ترامب وصهره على خطى غولدا مائير

بقلم: عماد شقور

ما تشهده هذه الأيام من أحداث وتطورات، على صعيد القضية الفلسطينية، هو محاولات جادة لإعادة الوضع الفلسطيني الى ما كان عليه سنة 1963.
منذ النكبة حتى مطلع العام 1964، كانت «القضية الفلسطينية» مجرد قضية لاجئين، تسعى غالبية الاطراف (وخاصة الدولية) ذات العلاقة، الى إيجاد «الحلول الانسانية» لها. بمعنى تخفيف الضائقة المالية والمعيشية التي يعاني منها اللاجئون، على طريق إذابتهم في شعوب الدول التي لجأوا اليها، اضافة الى إلحاق الضفة الغربية بالمملكة الاردنية الهاشمية، ووضع قطاع غزة تحت الادارة المصرية. ويحضرني في هذا السياق ما أورده المؤرخ الاسرائيلي، توم سيغف، في كتابه «1949، الاسرائيليون الأوائل»، من أن حسني الزعيم، قائد الانقلاب العسكري الأول في التاريخ العربي الحديث، طلب اللقاء ببن غوريون، ليبلغه استعداد سوريا استيعاب 300 ألف لاجئ فلسطيني. لكن بن غوريون اشترط، (كما جاء في مذكّراته ليوم 16.4.1949)، لقبول اللقاء، ان توقّع سوريا على اتفاقية الهدنة اولاً، وان ينسحب جيشها الى «الحدود الدولية» شرق شاطئ بحيرة طبريا.
نعيش هذه الايام اياماً تاريخية، مشبعة، حد التخمة، بأحداث جسام، لا يقلل، قيد شعرة، من أهميتها، لا فذلكات صهر الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، ولا جهل وتجاهل وزراء وأمراء ورؤساء وملوك عرب، لحقائق ثابتة في الواقع الفلسطيني والعربي، وفي الوجدان الفلسطيني والعربي ايضا. هذا هو، بالضبط، ما يجعل من الطبيعي تماما، أن نذكر ونتذكر أحداثا عاشها جيلنا، وأصبحت تاريخا. ولعلّ أسوأ ما يمكن ان نُصاب به، كفلسطينيين وكعرب، ان لا نتعلم منها، وان لا نستفيد من عِبَرِها ودروسها.
يروون في اسرائيل ان رئيسة الحكومة الاسرائيلية، في حينه، غولدا مائير، ردت على سؤال عن مستقبل الفلسطينيين بالقول: «الآباء (الفلسطينيون) يموتون.. والاولاد ينسون». هكذا كان حلم غولدا مائير، وأمثالها من العنصريين اليهود في اسرائيل وغيرها. وحقيقة هي ان لا مبرر لنا، كفلسطينيين، أن نتفاجأ من مثل هذا الطرح، وهذه القناعات، من يهود أوروبيين لم يفهموا في تاريخهم معنى الوطن. بل وفي اوروبا ذاتها، أوروبا الاوربيون انفسهم. ولا بد أن نعرف ونعي انه تم عشرات المرات، وبتكرار متواصل، نسخ وطنية ملايين الناس: ينامون بجنسية وطنية ما، (في شمال ووسط، بل وفي جنوب أوروبا أيضاً)، ويستيقظون بجنسية وطنية جديدة. وأمثلة ذلك تكاد لا تُحصى. حصل ذلك قبل قرون. وحصل ذلك قبل واثناء الحرب العالمية الاولى. وحصل ذلك قبل واثناء وبعد الحرب العالمية الثانية. بل وحتى في العقود الاخيرة حصل مثل ذلك: في يوغوسلافيا وتشيكوسلوفاكيا وعديد من الدول الاوروبية الاخرى، وفي أقصى شمال شرق أوروبا، وخاصة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي. ولا حاجة للتذكير بما حصل في الأمريكيتين وفي استراليا.
في الشرق كله، وفي الشرق العربي بالذات، تختلف القواعد. فعن الشرق بشكل عام، يكفي ان نُذكِّر بأن شبه الجزيرة الكورية، كاملة، بشمالها وجنوبها المختلفَين حد التناقض، يتساوى رفض التناسي لما ارتكبه الاستعمار الياباني من جرائم وموبقات ضد الكوريين في الحرب العالمية الثانية. وفي آخر الاحتجاجات اليابانية على السياسات والتصرفات في كوريا الجنوبية، الاحتجاج الكوري الجنوبي الذي تمثّل بتخصيص مقعد خاص في كل وسائط المواصلات العامة الكورية الجنوبية، يوم ذكرى اندحار الاستعمار الياباني، لوضع دُمية من البلاستيك على شكل فتاة كورية، على ذلك المقعد، لتكون تمثلاً لعشرات آلاف الفتيات الكوريات اللواتي أجبرهن الاستعماريون اليابانيون ليكُنَّ «عبدات جنس» للجنود اليابانيين في أيام وشهور وسني تلك الحرب. وأكثر من ذلك: عدد من وسائط النقل العام في كوريا الجنوبية، كانت تتوقف في ذلك اليوم عندما تصل الى مقربة من السفارة اليابانية، وتطلق صفّاراتها.
هذا عن الشرق «الأقصى»، فماذا عن الشرق «الأدنى»؟؟. ثم: اقصى وأدنى عن ماذا؟. وهل أوروبا، و«غرب» أوروبا، تحديداً، هي مركز العالم؟؟.
نعود الى جوهر ما نحن فيه هذه الايام: أهمية الحركة الوطنية الفلسطينية، وعمودها الفقري حركة التحرير الوطني الفلسطيني ـ فتح، انها اعادت الامور (الفلسطينية) الى نصابها: قضية فلسطين قضية سياسية وطنية قومية بامتياز. فيها بعد جوهري أصلي يتعلق بالتحرر من الاحتلال والاستعمار الاسرائيلي الصهيوني. وذلك لا يُلغي على الاطلاق ما فيها، ولها، من أبعاد انسانية وحياتية واقتصادية. لكن «التذاكي» المكشوف، والمفضوح، والمرفوض، لا يقلل ولا يقدِّم ولا يؤخّر في هذا السياق.

في مطلع العام 1964 دعا الرئيس والزعيم العربي المصري الخالد، جمال عبد الناصر، الى عقد مؤتمر قمة عربي في الاسكندرية. أقر هذا المؤتمر اقامة وتشكيل منظمة التحرير الفلسطينية. كانت منظمة فلسطينية بغطاء ومحتوى عربياً. كان ذاك زمانا غير زمان هذه الايام. ولكن.. في مطلع العام الذي تلا، 1965، انطلقت الحركة الوطنية الفلسطينية الرائدة، حركة «فتح». وبعد نحوٍ من عامين من اعتمادها الكفاح المسلح، خاضت «معركة الكرامة» يوم 21.3.1968. وبفضل صمودها الذي كلّفها 97 شهيداً، وبدعم من الجيش الاردني، وبخاصة بمبادرة من الراحل الكبير، الفريق الركن مشهور حديثة الجازي، (من قبيلة الحويطات)، أصبحت حركة فتح هي العنوان الوطني الفلسطيني، بلا منازع. وهكذا اعتمدتها الحركة القومية العربية ممثلة بالزعيم العربي المصري، جمال عبد الناصر. ومنذ ذلك اليوم، بالتحديد، لم تعد «القضية الفلسطينية» قضية لاجئين. أصبحت قضية تحرر وطني من الدرجة الاولى.
كان ذلك في مطلع العام 1968. وها هو جاريد كوشنر، ومن معه، يحاولون إلغاء ما تم.
هذا هو البعد التاريخي لهذه القضية الوطنية التاريخية. حاول موشي ديان «اختراع» بديل عن منظمة التحرير الفلسطينية، التي تسلمت قيادتها حركة فتح. جنّد لذلك اسمه وحاول استمالة الشاعرة الفلسطينية الكبيرة الراحلة، فدوى طوقان، من نابلس، وفشل. حاول ذلك اسرائيليون آخرون، وأبرزهم اريئيل شارون بتدمير مخيمات غزة، وفشل. حاول ذلك اسرائيليون آخرون باعتماد عميل لهم من الخليل، هو، مصطفى دودين، وتشكيل «روابط القرى». (وأذكر، في هذا السياق، أن أحد أبنائه الذي التقيته في برلين، في حينها، قال لي بالحرف: «انت، وكل عضو في حركة فتح، (وكنت يومها عضواً في فتح)، أقرب لي من والدي البيولوجي مصطفى دودين»).
ها نحن اليوم مع أشرف الجعبري، وربما «حارات» مدن في فلسطين، إن لم يكن مع «مراحات» قرى في فلسطين.
هذا هو، بالضبط، ما نحن فيه: قضية فلسطين قضية انسانية معيشية، أم هي قضية سياسية وطنية. هذا هو السؤال الذي أوصل صهر الرئيس الأمريكي الى الاجابة المغلوطة.
لا يضيرنا في النهاية أن نسجل الملاحظات الثلاث التالية:
ـ من «القاعدة» الى «الماعدة»، وما بينهما. ومن «داعش» الى «ماعش» وما بينهما. ومن «النصرة» الى «المصرة» وكل ما بين هؤلاء وذاك من حركات وهمية ومخترعة، وتركيبات أخطبوطية أمريكية وصهيونية يهودية، ليست إلا فذلكات يتلهى بها مخترعوها، وإن كان لها ضحايا بالآلاف، نصل الى الجوهر: والجوهر هو ما قاله الرئيس الباكستاني الاسبق، برافيز مشرف. إذ عندما كان مُشرّف على رأس وفد بلاده الى الجمعية العامة للأمم المتحدة، أجاب على سؤال استنكاري حول قوله ان تسعين في المئة من مشاكل العالم سببها احتلال واستعمار فلسطين من قبل الحركة الصهيونية، حيث أجاب: ربما أن يكون في تقديري خطأ، اذ ربما ان الأصح هو: خمسة وتسعون في المئة من مشاكل العالم مصدرها هو الاحتلال والاستعمار الصهيوني اليهودي لفلسطين.
ـ سمعتُ، مع ملايين غيري، تبرير الرئيس الأمريكي، دونالد ترامب، لتراجعه عن قرار ضرب أهداف إيرانية، رداً على إسقاط إيران لـ«درة تاج» الطائرات الأمريكية المسيّرة للتجسس، وان السبب في التراجع، والامر بعودة الطائرات الأمريكية الى مرابضها، هو ان تلك الهجمات كانت ستؤدي الى مقتل 150 إيرانيا. حقيقة انني تخيلت انني أمام «المهاتما» دونالد ترامب. فنحن أمام قادة لدول عنصرية تفهم لغة القوة. مأساتنا هي انهم لا يفهمون إلا لغة القوة.
ـ ثم: اسرائيل، اليهود، الحركة الصهيونية العنصرية، يريدون الاستيلاء على فلسطين. «مشكلتهم الوحيدة» هي ان في فلسطين فلسطينيين!!.
هنا يجيء دور «العبقرية» اليهودية الصهيونية العنصرية: نأخذ ارض فلسطين، ونهجِّر الفلسطينيين الى الاردن، وربما الى غيرها من الدول ايضا.
يقودنا هذا الى ضرورة التمييز بين البلع والهضم: تمكنت الحركة الصهيونية من «بلع» العرب الفلسطينيين في إسرائيل. لكن، وبسبب العنصرية اليهودية الصهيونية، لم تتمكن من هضمهم. ثم جاءت (!) حرب 1967، واستولت اسرائيل على كامل الضفة الغربية وقطاع غزة. لم تستطع ابتلاعهما. تقيّأت غزة، مضطرة، وها هي تسعى لابتلاع الضفة الفلسطينية من دون فلسطينييها.
هذه هي العنصرية.

  عماد شقور

كاتب فلسطيني