يقول المفكر الروسي "ألكسندر دوغين" في كتابه " اسس الجيوبولتيكا" عن الجيوبولتيكا أنها "علم الحكم" أي "التضاريس الحغرافيه المُصيّره"، وهذا العلم يجب أن تأخذه كافة المؤسسات الحاكمه لأي دولة تبحث عن مصالحها الإقليميه والدوليه، حيث يرى في إمكانية عودة الإتحاد السوفيتي السابق مُمكنه وقابلة للتحقيق وضرورة قسوى لمواجهة الأطلسي أو "القوة البحريه-أمريكا وبريطانيا" من خلال تشكيل حلف "أوراسي" يشمل أوربا الغربيه "بمحوره موسكو –برلين" والمحيط الهادي وأساسه "موسكو-طوكيو" وآسيا الوسطى بمحوره "موسكو-طهران"، أو كما سماه "إمبراطورية الإمراطوريات"، ويعتقد أن التحالف مع "إيران" مسأله إستراتيجيه لمواجهة الأطلسي، ويرى أن على الروسي ان يعي أنه أرثوذكسي قبل ان يكون روسي، حيث الأهمية الروحيه للإنسان بإرتباطها بالمكان، وأنا أسميها "الدينوبولتيكا"، في حين بريجنسكي في كتابه "رقعة الشطرنج الكبرى" يرى أن عرقلة أي حلف "أوراسي" وحده الكفيل بمنع ظهور قوى قادرة على قيادة العالم بدون "أمريكا"، مع قناعته بأن تعدد الأقطاب الدولية قادم لا محاله، ويحدد أن هناك نوعين من دول الجيوبولتيكا، الأولى دول الجيوبولتيكا الإستراتيجيه وحددها في "أمريكا، روسيا، الصين، وألمانيا، وفرنسا" وقال أن اليابان والهند ممكن أن تكون كذلك، في حين الثاني دول الجيوبولتيكا الإقليميه وحددها في دول "إيران وتركيا وأذربيجان وأوكرانيا" وبعض الدول الأخرى الممكنه.
يلاحظ من النموذجين أعلاه عدم وضع أي دولة عربيه أو إسرائيل في نطاق الجيوبولتيك الإقليمي، في حين أجمع الطرفان على "إيران" وعلى ضرورة التحالف معها، بينما بقيت "تركيا" وفقاً لِ "بريجنسكي" مهمة إذا تحالفت مع أوربا الغربيه لمنعها من التوجه لِ "روسيا"، ووفقا لِ "دوغين" يجب تشجيع الصراعات الداخليه الإثنيه والقوميه فيها، وفي مفهوم الدين السياسي "الدينوبولتيكا" يجد "دوغين" أهميته بالمفهوم الروحي للروسي وكجزء من ثقافته وتاريخه وتكوينه، في حين أمريكا إستغلت كل الأديان سياسيا لصالح سياستها في فرض حضورها بإسم محاربة الإرهاب، وفي نفس الوقت تميزت بمسيحييها الصهاينه التي تشكلت عقيدتهم وأيديولوجيتهم "الدينوبولتيكا" وفقا لنظرتهم للتوراة وظهور المسيح مرة أخرى، فدعموا "إسرائيل" بلا حدود ولا يزالوا.
حقيقة الأمر، أن العرب دون وحدة حال كأوروبا على الأقل لن يكون لهم وزنا وستبقى في حماية الأطراف الدولية والإقليميه تتقاذفها الصراعات المتعددة ووفقا لطبيعة ما يحدث على الصعيد العالمي والإقليمي، هنا يلاحظ بقوة كيف أن محور أمريكا منقسم على بعضه بسبب الصراع الإقليمي بين "تركيا" و"السعوديه"، والطرفان يحاولان أن يكسبا "إسرائيل" إلى صفهما، حيث "إسرائيل" تستغل ذلك وتتحالف مع محور "السعوديه" ضد "إيران"، وتنسق بشكل تحالفي مع محور "تركيا وقطر" في الموضوع "السوري" و"الفلسطيني"، في حين المحور ا"لإيراني" المتحالف مع "روسيا" يزداد قوة ورسوخ وثبات رغم حصار أمريكا وعقوباتها، بل ويستغل الخلافات في المحور "الأمريكي" وينسق مع "قطر وتركيا" ضد المحور "السعودي".
ضمن المعادله الجيوبولتيكيه أعلاه، وعلى أساس مفهوم ميزان الربح والخساره، فالعرب خاسرون في كل شيء ومع أي حلفٍ كان، حيث أن الدول الغنية "السعوديه والخليج" تدفع أموال طائلة مقابل السلاح ومقابل إستمالة دول عربية أخرى فقيره لتبقيها جزءا من محورها، وأيضا تدفع لدول إسلاميه أخرى لتساعدها أو لتبقيها محايده.
ولقد كتبنا سابقا، أن الأمن القومي العربي جزءا واحدا لا يتجزأ، وأن في مركزه وأساسه يجب أن تكون القضية الفلسطينيه وحقوق الشعب الفلسطيني هي العنوان، وبدونها لن يكون لهذا الأمن معنى، وهذا يتطلب بالحد الأدنى تنسيق عربي شامل أساسه التشبيك الإقتصادي وبالأساس الزراعي والغذائي، والإعتماد الذاتي على القدره العسكريه من خلال تطوير برامج التصنيع العسكري، ولدى هذه الأمه ما يكفي من العلماء الشباب ومراكز الأبحاث لو تم الإعتناء بهم لأصبح العرب في مصاف الدول المكتفيه ذاتيا بشكل كبير.
"علم الحكم" أو "الجيوبولتيكا" هو الحاضر الغائب عن تفكير صُنّاع القرار العربي، لأنهم لا يَروّن في الجغرافيا كحاكم سياسي، وعيونهم شاخصة نحو أمريكا التي تعترف أنها ليست القوة الوحيده المهيمنه عالميا، لكنهم يعتقدون أن مصالحها في حماية أمن "إسرائيل" وفي الطاقة تُرغمها على خوض حروب لحماية هذه الأنظمه، نعم "ترامب" والإدارة الأمريكيه قد تكون مُستعدة لخوض حروب في سبيل حماية إسرائيل، ليس لكونها "أكبر حاملة طائرات أمريكيه في الشرق الأوسط" وفق "بريجنسكي"، ولكن تحت مفهوم "الدينوبوليتكا"، فالمسيحيون الصهاينه يرون السياسه من منظار توراتي، ويرون "إسرائيل" وعد إلهي لذلك فسلاحها السري هو أنها "بصف الإله" كما قال السفير الأمريكي المُتصهين "فريدمان".
إن من يعتمد على جماعة "الدينوبوليتكا" في الولايات المتحده من العرب سوف يجني خيبة الأمل، لأن الدولة العميقه في أمريكا لن تُرسل أبنائها للموت في سبيل أحد حتى لو كانت "إسرائيل"، ستدافع عن مصالحها ولكنها تعلم يقينا أن العرب لا يمكن أن يشكلوا أدنى تهديد إلا لبعضهم البعض، وترى أن التحالف بين البعض منهم وبين "إسرائيل" هو الكفيل في ردع "إيران" ومحورها، وهذا يتطلب حَلْ للقضيه الفلسطينيه مدعوم منهم ويُرضي "نتنياهو" والمستوطنين، مُتجاهلين في نفس الوقت إرادة الشعب الفلسطيني وحقوقه والشعوب العربيه، والتي سَتُرّغم عل الذهاب للمحور الآخر لأنها ترفض السياسة "الترامبيه-الفريدمانيه" ولأنها ترى في الإحتلال الإسرائيلي هو العدو الأول.
الجغرافيا حاكمه ويجب أخذها في سياسات الأمن القومي بشكل إستراتيجي، وهناك دول راسخه كالجبال ولها إمتداد تاريخي طويل لا مجال لمحوها، بل يجب التعاون معها على اساس المصالح المشتركه والإحترام ورفض التدخل والهيمنة، وهناك دول طارئة تشكلت يجب تطويعها و جعلها تنخرط مع جيرانها وفقا للشرعية الدولية وعلى أساس إنهاء الإحتلال وإعطاء الشعب الفلسطيني حقوقه، إما وفق الدولة الواحدة المتساوية في الحقوق الفرديه والوطنيه، وإما وفق مفهوم الدولتين وعلى أساس الشراكه الإقتصاديه والأمنيه وغيرها، وبدون ذلك لن يبقى للعروبه سوى إسمها وسوف يتم تقاذف وإستنزاف العرب من قبل أمريكا والدول الإقليميه الكبرى وعلى رأسها "إيران".
بقلم: فراس ياغي