يروي الرواة أن الجنرال فرنكو الذي حكم اسبانيا دهراً، استفاق ذات يوم على أصوات الجماهير الغاضبة في الشوارع فسأل مرافقه: ماذا بهم الإسبان؟ لماذا يصرخون؟! ورد المرافق: لقد جاء شعب إسبانيا يودعك!. ورد فرنكو متسائلاً: لماذا والى أين سيذهب الإسبان!
انه منطق الطغاة في كل البلاد في مختلف العصور.. فالدكتاتور الذي لا يعترف بالشعب لا يعترف كذلك بالزمن.. وهو يفترض انه الباقي الأوحد بينما الأجيال تتعاقب على عبادته..
هذا يصح، بوجه عام، فكلهم يعتبر انه القائد والزعيم المفرد الذي لا مثيل له ولا شبيه.
بل ان كلا من “الرؤساء”، الذين جاءت غالبيتهم بانقلابات عسكرية اعترفوا انهم يجسدون الإرادة الشعبية، وصاروا ينظمون “الاستفتاءات” لتأكيد زعامتهم بالأصوات المزورة، ولعل نموذجهم المفضل هو بطل أول انقلاب ضد النظام الملكي في العراق حيث كان الهتاف المنظم: ماكو زعيم، إلا كريم! أي عبد الكريم قاسم (1958).
.. ولأن الديمقراطية اعتبرت، في ظل أنظمة الزعيم المفرد، رجس من عمل الشيطان فقد فرض على الشعب اجتنابها حرصاً على.. إيمانه!
.. ومفهوم ان معظم الأنظمة العربية، ان لم نقل كلها، تعتبر انها “ديمقراطية”، يستوي في ذلك النظام الملكي الوراثي (شبه الجزيرة والخليج ومعها الأردن) أو النظام الجمهوري (لبنان، سوريا، العراق، مصر والجزائر.. أما ليبيا فوضعها معلق في انتظار معرفة مصيرها كدولة ووطن لشعبها)..
اليوم، يتابع العرب في مختلف ديارهم ما يحصل من تطورات مهمة في كل من الجزائر والسودان، وهما دولتان من الأكبر في الوطن العربي، وللشعب فيهما تاريخ ناصع في مقاومة الاستعمار الاستيطاني الفرنسي (الجزائر) أو في مقاومة الاستعمار البريطاني ثم في مقاومة الطغيان بعد استقلال السودان، أو في مقاومة الطغيان وله تجارب عظيمة في هذا المجال (اسقاط حزب الأمة، إسقاط نميري ونظامه، ثم إسقاط نظام البشير، مؤخراً، وهو الذي لعب على الحبال جميعاً..).
فأما الجزائر فقد وقع فيها أول إنقلاب عسكري بعد ثلاث سنوات فقط من قيام الجمهورية المستقلة بعد مائة وخمسين سنة من الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي أنكر على شعبها هويته الوطنية العربية وأنكر عليه حقه بالاستقلال، ولقد قام بالانقلاب على الرئيس الأول للجمهورية الحرة والتي استعادت هويتها الأصلية (أي العربية) مع أحمد بن بله، قائد الجيش الوطني وصديق بن بله، العقيد هواري بومدين الذي حكم كإمبراطور، حتى في ملابسه، ولم يغادر السلطة بعد مرضه الطويل الذي ترافق مع الشلل وفقدان الذاكرة، الا في العام 1978، حيث تعاقب على الحكم مجموعة من الجنرالات من خاصته.. وكان الاخير بينهم عبد العزيز بوتفليقة الذي جدد له اركانه ولايته الرئاسية اربع مرات انتهت آخرها في بداية العام الحالي..
ولقد رفض بوتفليقة أن يغادر الموقع الفخم فانفجر الشعب في تظاهرات مليونية ملأت، وما تزال تملأ الميادين والشوارع كل يوم الجمعة، مطالبة بحكومة مؤقتة تجري انتخابات عامة لاختيار مجلس نواب جديد ينتخب بدوره رئيساً جديدا جديداً للجمهورية..
وكما في السودان كذلك في الجزائر، فان الجيش يناور ويساوم ويتمسك بان تكون له السلطة، مع “وعد” بان تجري الانتخابات بعد سنتين أو ثلاث، ويتم انتخاب جديد وفق مبادئ الديمقراطية.. المؤجلة.
مع الاشارة إلى أن الدول العربية المؤثرة لا تُظهر اهتماماً استثنائياً بالتطورات في الجزائر، بينما “تهتم” اكثر مما كان متوقعاً بما يحصل في السودان.. وبين المؤشرات ان بعض هذه الدول (الخليجية) تحديداً قد ارسلت من يقدم دعماً مالياً مؤثراً للانقلابيين، كما أن قمم مكة (العربية والاسلامية) قد استقبلت العقيد عبد الفتاح البرهان وهو أبرز القادة الانقلابيين ورحبت به ووعدته بالمزيد من المساعدات المذهبة للتغلب عل مشاكل الفقر والنقص الشديد في موازنة الدولة، لتخطي الازمة الاقتصادية الطاحنة التي تواجهها البلاد الغنية بمواردها الطبيعية والفقيرة بدخلها القومي.
هل تعني هذه الوقائع أن دول النفط والغاز تحاول شراء أنبل تحرك شعبي شارك فيه شعب السودان جميعاً، شبانا وشابات صبايا كأنوار الفجر والالوف المؤلفة من النقابيين والحزبين، فيهم الشيوعي، وحزب الامة، والاحزاب والنقابات، كما فيهم جماهير حاشدة من العمال والطلاب والعامة، وكلهم رافض لحكم العسكر، مطالب باستعادة الحياة الديمقراطية الذي اثبت شعب السودان جدارته بها لولا النزعة الانقلابية التي كادت تدمر البلاد بعد هذه الفترة الطويلة من حكم العسكر.
ولقد حسمت بعض الدول العربية (الخليجية اساسا) موقفها فأعلنت استعدادها لدعم حكم العسكر لفترة لا تزيد على ثلاث سنوات، يتم خلالها “تدريب” شعب السودان على الديمقراطية!
هناك اذن تبديل في المواقع: فقد انتقلت الانظمة الملكية والاميرية، بالنفط والغاز فيها، من الدفاع إلى الهجوم… وباتت تتجرأ على خلع انظمة واستبدالها بأخرى تابعة، باستخدام الذهب..
وبالتأكيد فان مثل هذا التوجه لا بد أن يحظى بتأييد “صفقة القرن” الرئيس الاميركي الذي لم يعرف مثيل، دونالد ترامب، الذي يهتم الآن بان يورط بعض القادة العرب الراغبين بالتورط في مشروعه الجهنمي الذي يستهدف، اول ما يستهدف تصفية القضية الفلسطينية على ايدي اهلها العرب..
وليس المؤتمر الجاري الاعداد لانعقاده في البحرين، التي تكاد تكون “قاعدة عسكرية وسياسية واقتصادية” للجميع، بريطانيين واميركيين ومعهم الاسرائيليون، دون أن ننسى السعوديين الذي يتخذون منها منصة خلفية لأي هجوم مفترض على جمهورية إيران الاسلامية.
ليس هذا المؤتمر الذي لن يحضره دونالد ترامب شخصياً، بل سيكلف برئاسته صهره جاريد كوشنر، الا “بروفة” تليها ضغوط اميركية ثقيلة لإنجاح دورته الثانية بعد استخدام الضغوط كافة، اقتصادية وعسكرية وسياسية على من “امتنع” عن الحضور، لأي سبب من الاسباب… وعندها تبدأ واشنطن في معاقبة “المتخلفين” عن المشاركة في المؤامرة الجديدة التي تستهدف، أولاً واساسا، فلسطين، قضية مقدسة تمثل حقوق شعب في ارضه وفي مستقبل له فيها.
وبرغم الاعلان الضعيف نسبيا الصادر عن “الرئيس الفلسطيني” برفض المشاركة في مؤتمر البحرين للشرق الجديد، كما يريده ترامب، فان شعب فلسطين كما سائر الشعوب العربية ستجد نفسها ملزمة بالتصدي لهذه المؤامرة الجديدة على مستقبل الامة العربية بعنوان فلسطين..
وليست اول مؤامرة اميركية (ومع الاسف عربية) على القضية المقدسة.. ولسوف تفشل كما سابقاتها، ولن تكون بين “اسلحة” ترامب في معركته داخل الولايات المتحدة الاميركية لتجديد ولايته.. بدماء فلسطين!
طلال سلمان
تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية