تعرضت مؤسسة سيدة الأرض الفلسطينية والقائمين عليها وفي مقدمتهم الدكتور كمال الحسيني لانتقادات واسعة تجاوزت أعراف وتقاليد الاختلاف، وصلت حد التهجم الشخصي المباشر لرئيس المؤسسة والعاملين فيها، واستخدمت بحفلة الشتم والقذف أقذع الألفاظ وأفحش السباب وألصقت بهم أقبح العبارات، وقيل بالمؤسسة وبالحسيني ما لم يقله الإمام مالك بالخمر. جاء ذلك عقب قيام المؤسسة بتكريم الفنانة المصرية "إلهام شاهين" بتاريخ 13.6.2019 في القاهرة، بمناسبة مرور اثنا عشر عاماً على تأسيس المؤسسة وتعزيزاً لدورها في نشر الفنون والثقافة. وفي حفل أقيم بهذه المناسبة بعنوان "يبقى الفن رسالة إنسانية وطنية. وتبقى القدس عنوان الضمير العالمي. والقاهرة ضمير الأمة العربية" تم منح الفنانة شاهين درع المؤسسة، ومنحها لقب "سفيرة سيدة الأرض" وهو ما أثار حفيظة وضغينة وحساسية ومشاعر وغضب بعض الفلسطينيين، الذين أظهروا الكثير من السخط تجاه ما اعتبروه اختياراً غير صائب من مؤسسة سيدة الأرض، واستنكروا أن تقوم المؤسسة بتكريم فنانة مثيرة للجدل مثل إلهام شاهين، التي تنقسم الآراء حولها فلسطينياً وعربياً بين مؤيد تماماً ورافض بالمطلق. وأضاف الذين هاجموا المؤسسة والمشرفين عليها أن هناك الآلاف من النساء الفلسطينيات أمهات الشهداء والأسرى لم يحظوا بهذا الشرف العظيم الذي منحته المؤسسة لشاهين، لكنهم تجاهلوا التكريم التي قامت به المؤسسة في نهاية العام 2018 حين تم تكريم خنساء فلسطين أم الشهداء "أم ناصر" ومنحها لقب سيدة الأرض، وهي المرأة الوحيدة التي نالت هذا اللقب. وتناسوا تكريم الكثير من الشهداء الفلسطينيين وأسرهم من قبل المؤسسة، بل تقصدوا التجاهل والتغاضي عن مسيرة المؤسسة الزاخرة بالعطاء.
جاء تكريم الفنانة شاهين في سياق حفل نظمته مؤسسة سيدة الأرض لإطلاق مبادرة "فنانين العرب والعالم لأجل القدس" والغريب في الأمر أن معظم وسائل الإعلام قد تجاهلت المبادرة، وسلطت الضوء على التكريم فقط دون ذكر كلمة واحدة عن المبادرة المهمة التي تسعى لاستقطاب عدد من الفنانين العرب والعالميين من أجل نصرة قضية القدس، وقد استجاب فعلاً عدد منهم للمبادرة، وذلك إيماناً من سيدة الأرض بدور الفنانين الهام والمؤثر في قطاعات واسعة من المجتمع. ثم قامت المؤسسة في اليوم التالي بتكريم الفنان المصري محمد صبحي، ولم يأت أحد على ذكر هذا الحدث، وهو ما يشير إلى تجاهل متعمد يؤكد أن دوافع الذين قادوا حملة التشهير ضد مؤسسة سيدة الأرض لم تكن كما يدعون، بل هي مجرد ذريعة للإساءة للمؤسسة والعاملين فيها والنيل من شخصهم.
إرباك متعمد
تقوم مؤسسة سيدة الأرض بصفة دورية وكتقليد في كل عام باختيار فنان عربي لتكريمه ومنحه لقب "سفير سيدة الأرض" أي أن يكون هذا الفنان الذي تم اختياره سفيراً للمؤسسة في المحافل العربية والدولية وفي الملتقيات والندوات التي تقام، بصفته شخصية عامة، وهذا تماماً ما حصل مع إلهام شاهين، إذ اختارتها المؤسسة أن تكون سفيراً لها. لكن بعض الأصوات التي ارتفع صخبها، وكذلك بعض الأقلام التي أشهرت رماحها، لم تكن بريئة تماماً. حيث تم تزييف الحقائق وقيل أن المؤسسة منحت الفنانة شاهين لقب سيدة الأرض، وهو ما نفاه القائمين على المؤسسة نفياً قاطعاً، لكن البعض الذي حركتهم الضغائن والغيرة التي أثقلت صدورهم أخرجوا سيلاً من الحقد والغل فاض وسال حتى وصل حدوداً مست حرمة القائمين على المؤسسة، وتطاولت على سمعتهم وشرفهم ومكانتهم، بل تمت الإساءة إلى رجال مخلصين أوفياء للوطن، وكذلك تم توجيه إهانة لهم ولعائلاتهم. وزاد الأمر سوءًا حين نشرت وسائل التواصل الاجتماعي صوراً لشاهين وهي تتوشح علم السودان على أنه علم فلسطين، فوصل الهجوم عليها وعلى المؤسسة التي كرمتها مستويات قياسية.
بغض النظر إن اتفقت أو اختلفت مع أسماء الفنانين العرب التي تقوم مؤسسة سيدة الأرض باختيارهم لتكريمهم وتقوم به بصفة دورية كل عام، فإن هذا لا يعني أنك على صواب، ولا يمنحك الحق إلا في نقد الفكر والمعتقد وانتقاد الفكرة والثقافة وتحليل الرؤية ومقاربة المبادئ والمواقف بطريقة علمية وموضوعية تخلو من الشخصنة ومن الإسقاطات المزاجية، حيث لا مبرر أخلاقي ومنطقي يفسر هذا التهجم والتعرض لكوادر المؤسسة ومسؤولها، ويعلل الإهانات والشتائم والازدراء التي وجهت لسيدة الأرض وللدكتور الحسيني.
فلسفة الاختلاف
أن تختلف معي فهذا حقك، أو أن لا أروق لك فهذا شأنك. لك كل الحق أن تكون مختلفاً عني في المظهر والجوهر، في الفكر والموقف والرؤية، في الذوق والاهتمامات، وكذلك الأمر في سائر شؤون الحياة. لكن اختلافك عني ومعي لا يجعلك على صواب، ويجعل مني مخطئاً. حقك في اختيارك الاختلاف لا يعطيك الحق أبداً أن تشتمني وتقدح وتذم وتفبرك الأحداث وتزور الوقائع وتنتقص مني. بل أن اختلافنا يجب أن يوفر فرصة كي يستفيد كلانا هن هذا الاختلاف لاكتشاف أشياء لم نكن نعلمها، ولاكتساب خبرات جديدة، ولرؤية الأمور بطريقة مختلفة.
قديماً قال الفيلسوف اليوناني "سقراط" موجهاً كلامه لرجل جميل المظهر وقف يتبختر متباهياً بثوبه ويتفاخر بهندامه ومظهره، فقال له جملته الشهيرة "تكلم حتى أراك".
اليوم تعاني مجتمعاتنا العربية من انقلاب في المفاهيم وانسحال أخلاقي مريع، أصبحت معه الكلمة غير مسؤولة، والمواقف تمليها الحسابات الشخصية والتحالفات غير المبدئية، والاصطفاف شللي، واختلط الحابل بالنابل، الصالح والطالح، والشغول بالكسول.
إن المشكلة لم تكن يوماً في الاختلاف، لكن في إدارة هذا الاختلاف. ليس عيباً ولا شيئاَ غير عادياً أن يختلف معك الآخرون، لكن أن تتم شخصنة هذه الاختلافات ثم يقوم البعض بشتمك وعائلتك ويتم التشكيك في انتماءك ونبل غايتك، فهذا فعل قبيح لا يمكن أن يصدر عن إنسان عاقل ومسؤول. فالاختلاف أزلي كما هو الاجتهاد أزلي، وكذلك المبادرة والابتكار. ومن يرغب في إغلاق باب الاجتهاد والمبادرة، يرتكب خطيئة اصطناع الوفاق والاجماع المزيف اللذان لا وجود لهما.
الاختلاف جعل من بعض المبدعين والعلماء والمفكرين والأدباء والفلاسفة متميزون حيث برز كل منهم في قطاعه، فيما الآخرون الذين فضلوا السلامة والتوافق مع الأداء الجمعي طواهم النسيان. فحين ينام الكسالى المتكيفون ملء الجفون، نجد أن النشطاء يسهرون ويتدبرون ويخططون ليوم عمل شاق قادم.
ماذا بعد
أن تختلف عني ومعي فهذا شيء، والعدل والصدق والموضوعية والنزاهة في قول الأشياء وتوصيفها أمر آخر مختلف تماماً. فربما تكون فيلسوفاً متبحراً في المعارف، أو نابغة في العلوم، وقد تكون منافساً وخصماً شرساً معانداً، لكنك حين لا تكون صادقاً شريفاً ومستقيماً، وحين تفتري وتكذب وتفبرك، ولا تجد سوى الشتم والسب وسيلة لتعلن اختلافك، حينها تفقد احترامك وقيمتك ولا تصون كرامتك لأنك تقول المنكر وتدافع عنه. إن تعارض المصالح والكراهية والتعصب الأعمى والمواقف المسبقة سمات تجعل من بعض الأفراد لا يرون سوى الافتراء والنفي والاستعداء ويظنون أنهم يقبضون على الحقيقة.
من حقك ان اختلفت مع سياسة مؤسسة سيدة الأرض أو مع القائمين عليها أو مع بعضهم، أن تعلن وجهة نظرك وتدافع عن رؤيتك، لكن بشرط أن تكون موضوعياً حكيماً في إدارة اختلافك، وأن تقدم المصالح العامة على المنافع الشخصية، ودون كذب وافتراء وتزوير، دون توجيه شتائم وإهانات لأحد، دون التشكيك بانتماء ووطنية أحد.
فإن شكلت النجاحات التي حققتها مؤسسة سيدة الأرض عبر مسيرة اثنا عشر عاماً ضيقاً لبعض الفاشلين الهامدين، فإنه من الظلم والحمق جلد المؤسسة واستجرارها كي تتحمل جريرة إفلاس الأخرين.
إن الجانب الأكثر لؤماً ومكراً في طمس الصدق والإنصاف والموضوعية هو أن تقوم في إقصاء وإزالة الأسباب والمعطيات وإنكار العوامل والتغاضي عنها، وتسليط الضوء والتركيز فقط عن النتائج. علينا جميعاً أن نتعلم آداب الاختلاف وسلوكياته، وأن نصدر أحكامنا بمعايير موضوعية ونزاهة تسمو فوق رغباتنا وهوانا لربما يرتفع منسوب إنسانيتنا قليلاً.
بقلم/ حسن العاصي