إنه جنونٌ احتلالي مشهود يستهدف القدس والمسجد الأقصى المبارك ، وتتصاعد وتيرته لتحقيق الحلم الأسطوري العنصري ؛ والذي تمثل الإجراءات الاحتلالية المتلاحقة فيهما إحدى حلقات مسلسله الشيطاني ، مستغلة انشغال الأمة بمشاكلها المفتعلة ، وبعجزها الذي تم الترتيب له مسبقاً عن قصد وإصرار ، وباستقطاب بعض أبناء جلدتنا لتصفية قضيتنا الفلسطينية العادلة بتمرير صفقة القرن ، وبالتسويق لها خداعاً تحت عنوان فرصة القرن ظناً منهم أن الأمة تبيع دينها بثمن بخس دراهم معدودة وإن كانت مليارات أو بلايين ، فالقضية الفلسطينية وإن كانت تخص الفلسطينيين بالدرجة الأولى ؛ ولكنها في ذات الوقت تخص ملياري مسلم من هذه الأمة ، وأنهم لن يفرطوا فيها ولن يتنازلوا عن ذرة من تراب فلسطين التاريخية ولو مقابل أموال الدنيا ، فهم يفضلون عيشة الفقر والجوع والمعاناة على خيانة دماء أخيار الأمة وأبرارها الذين ضحوا بالغالي والنفيس للدفاع عنها ، فلا يملك أي شخص أو دولة مبادلة هذه القضية بأية صفقة تجارية أو سياسية أو اقتصادية مع أي طرف مهما كان فهذه القيم الغالية لا تقدر بمال .
وأما المسجد الأقصى المبارك فيتعرض لمحاولات متنوعة لا تتوقف لتهويده من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية بدءاً بمحاولة تقسيمه زمانياً ومكانياً ، ووصولاً إلى تهديمه وتقويض بنيانه من القواعد لإقامة الهيكل المزعوم في مكانه ، ولفرض الأمر الواقع على الأرض بحيث يصبح وجود المستوطنين والجماعات اليهودية وغيرهم من الصهاينة في المسجد الأقصى المبارك وفي ساحاته أمراً معتاداً وجزءاً من مشهده ومشهد مدينة القدس المحتلة .
وهنا نقول لهم : لتأخذوا الدروس والعبر من أحداث التاريخ وتقلباته وتبدل أيامه ، ففي الماضي وقبل عدة قرون خضعت مدينة القدس المباركة وما حولها من أرض فلسطين المقدسة لاحتلال الفرنجة ، فبسطوا سيطرتهم عليها وأحكموا قبضتهم على رقاب أهلها بل لقد ذبحوا عشرات الألوف منهم في يوم واحد ، وإمعاناً منهم في الإيذاء وانتهاك الحقوق اتخذوا من المسجد الأقصى المبارك اصطبلاً لخيولهم ، ورفعوا الصليب فوق قبة الصخرة المشرفة ، فكان هذا أمراً واقعاً فرضته القوة الغاشمة وأصبح جزءاً من المشهد اليومي لمدينة القدس ، واستمر هذا الحال عقوداً وعقوداً ، ولكن إلى متى ؟
لقد نهضت الأمة التي كادت أن تفقد كرامتها وعزتها وشرفها بضياع القدس والمسرى ، ونفضت غبار الذل والهوان عن نواصيها ، وتحررت من أغلال الضعف والخوف والعجز ، وبدأت العمل الدؤوب في خطة شملت أبناءها بمختلف شرائحهم وبالأخص في المدارس ، ووضعت الأسس والقواعد للتحرير واستعادة الأرض والمقدسات وقبلها استعادة قوتها المعنوية المنبثقة من فكرها وعقيدتها ودينها ، استغرقت هذه المهمة والصحوة سنوات وسنوات ؛ لكنها نجحت بفضل الله ثم بفضل مجموعة من القادة المخلصين الذين استلموا الراية عن بعضهم تِباعاً واحداً تلو الآخر حتى حققوا الهدف المنشود وهو تحرير القدس وتطهير المسجد الأقصى المبارك نهائياً من دنس الغاصبين ، فعادت لهما الهوية الحقيقية الثابتة ، وهي انتماؤهما لأمة النبي الخاتم سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ، فكانت جملة فترة الاحتلال هذه (88) ثمانية وثمانين عاماً ، ففي نهايتها كان التحرير وزوال الغزاة الغرباء القادمين من أقصى البلاد .
ومعلوم أن السنن الكونية والتاريخية والبشرية تتكرر وتتجدد في نتائجها كلما تجددت مقدماتها ، فستنهض أمتنا حتماً وستعيد لمدينتها المقدسة ولمسجدها الأقصى المبارك هويتهما العربية والإسلامية ، فهذا ما عهدناه منها كلما تعرضت القدس والمسرى للأسر والغزو والعدوان ، وهذا التاريخ أكبر شاهد على ما نقول .
فعلى سلطات الاحتلال الإسرائيلية ومن ورائها الإدارة الأمريكية وكل القوى التي تدور في فلكها أن يستذكروا هذه العبرة ، ومن أبسط الأدلة عليها ما جرى في شهر تموز من عام 2017 حيث أفشل المقدسيون الصامدون الأبطال محاولة سلطات الاحتلال زرع البوابات الإلكترونية على مداخل المسجد الأقصى المبارك ، وعليهم أن يستذكروا أيضاً ما جرى قبل أشهر حيث حطم هؤلاء المقدسيين العزل إلا من إيمانهم بربهم وتمسكهم بوطنهم ومدينتهم ؛ حطموا أغلال وقيود باب الرحمة الذي أغلقته ، فهي رسالة عظمى بأن المسجد الأقصى المبارك خط أحمر فعلاً لا قولاً فقط ، وبأن صفقة القرن لن تمر ، لن تمر أبداً ما دام في أمتنا عين تطرف وعرق ينبض ، لن تمر أبداً لأن أحداً لا يملك تهديدنا أو فرضها علينا بالقوة فإن شعبنا لا يلتفت إلى هذه التهديدات مهما كان مصدرها .
لذا فإنني أدعو كافة الشعوب العربية والإسلامية التي كانت تمثل دوماً العمق الحقيقي للقضية الفلسطينية ، والظهير الدائم والداعم للفلسطينيين في كل المحافل والأصعدة ، أدعوا هذه الشعوب التي ثارت على الظلم والقهر وأسقطت أنظمة الاستبداد إلى مزيد من مؤازرة ونصرة الشعب الفلسطيني في رفض المساس العلني بقضيته ومقدساته وأن لا تترك الفلسطينيين وحدهم في الميدان ، وأن تبقي قضيته حاضرة في قلوب أبنائها وضمائرهم ، فارتباطهم بها لم يكن ارتباطاً عاطفياً عفوياً ولا مرحلياً مؤقتًا في يوم من الأيام ، وإنما هو ارتباط عقائدي إيماني راسخ رسوخ الجبال لأن الله تعالى قرره من فوق سبع سماوات فقال سبحانه { سُبْحَانَ ٱلَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ إِلَى ٱلْمَسْجِدِ ٱلأَقْصَى ٱلَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَآ إِنَّهُ هُوَ ٱلسَّمِيعُ ٱلبَصِيرُ } الإسراء 1 ، فأمتنا تعلم يقيناً أن التآمر على تصفية قضيتها المركزية من أي طرف كائناً من كان والتماهي معه في ذلك خيانة عظمى لله ولرسوله وتنكر مرفوض لدماء الشهداء وتضحيات الأسرى الأبطال ، وأن كل ما يجري اليوم من وقائع وممهدات لمؤامرة صفقة القرن يرمي إلى رصد وقياس ردود فعل أبنائها واختباراً لمواقفهم ، مما يقتضيها الاضطلاع بمسؤولياتها في مؤازرته والقيام بأوجب واجباتها في التصدي للمؤامرات الخبيثة التي تحاك ضد أرضه ودرء الأخطار التي تتهدد قضيته ، ورفض أي صفقة تنال من ثوابتها وفي مقدمتها حق العودة أو تنال من مقدساتها وفي مقدمتها المسجد الأقصى المبارك .
وأخيراً فإنني أوجه النداء إلى شعبنا الفلسطيني وإلى كافة فصائل العمل الوطني لتحقيق الوحدة الوطنية الشاملة لمواجهة هذه المؤامرة ، مع علمنا بأن شعبنا الفلسطيني المجاهد الصابر المصابر سيظل متمسكاً بحقوقه ومرابطاً في أرضه ووطنه التزاماً بقوله صلى الله عليه وسلم { لا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين لعدوهم قاهرين لا يضرهم من خالفهم إلا ما أصابهم من لأواء حتى يأتيهم أمر الله وهم كذلك ، قالوا يا رسول الله وأين هم ؟ قال ببيت المقدس وأكناف بيت المقدس } رواه أحمد .
الشيخ الدكتور تيسير التميمي قاضي قضاة فلسطين رئيس المجلس الأعلى للقضاء الشرعي سابقاً أمين سر الهيئة الإسلامية العليا بالقدس