***
لماذا لا يقال بوضوح وصراحة وجرأة أن المسيحية الغربية وجدت جذرها في اليهودية ، حتى أنّ الثورة التنويرية التي أحيت الجذر الروماني والإغريقي للحضارة الغربية لم تستطع أن تتجاوز ذلك الجذر اليهودي ! وعليه فإن الغرب المسيحي (وهو يختلف كل الاختلاف عن الشرق المسيحي) وفي محاولة تأصيل تجربته العلمية والعلمانية أزّم علاقته مع الجماعات اليهودية من خلال العزل أولاً ثم الانفتاح والدمج ثانياً ، وذلك ضمن آليات تراوحت ما بين اليهودي الملعون ثم اليهودي المبارك، ومع ما رافق ذلك من تغيرات اجتماعية واقتصادية، وانهيار الإقطاع وظهور المدن ثم القوميات ثم التوسع الإمبريالي وانهيار كل البنى الفكرية القروسطية ونشوء بنى فكرية أخرى اعتمدت في مجملها على إشباع الحاجات لذةً واستهلاكاً، وعلى فكرتي التطور الداروينية واللاوعي الفرويدية وأشباههما .. ومن المثير؛ ملاحظة أن كل ذلك جعل من الجماعات اليهودية أكثر قوة وأكثر حضوراً وأكثر فعالية.
إن أوروبا -على اختلاف طفيف هنا أو هناك- التي ضمّت في دولها المختلفة "جيتوهات" قيل إنها عوملت بقسوة وعنصرية، هي ذاتها التي حولت "الجيتوهات" إلى أكثر الأماكن قوةً وحضوراً ! يمكن القول: إن كل ما قيل عن إساءة معاملة اليهود في تلك "الجيتوهات" قد يدخل في دائرة التساؤل! فلا يعقل أن ينفتح هذا "الجيتو" فجأة ليتحوّل أفراده إلى أكثر الناس نفوذاً وغنى وشهرة، ومن الغريب حقاً أن ينجب هذا "الجيتو" باباوات وسياسيين وفنانين وشعراء واقتصاديين، فَعَنْ أية معاملة سيئة نتحدّث ؟!
وهل هذا يتطلب رؤية جديدة أو كتابة أخرى للتاريخ الأوروبي ؟
وهل يمكن ردّ فكرة العداء للسامية وليس لليهودية هو تعبير عن ذلك الدور الخفيّ الذي كان "الجيتو" يقوم به ؟ بمعنى أن العداء للسامية هو الدعاية الشعبية وغير الشعبية ضد دور بعض الجماعات اليهودية في المجتمعات الأوروبية بعد أن تخلّصت هذه المجتمعات من بنى فكرية قروسطية رأت في اليهودي - كل يهودي - قاتلاً للمسيح.
(لا بد من الإشارة هنا إلى أزمة الفكر الغربي المسيحي في العصور الوسطى من حيث تعامله مع اليهود ؛ فمن جهة كان هذا الفكر بحاجة إلى العهد القديم ليثبت رؤية المسيحية، ومن جهة أخرى كان يرى في اليهود وكل اليهود، قتلة للمسيح، ومن هنا نشأ هذا الاحتقان في تعامل الأوروبيين كاثوليكَ وأرثوذكسَ مع اليهود، حتى حدثت القفزة الكبرى، بتجاوز هذه النظرة إلى ما يشبه الاستسلام إلى تجاور المسيحية واليهودية من خلال العمل في منطقة أخرى هي الأفكار العلمانية المعروفة : الديموقراطية والمواطنة والقانون المدني وفصل الدين عن الدولة، ومعنى ذلك تماماً أن المصالح فوق العقائد، وأن المواطنة فوق الدين، وعلى هذا انمحت الفواصل والفروق بين الناس، وتساووا أمام الدولة وقوانينها).
والعداء للسامية - وإن كانت بهذا المفهوم سلوكاً أوروبياً - إلا أن العداء لليهود - كونهم يهوداً - لها ما يفسرها - ولا نبرّرها نحن أبداً، وتفسير ذلك أن جماعات يهودية كثيرة تحلّت بمزايا (ظرفية) جعلتهم محطّ الكراهية والنفور..
مرة أخرى، فإن العداء للسامية الذي ترافق والعلمانية ، رغم أن هذا يناقض ذلك، وجد تعبيره الأكثر بروزاً والأكثر غموضاً في الوقت ذاته مع صعود النازية في ألمانيا، نقول إنه الأكثر بروزاً من حيث استهداف جماعات اليهود في عدد من البلاد الأوروبية، ونقول الأكثر غموضاً لأن العلاقة أو مجموعة العلاقات التي كانت بين النازية والصهيونية أو زعمائها ما تزال محلّ بحث وتمحيص من جهة، ومن جهة أخرى فإن ما قيل عن أعداد مَنْ قتلوا وكيف قتلوا محطّ تساؤل عميق، ومن جهة ثالثة، فإن استثمار ما جرى حتى هذه اللحظة من قبل "إسرائيل" وابتزازها الشعب الألماني والعالَم يثير غير سؤال حول كل ذلك، (ولكن كل هذه الأسئلة لا يجب أن يمنعنا القول إن ما جرى كارثة حقيقية بحق كل الشعوب، وإن النازية هي جريمة عصر بأكمله، وإن الحرب على النازية يعني إنكارها وإنكار مرتكبيها وأفكار أساليبها وإن كل من يفعل فعلها فهو مثلها).
وبعيداً عن هذا، فإن مفهوم العداء للسامية كان ذا خيرٍ عميم للحركة الصهيونية ولدولة "إسرائيل" فقد أصبح هذا المفهوم سيفاً مسلطاً على رقاب السياسيين والمفكرين والمثقفين الذين قد يتجرأون على انتقاد "إسرائيل" أو سياساتها ضد الشعب الفلسطيني، وعلى هذا فإن نقض هذا المفهوم أو دراسته وتعميق الحوار حوله سيفيد تماماً لجعله مجرد خدعة أخرى من خدع آلة إعلامية ضخمة ، مهمّتها تضخيم ما يمكنها الإفادة منه ، وتحقير ما يمكن أن يضرّها.
أوروبا هذه، وجدت أخيراً حلاً لمشكلة الجماعات اليهودية، وذلك بإيجاد أو خلق وطن لهم في فلسطين على حساب شعب فلسطين الأصلي ! إن حل هذه المشكلة بهذا الشكل يتلاءم تماماً والفكر الاستعماري من جهة والتوجهات العلمانية الأوروبية من جهة أخرى، وكلا الفكرين يقوم على إشباع الحاجات أولاً والبراغماتية ثانياً، وبهذا - ومهما كان شكل العلاقة بين الأوروبيين والجماعات اليهودية - انتهت في النهاية إلى إقامة وطن مدّعى في فلسطين على حساب شعب فلسطين، وبهذا تنتهي تلك العلاقة الطويلة من الحذر والتشكك والتأثير الخفي والتشابك السطحي والعضوي إلى أن تقرّر أوروبا (وهي هنا القوى الاستعمارية) إلى أن ترى في دولة يهودية حلاً لكل الأزمات السياسية والأخلاقية وحتى الدينية، (يجب هنا أن لا ننسى قوة العهد القديم).
ويبقى السؤال الاستنكاري الأكثر نفاذاً وأصالةً وهو: أننا نحن العرب ساميّون بامتياز ! فلماذا نُتّهم بالعداء للسامية ؟ ونحن عنوانها وجوهرها !؟ هل معنى ذلك أنّ الجماعات اليهودية ، والتي جزء منها غير ساميّ ، يريدون الاستحواذ على جينات العِرق السامي ، لكي يجدوا لأنفسهم جذوراً وأصولاً ليست لهم بالضرورة ، أو ليست لهم وحدهم بالفعل !
لقد تعوّد اليهود عبر قاعدتهم الصهيونية التي تجلّت فيما يُسمّى إسرائيل ، على احتكار صورة الضحيّة ، وها نحن نراهم يحتكرون السامية لأنفسهم .
وتقول المراجع إن مصطلح "معاداة السامية" أو "اللاسامية" قد انتشر في ألمانيا لأول مرة العام 1879 كمصطلح يرتبط بـ"كراهية اليهود"، وتم تعميم المفردة بطرق عديدة تتراوح ما بين التعبير عن الكراهية أو التمييز ضد أفراد يهود .. وصولاً إلى مذابح منظمة أو حتى هجمات عسكرية على "جيتوهات" اليهود، حتى أصبح اليوم سلاحاً مُشرعاً في وجه كل من يشكّك بـ"الهولوكوست"، أو يمسّ أي أمرٍ يتعلق - حقّاً أو باطلاً - باليهود أو بإسرائيل.
بقلم/ المتوكل طه