان. ولإمتلأت السجون العربية بالواقعيين والمعتدلين العرب، ولكن فى بلادنا الهرم مقلوب للاسف الشديد؛ فالوطنيون والمقاومون فى السجون او تحت التهميش والحصار والمطاردة، والواقعيون فى كراسى الحكم ومراكز اتخاذ القرار.

*****

محمد سيف الدولة

[email protected]

القاهرة فى 15 يونيو 2019