عقب إعلان «مليشيات رام الله» وحركة «حماس» رفضها «صفقة القرن» عاد الحديث عن وحدة وطنية فلسطينية وما إلى ذلك من لغو لا طائل من ورائه. فبقاء زعامات «مليشيات رام الله» وبطانتها رهن برضى العدو الصهيوني عنها يلزمها بتنفيذ الاتفاقيات التي وقعت عليها، وفي حال تراجعت عن أي منها وفي مقدمتها العمل مع العدو الصهيوني على حفظ أمنه ومنع اندلاع انتفاضة جديدة ضدها وضده، فسيقوم الأخير باعتقالهم جميعاً وطردهم، وسيجد خونة على استعداد للعمل معه وفق شروطه. كما إن الدول الأوروبية لن تكترث لمصير قيادات تلك المليشيات أو أتباعها، تماماً كما فعلت عندما توقّف ياسر عرفات عن تقديم جميع التنازلات المطلوبة منه ومن الشعب الفلسطيني، فتركوه محاصراً في غرفة في مقرّه المدمّر إلى أن قضى، إما بسبب تأثيرات مرض ما أو اغتيالاً، [لا يمكن التحقّق من الأمر إلا بنشر تقرير الأطباء الفرنسيين ذي الصلة].
هذه حقائق يعرفها محمود عباس تمام المعرفة، ويعرف أنه ليس بإمكانه اللعب مع العدو الصهيوني أو أن يناور، وهو لا يريد أن ينتهي نهاية عرفات وهو الذي تقمّص شخصية رجل السلام منذ زيارة السادات الخيانية إلى القدس وبيعه فلسطين [مفروشة - كما يقال] بمن فيها، تماماً كما فعل الملك حسين وجدّه وأعمامه من قبل وهذه حقائق معروفة وموثقة.
على أي حال، مسألة الوحدة الوطنية هي الورقة التي تستخدمها «مليشيات رام الله» وحركة «حماس» لإطالة أمد الأزمة الداخلية واحتفاظ كل منهما بما لديه من سلطة. فالمطالِبون بالوحدة الوطنية والمتحدثون عنها لا يخبرون المستمعين، إن وجدوا أصلاً، عن أسسها. فجماعة رام الله تطالب الجميع بالخضوع التام غير المشروط لسيادتها الكاملة ولاتفاقياتها وتفاهماتها مع العدو الصهيوني، ما يعني مطالبة الطرف أو الأطراف الأخرى بإلغاء وجودهم. هذه كانت سياستها منذ عام 1974 القائمة على الهيمنة وإلغاء الآخر كلّما أمكن ذلك، أو مطالبته بإلغاء نفسه إن لم تتمكن.
جماعة رام الله تعلم تماماً أنه من غير المسوح لها اتخاذ أي موقف أو خطوة من دون موافقة العدو الصهيوني إضافة إلى ضغوط داخلية من بطانتها، وخاصة أجهزتها الأمنية التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بأجهزة العدو. لا مصلحة لا لمحمود عباس ولا لغيره في أي تراجع عن سياستهم التدميرية في الساحة الفلسطينية، ولا هم قادرون على التراجع. أما رفض عباس صفقة القرن فأمر منتظر لأنه يعني، ضمن أمور أخرى، نقل مناصب القيادة إلى رجال الأعمال. لكن الأهم من ذلك، أن عباس وبعدما قدم كل المطلوب منه، إلا قليلاً، يعلم أن تجاوزاً آخر للخطوط الوطنية الحمر سيعني نهايته على يد الشعب الفلسطيني. الأمر نفسه واجهه عرفات عندما رفض عرض إيهود باراك في كامب ديفيد عام 2000 لأنه عنى عبور الخط الأحمر، المنطقة المحرّمة لدى الفلسطينيين، لذا اضطر لرفض العرض بذرائع مختلفة بعدما قدم للعدو تنازلات لم يكن يحلم بها، وهي التنازلات التي قدمتها أنظمة سايكس-بيكو العربية والأعرابية منذ مؤتمر باريس عام 1919، فكانت الساحة الفلسطينية تتهمها بالخيانة، وهي التهمة التي كانت تطلقها على الشخصيات الفلسطينية المتواطئة مع العدو ولنتذكر هنا روابط قرى مصطفى دودين.
ثم إن محمود عباس لا يحق له، قانونياً، مطالبة الغير في «الضفة والقطاع» بالخضوع له لأن ولايته الدستورية انتهت منذ ألف عام! أما حركة «حماس» فهي تدرك تماماً أن لا وحدة وطنية ولا من يحزنون، لذلك نجدها تتبنى خطاب الوحدة بل وتستقبل محمد دحلان وتنسق معه[!] لكنها ليست على استعداد لتقديم رقبتها لمقصلة محمود عباس وأجهزته الأمنية.
طبعاً، ليس من المعقول مطالبة حركة «حماس» بتقديم رقبتها للعدو الصهيوني وحلفائه، لكن إن أرادت حقاً الإسهام في تخفيف وطأة معاناة أبناء شعبنا في القطاع المحاصر، فعليها الالتزام بإجراء انتخابات حرة ونزيهة هناك تكون تحت إشراف فلسطيني محايد ووفق ضوابط صارمة وإعلان التزامها بنتائجها مهما كانت. وعليها التوقف على نحو نهائي أولاً وقبل كل شيء عن محاولة أسلمة المجتمع في القطاع. فقد فازت في الانتخابات على أسس وطنية وليس بسبب إيديولوجيتها الدينية؛ بل يمكن القول إن حركة «حماس» لن تقبل بإجراء أي انتخابات لعلمها بأنها ستخسر أي انتخابات حرة ونزيهة. هذا كله لا يعني أننا نقلّل من احترامنا لمقاتلي كتائب القسام ولا من الأهمية القصوى لضرورة بقائها قوة في الساحة الفلسطينية.
أخيراً، بالنظر إلى الحقائق آنفة الذكر، فلن نرَ أيّ تحرّك في الساحة الفلسطينية تجاه حلحلة الأوضاع، وهذا لن يجر إلّا بظهور قيادة فلسطينية جديدة، لكن هذا أمر قد يتحقق في المستقبل غير المنظور.
زياد منى