هل نحن بحاجة الى جراحة سياسية قوامها تصحيح المسار الوطني الديمقراطي؟ سؤال كبير بحجم ما خلفه الماضي؛ للحاضر والمستقبل من أزمات ومشكلات، ومن المؤكد أن الإجابة عنه، ليست يسيرة لكنها ممكنة! بدءا، فإن الحوار كأسلوب حضاري، يتم اللجوء إليه لحل الإشكاليات المطروحة، لتجاوز العقبات القائمة، وتذليل الصعاب بين كافة الأطراف، وفقا لضوابط ومؤهلات، حسب ظروف الزمان والمكان، مهما كان مصدرها ومرجعيتها الإيديولوجية وخلفيتها المكوناتية.
تتغير أحوال الشعوب، وتتقلب أوضاعها، بين صعود ونزول، فتفقد دورا مهما وحضاريا، فتعمل لإستعادة مجدها الغابر، لكن الشعوب العريقة، التي تملك حضارة أصيلة، لا تركع إلا إن فقدت رغبتها بالنهوض.
تراجعُ الشعوب، وفقدانها لدورها الحضاري، حال تمر به جميعا، نتيجة لظروف ومحن تصيبها، أو لفقدانها بوصلة طريقها، أو لغياب القيادات الرشيدة، ويحصل بسهولة وسرعة مخيفتين، لكن النهوض يتطلب زمنا طويلا، مع توفر ظروف مساعدة، وإرادة حقيقية.
الهدم والتراجع، قد يكون بفعل خارجي، ومتعمدا ومخططا له، نتيجة لصراع الحضارات وأسباب سياسية وإقتصادية، أو لأسباب تتعلق بالإحتلال والنفوذ، وكانت تحصل عسكريا وبالقوة.
لم تعد القوة الآن، أداة لهدم الشعوب والأمم، وظهرت طرق أسهل وأيسر، وأكثر خبثا من خلال إستخدام الشعوب في هدم نفسه، فيكون الهدم مجانا دون جهد كبير، ومدمرا أكثر، فأهل مكة أدرى بشعابها.
يقال إنك لكي تهدم شعب أو أمة، يجب ان تحقق أمورا ثلاث، أولها ان تجعل نسائهم، تخجل من جزئية دورها كأم وصانعة أسرة ومجتمع ومستقبل، وثانيهما ان تُفقد الموظف والمعلم والمثقف والاكاديمي والمهني والطبيب إحترامهما، وثالثها أن تسقٌط قدوات الشعوب والأمة ومسؤولوها وقادتها في عيون الجماهير.
رغم أن تلك الأمراض موجودة، عند غيرنا لكن الجزئية الثالثة، صارت مرضا خطيرا عندنا، فلم نعد نحترم أي شخص مهما كان دوره، ولا نقيم وزنا لأي من ساستنا وقادتنا، مهما كانت تضحيتهم ومسؤولياتهم، ولا نعرف كيف نقوم بشكل موضوعي ومعتدل، بل وفقدنا بوصلة الأدب العام، في إنتقادنا فصرنا نسقط قدواتنا، دون تمييز، بين حدود النقد والأدب والأخلاق.
يقول قرآننا الكريم ((يخربون بيوتهم بأيديهم))، في وصف حال اليهود.. فهل نحن نتبع سيرتهم, ونخرب بيوتنا بأيدنا.. ونهدم أمتنا بما نفعله من تلك القبائح الثلاث؟
هو ما نحتاجه اليوم من قيادات وساسة الوطن وجعله الهدف الذي يعملون من اجله والوصول الى اعلى مراحل الاحساس به وعليهم كذلك تحفيز هذا الاحساس لدى من يمثلهم، فواقع الوطن الفلسطيني بدأت تلوح في سمائه بوادر التراجع وخاصة في الجانبين الامني والخدمي والتاهيلي والإقتصادي وحتى السياسي والوطني، وللأسف الشديد لا زال البعض من القادة والسياسيين في واد وواقع الوطن والمواطن الفلسطيني في واد اخر، فهناك تراجع بكافة مناحي الحياه يشهده الشارع الفلسطيني، وقادتنا بعيدون كل البعد عن همومه وشجونه وآهاته، فهم الى الان لم يستطيعوا الخروج من دائرة الاستنكار والادانة لما يصيب الوطن من انقسام وتشرذم وأعمال تخريبية وتدميرية لكل مقومات الوطن، ويأملون ان يشهد الوطن تحسنا (مع الاسف ) ومن اجل ماذا؟ كرسي هنا وكرسي هناك ومنصب هنا ومنصب هناك وليبقى الشعب الوحيد في مواجهة اعداء الوطن ووحده يتحمل اعباء هذه المشادات السياسية الفئوية الصغيرة، كل هذه الامور جعلت شعور المواطن يتنامى اتجاه هذه القيادات وعدم مصداقيتها، لأنها فقط تسعى وراء مصالحها وعلى حسابه هو غير آبه لم يصيبه من اذى هذا الإنقسام.
لقد عانى الوطن والمواطن وما زالوا يعانيان من قصور خدمي واضح فشلت أغلبية الحكومات السابقة في تحقيق ما كان يتمناه المواطن منها في رؤية حكومة خدمات تعمل على انجاز الملفات الخدمية بمختلف عناوينها من الماء والكهرباء والإعمار وغيرها ووضع حد لحالات الفساد الخطير التي تنتشر كالسرطان في جسد مؤسسات الدولة وتتسبب بإهدار المال العام وتقويض أحلام المواطنين في رؤية مستقبل مشرق أمامهم.
إننا أبناء هذا الوطن، وهو بيتنا وعائلتنا، وهؤلاء يستحقون أن نتفاعل معهم، ونطلق المبادرات المسؤولة، حتى يكون بمقدور الجميع البدء بالمرحلة الجديدة التي تتطلب مسؤولية من طراز خاص، تشبه رجلا ناجحا يتعامل مع أسرته وفق مبدأ الشعور بالمسؤولية لتحقيق النجاح بأقصى درجاته، نعم مرحلة البناء هذه تتطلب شعورا بالمسؤولية من طراز جديد.
لا أحد من الفلسطينيين يمكن أن يُعفى من هذه المسؤولية، على الرغم من أن هذه المسؤولية تبدو خاصة بالرئاسة والحكومة ومؤسساتها، ولكن قضية بناء الحاضر والمستقبل هو أيضا مسؤولية عامة المواطنين، فالجميع يقع عليه عبء متساوٍ في هذا المجال، إذ من غير الإنصاف أن لا نتعامل بمسؤولية عالية وحاسمة في مجال البناء، لاسيما أن الأمر يتعلق بأمرين أو بعدين زمنيين متعالقين مع بعضهما، ونعني بهما الحاضر والمستقبل، حيث تتطلب عملية البناء حضور المسؤولية بأعلى درجاتها.
أن الدول القوية لم يتم بناءها بالكلام، ولا التصورات، ولا الأمنيات التي تنتجها العقول الكسولة والإرادات الخاملة، فجميع الدول والأمم التي تبوّأتْ مركز الصدارة اليوم في قيادة العالم، توافرت لها إرادات عظيمة بالغة الذكاء، نقلتها من التخلف الى التقدم، ومن الخمول الى الحركة النشيطة، ومن الاستهلاك الى الإنتاج، وقدمت في ذلك جهودا وتضحيات كبرى أسهم فيها الجميع من دون استثناء، ولكن دائما كانت هنالك عقول ترسم وتصمم وتخطط، وهناك أذرع تحول ذلك التصميم الى منجز عملي قائم فعليا، فيجعل من الدولة والأمة في مصاف الأمم المتفوقة.
وكنا نأمل أن تتوفر فرص يمكن من خلالها أن تتغير الأوضاع السياسية والاجتماعية في فلسطين، خصوصا بعد عام من عودة السلطة الوطنية على ارض الوطن، حيث استبشرت الجماهير بمرحلة بناء جديدة، بناء متعدد الجوانب، بناء يغادر الأنهاج العشوائية تماما، ويستند الى أسس صحيحة ومعاصرة، يشمل السياسة والاقتصاد والتعليم والخدمات البلدية والصحة والثقافة وما الى ذلك من مجالات أخرى، تشترك في بناء الدولة الفلسطينية الحديثة، وفق خريطة عمل مرسومة الاهداف مسبقا، ومضمونة النتائج بعد أن تتوافر فرصة البناء القائمة على ارادة الذكاء والتصميم والتخطيط العلمي.
في الحقيقة علينا الاعتراف بأمرين في هذا السياق:
الأول: إمكانية بناء نظام سياسي متطور فيما لو توفرت النية الصادقة والعمل الجاد لهذا الهدف.
الثاني: العمل الجاد على التخلص من أعباء الماضي بكل ما تحمله من تعقيدات وأمراض في كافة المجالات.
وفيما يتعلق بهذين البندين، لا تزال مجموعة كبيرة من القيادات والساسة مشغولون عن بناء مؤسسات الدولة بمصالحهم وأحزابهم وفصائلهم وجبهاتهم الوطنية والسياسية، لذلك فإن الماضي كما هو واضح، لا يزال يلقي بظلاله الثقيلة على المرحلة الجديدة، وأن المعوقات التي كانت تقف في طريق بناء مؤسسات الدولة الفلسطينية، صارت تتجدد باشكال وسبل جديدة، وأن مهزلة الإنقسام والتشرذم والفوضى الخلاقة، هي مثال صارخ على العشوائية الجديدة، التي أخذت تحد من فرص بناء دولتنا العتيدة، في ضوء خريطة طريق واضحة المعالم وسهلة التطبيق، وليس من الصعب على المراقب أن يلحظ بوضوح، غياب التخطيط الاستراتيجي بعيد المدى، في المجالات السياسية، والاقتصادية والمالية والإجتماعية وسواها، ناهيك عن الانشغال شبه الكلي، بإدارة دفة الصراع، بين عناصر العملية السياسية، وفقا لتحقيق المصالح الفئوية، او الجهوية، مع غياب شبه تام للرؤية الحقيقية لبناء دولة فلسطين، التي تنتمي لروح العصر.
لذا على الطبقة السياسية أن تبحث عن الخلل الذي يقف كحجر عثرة في طريق بناء الدولة، وهذا يعني أن ضعف الارادة السياسية للنخب المعنية بهذا الامر، وجهلها بسبل التخطيط الاستراتيجي، وانشغالها بالمنافع قصيرة المدى، يشكل سببا مباشرا في عدم توافر إرادة بناء ذكية وواضحة المعالم، تسعى لبناء الدولة الفلسطينية بطرق وأساليب معاصرة.
نعم هنالك فرص كبيرة لا تزال مفتوحة وقابلة للإنجاز، هدفها بناء دولة فلسطين المتقدمة، ولعل المشكلة الأكثر حضورا في هذا الخصوص، تتمثل بتحجيم دور الكفاءات وإقصائها وتحييدها، بل وتشريدها اذا اقتضى الامر، وكلنا نتفق على أن خلو الوطن من الكفاءات، لهذا السبب أو ذاك، وفي هذا المجال أو ذاك، يعني استمرارا للعشوائية، وتواصلا مع مراحل تعويق البناء الامثل للدولة، ومع أن النخب والقادة المعنيون، يعرفون تماما ماذا يعني تحييد الكفاءات، إلا أن المصالح ذات الأفق الفردي الآني، أو الحزبي الضيق، تقف عائقا وسدا منيعا أمام التعامل الصحيح، مع هذا الخطر الكبير، الذي يحيق بقضية بناء الدولة الفلسطينية المحدثة، فرعاية الكفاءات واستثمار ذكاء الإرادة الوطنية بالصورة المثالية – وهو أمر ليس بالمستحيل- أمر ممكن الحدوث عندما تتوافر العقول والإرادات الناجحة لتحقيق ذلك.
وهكذا سنصل بالنتيجة الى نوع من التوافق والاتفاق الشامل، يقضي بأننا كفلسطينيين نحتاج الى خريطة طريق، لبناء الدولة، تنطوي على خطوات واضحة، وتشمل الميادين كافة، وهذه المرحلة التي نعيشها حاليا، تشكل فرصتنا الذهبية لتحقيق هذا الهدف، وفي حال إهدارها، فإننا قد نحتاج الى مئة سنة أخرى، لكي نحصل على فرصة أخرى، لبناء دولة فلسطين المتقدمة، وهذا لعمري غبن كبير وظلم لا يمكن قبوله في أي حال، أما الأمر المقبول والصحيح، فهو المساهمة في الشروع بوضع اللمسات الحقيقية لبناء الدولة الفلسطينية العصرية التقدمية الدستورية المتكاملة.
آخر الكلام:
بعد الرحلة الشاقة التي قطعتها دولة فلسطين وشعبها مع الانقسام والإحتلال والحرمان والحروب والدمار، بات أمرا ملزما أن يشعر الجميع ممن يهمهم أمر هذا الوطن، بأن مرحلة البناء والتعويض قد بدأت، وأن رحلة العذاب قد شارفت على نهايتها، لذا ينبغي على أهل الشأن والمهتمين بحاضر ومستقبل الوطن الفلسطيني، أن يمسكوا بزمان المبادرة وأن تبدأ عملية بناء الوطن ماديا معنويا وتأهيليا، على أن يشمل ذلك تغيير المواطن وجعله كائنا عمليا مسؤولا تقع عليه أعباء النهوض بالوطن في مرحلة جديدة يمكن أن نطلق عليها مرحلة بناء فلسطين العتيدة.
بقلم / رامي الغف*
*صحفي وباحث سياسي