(1)
■ ونحن نتابع نشاطات العراب الأميركي لورشة البحرين، وتصريحاته، وإقتراحاته، ونصائحه المزعومة، للفلسطينيين، تخيلنا أنفسنا أمام الرجل الأبيض، كريستوفر كولومبوس، رسول الإقطاعيات والملكيات الأوروبية، ورحلاته في خدمة بناء المستعمرات في «العالم المتوحش». إذ بدا كوشنر، وهو يتحدث عن الشعب الفلسطيني المتخلف، الجائع، الجاهل، الواقف على قارعة الطريق، الفاشل في بناء الإزدهار، الفوضوي الباحث دوماً عن العنف والإضطرابات وسيلة لتحقيق مآربه، صاحب النوايا السوداء، الرافض للتقدم إلى الأمام، المتمسك بالتقاليد البالية، تقوده قيادة فاسدة، تحاصره بسلطاتها القمعية وتمنع عنه الإنطلاق نحو الفضاء العالمي، لذا توجب أن يأتي المخلص كوشنر، حاملاً هداياه الإقتصادية، التي إنتشلها من صناديق العرب، ليقدمها هدية أميركية، ورشوة رخيصة، لإدخال الفلسطيني حظيرة الطاعة الأميركية – الإسرائيلية.
ونحن نتابع كوشنر، وتصريحات أصدقائه الإسرائيليين، الذين إحتفت بهم المنامة، كأصدقاء أعزاء، ووفرت لهم كل سبل الراحة، حتى أنهم لم يشعروا على الإطلاق بأدنى شعور للغربة..
ونحن نتابع كل هذا، عادت إلى ذاكرتنا توصيفات الدعاة الأوائل للصهيونية، في توصيفهم لأرض فلسطين (أرض بني إسرائيل) التي يحتلها الشعب الغريب الجاهل، الكسول، الذي حولها إلى مجرد مستنقعات، وصحراء قاحلة، وجبال جرداء، ومسرحاً لقطعان الماعز، تنتشر في أرجائها عشائر البد. والبدوي كما يصفه الغرب في أدبه، (وقلة أدبه) وفي أفلامه، ودعايته، إنسان غدار، لا يعرف الوفاء، يقتلك وأنت نائم من أجل حفنة من الدولارات، أو حتى قربة ماء.
ولأجل إنقاذ الشعب الفلسطيني، وإعادته إلى الحضارة والمدنية (كما أعاد الغزو الأوروبي الهنود الحمر إلى جهنم الحضارة الغريبة)، كانت ورشة كوشنر في البحرين.
ولأجل إزدهار الأرض التي يقيم عليها الفلسطينيون في الضفة الفلسطينية، وإنقاذهم من براثن الجوع والجهل، وتحررهم من عادات البدو، وإبعادهم عن أجواء العنف والإضطرابات، شارك يوآف مردخاي، الرئيس السابق للإدارة المدنية لسلطات الإحتلال في الضفة الفلسطينية. فهو، في فترة ولايته، عجن الفلسطينيون وخبزهم، ويعرف جيداً من أين تؤكل الكتف الفلسطينية(!)■
(2)
■ رغم إدعائه بالإنتماء إلى الحضارة الغربية، ورغم محاولاته المفضوحة، ليلعب دور الأوروبي حامل المدنية ورغد العيش والإزدهار للفلسطينيين، إلا أن كوشنر، لم يستطيع أن يخفي الجانب الأسود من صورته، والتي تتطابق مع صورة سيده في البيت الأبيض، ومع حليفه وصديقه الحميم في رئاسة حكومة دولة الإحتلال.
ما يقوم به كوشنر، هو عمل في مضمونه، لا ينتمي لا لهذا القرن، ولا لهذا العصر، قد حاول التهرب من عبارة «صفقة» لأنها كشفت خلفيتها التجارية الإنتهازية، ونظرته إلى مصير الشعوب ومصالحها كنظرته إلى العقارات التي يتاجر بها، أبنية جامدة، يمكن تهديمها، وإعادة بنائها وفقاً لخرائط جديدة.
لذلك لا يعترف كوشنر بالقرارات الدولية ذات الصلة بالقضية الفلسطينية.
• لا يعترف، لا هو ولا إدارة ترامب بالقرار 242 الذي أقر ضرورة الإنسحاب الإسرائيلي الشامل من كافة الأراضي الفلسطينية المحتلة بعدوان الخامس من حزيران، في فلسطين ولبنان، وسوريا، والأردن، ومصر.
ويعتبر أن إحتلال إسرائيل لهذه الأرض حولها إلى ملك لدولة الإحتلال، على سبيل المثال إعترافه بالسيادة الإسرائيلية على الجولان المحتل، ومزارع شبعا، وتلال كفرشوبا، وأجزاء من الضفة الفلسطينية، والجنوب اللبناني، وأجزاء من قطاع غزة، ومستوطنتي الغمر والباقورة في الغور الأردني.
• لا يعترف بالقرارات ذات الصلة بمدينة القدس، بل يقول عكس ذلك مؤكداً ما أسماه «حق إسرائيل في إختيار عاصمتها». ولو طبق هذا المبدأ على العلاقات الدولية، وإعترف المجتمع الدولي لكل دولة الحق في إختيار عاصمتها، لدخل العالم كله في حروب كونية، مدمرة، لا نهاية لها. (كوشنر يدعي حق إسرائيل في إختيار عاصمتها، وترامب يرفض رفضاً قاطعاً أن يختار اللاجئون حقهم في اللجوء إلى الولايات المتحدة، فيقيم عند الحدود جدران الفصل العنصري لصالح الرجل الأبيض في مواجهة الرجل الخلاسي والملون، المتخلف والمصاب بالأمراض العصبية).
• لا يعترف بالقرارات التي تكفل لشعب فلسطين حقه في تقرير المصير، لذلك يتحدث عن ضرورة الحل السياسي، ويتحدث عما يصفه بالحل العادل، لكنه يتكتم على مضمون هذا الحل، ويشترط على العرب والفلسطينيين الدخول في التطبيع المسبق مع إسرائيل، تمهيداً، وكشرط، للكشف عن هذا الحل■
(3)
■ يطول حديث كوشنر عن الوضع الفلسطيني، وعن الحل، لكنه يتجنب الإشارة إلى أمرين:
• الأمر الأول هو الإحتلال فهو، في مشروعه لا يعترف بوجود إحتلال، هناك صراع فلسطيني – إسرائيلي، وكأنه هبط فجأة من السماء، ليست له جذور وأسباب ومحركات. وبالتالي المطلوب هو «السلام»، وليس الإنسحاب الإسرائيلي من المناطق الفلسطينية والعربية المحتلة. والمطلوب هو الإستقرار، المفروض على الفلسطينيين بقوة القمع الإسرائيلي، بالقتل، والتعذيب، والإغتيالات والإعتقالات والحصار وتحويل المناطق المحتلة (مدن وبلدات وقرى ومخيمات) إلى معسكرات حصار مسيجة بالمستوطنات، تحت هيمنة القوة العسكرية الغاشمة.
• أما الأمر الثاني فهو الإستيطان. وهو أمر لا يأتي على ذكره أبداً. ما هو قائم عمران إسرائيلي على أراضي أهملها الفلسطينيون وهو إمتداد لحق إسرائيل في بناء نفسها وتوسيع مساحاتها.
لذلك إعترفت الإدارة الأميركية بشرعية الإستيطان المزعومة، وإعترفت بالحق المزعوم لإسرائيل، ليس في ضم المستوطنات فحسب، بل وكذلك في ضم الأجزاء الواسعة من الضفة الفلسطينية. مسألة «الضم» هذه أمر مشروع وهو من أسس «الحل العادل» الذي يعد به كوشنر، «لإنهاء الصراع» و«إحلال السلام». وهذه كلها عبارات محشوة بالمتفجرات القاتلة، وبضاعة فاسدة، مازال «الوسيط» و«الراعي» الأميركي يبيعها لأصحاب أوسلو منذ أكثر من ربع قرن من الزمان.
لذلك لا يتحدث كوشنر عن الإستقلال بل يتحدث عن «التنازلات من الطرفين». من الفلسطينيين ضحايا الإحتلال ودولة الاحتلال التي تنهب الأرض، وتسفك الدم الفلسطيني في الاغتيالات اليومية ■
(4)
■ في خطوات ذات دلالات عدة، قام بها كوشنر، وتابعها من بعده شركاؤه في الفريق الثلاثي، جيسون غرينبلات، وديفيد فريدمان، ماله علاقة بمدينة القدس.
فقد أهملت خطة كوشنر الاقتصادية مدينة القدس، ولم تأتِ على ذكرها، في تأكيد عملي من قبل الجانب الأميركي أن المدينة بات أمرها محسوماً، وليست موضوعاً تفاوضياً بعد الآن، فهي «العاصمة الأبدية» لدولة الاحتلال الإسرائيلي. ومسألة عمرانها مسألة إسرائيلية لا يتدخل في شؤونها أي طرف آخر.
تأتي هذه الخطوة في إطار اعتراف إدارة ترامب بالمدينة عاصمة لإسرائيل، نقل سفارة الولايات المتحدة إليها.
ولعلها ليست صدفة، أنه في الوقت الذي كان فيه كوشنر يعرض على المشاركين في ورشة البحرين، مشروعه «للازدهار من أجل السلام»، كان نير بركات، رئيس بلدية الاحتلال في القدس (سابقاً) يقدم مشروعاً «تنموياً» للقدس، في إطار خطة شاملة تربطها بالمنطقة (ج) المنوي ضمها لدولة الاحتلال، والتي تقوم إسرائيل بنشاطية ملحوظة في التخطيط لضمها عبر العشرات من مشاريع التهويد، التي تحول الضم «أمراً واقعاً»، على غرار «الأمر الواقع» للجولان، و«الأمر الواقع» لباقي المستوطنات في أنحاء الضفة، خاصة ما يسمى بمستوطنات «غلاف القدس» التي تستهدف تطويق المدينة، وعزلها، والفصل النهائي، الجغرافي، والإداري، بينها وبين باقي مناط الضفة ما يؤدي إلى استكمال فرض الحصار على المقدسيين وتدمير ما تبقى من مكونات مجتمعهم وأسسه، وبكل ما في هذا الأمر من تداعيات فاشلة على ريف القدس الفلسطيني، الذي كانت المدينة تشكل رئتيه اللتين يتنفس منهما.
والخطير أن خطة بركات أطلقت، ولم تثر لدى المراجع الفلسطينية رد الفعل الضروري سوى تقرير وصرخة، أصدره المكتب الوطني لمقاومة الاستيطان والدفاع عن الأرض الذي يترأسه عضو اللجنة التنفيذية تيسير خالد، وتتولى إدارته الباحثة مديحة الأعرج (نابلس).
كذلك ليست مصادفة، في الوقت نفسه، أن يتم، بعد انفضاض أعمال الورشة في البحرين، افتتاح ما يسمى بـ «طريق الحجاج» (نفق سلوان) الممتد تحت البلدة العربية، والذي يتهددها بالانهيار، وتشريد أهلها وسكانها.
يمتد النفق إلى جوار المسجد الأقصى، شارك في الافتتاح (وهنا الإشارة الكبرى) الثنائي غرينبلات وفريدمان. ولعل رمزية أن يتقدم فريدمان، وهو يحمل مطرقة الهدم ليفتتح النفق، أثارت انتباه الكثيرين، حتى أن بعض المعلقين الإسرائيليين عبروا عن تخوفهم أن تحمل هذه الخطوة رسالة إلى الفلسطينيين والعرب والمسلمين، أن الولايات المتحدة لا تمانع (ولن تمانع) إذا ما حاولت دولة الإحتلال المس بالمسجد الأقصى وتهديد أساساته بدعوى البحث عن «الهيكل الثاني».
(5)
■ لا يكشف كوشنر عن «الحل العادل»، لكنه يعترف أنه يشكل «الحل الوسط» بين مبادرة السلام العربية، وبين الشروط الإسرائيلية. مبادرة السلام العربية تتحدث عن الإنسحاب الإسرائيلي الشامل من كل الأراضي العربية المحتلة بعدوان حزيران 67، وعن قيام دولة فلسطينية مقابل التطبيع مع إسرائيل، مقابل التلويح بحل لقضية اللاجئين «توافق عليه إسرائيل» (أي يتراوح بين التوطين والتهجير).
الحل الإسرائيلي يتحدث عن «الحل الإقتصادي» أي «الإزدهار مقابل السلام»، في ظل إدارة ذاتية للفلسطينيين تحت الهيمنة الشاملة لدولة إسرائيل. كوشنر، ابتدأ من مسألة اللاجئين، حين دعت ورشته إلى توطين اللاجئين، مقابل إزالة المخيمات ( التي أسهمت في حفظ الهوية الفلسطينية) وتحويلها إلى «مدن حضارية» و«حضرية» بهدف دمجهم في المحيط وتذويب شخصيتهم الوطنية وإلغاء كيانيتهم السياسية. وهذا أمر حسمه ترامب في «صفقته» حين أوقف دعم بلاده للأونروا، لتجفيف مصادرها، ونقل خدماتها إلى الدول المضيفة، وحين دعا إلى عدم تجديد ولايتها في الجمعية العامة للأمم المتحدة، وحين دعا إلى إعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني، لنزع الصفة القانونية عن ملايين اللاجئين بذريعة أن اللاجئ هو من ولد في فلسطين قبل العام 1948.
التوليفة التي يدعو لها كوشنر، والتي بدأ عملياً بتطبيقها، هي الأخذ بالتطبيع بين العرب والمسلمين وإسرائيل، قبل الإنسحاب من الأرض العربية المحتلة (حسمت الولايات المتحدة وإسرائيل مسألة ضم الجولان وتلال كفر شوبا ومزارع شبعا). وهذا ما بدأت به ورشة البحرين. فما جاء في الصحافة الإسرائيلية يوضح إلى أي مدى تقدمت عملية التطبيع بين إسرائيل ودول الخليج (البحرين – الإمارات – قطر، عمان) خاصة في ظل تردد الوفود الإسرائيلية على المنطقة، وفي ظل حديث عن مشاريع تعاون أمني إسرائيلي – خليجي، لا يستثني العربية السعودية، بذريعة قيام الحلف الأمني العسكري «ضد إيران».
ومن شأن الفلسطينيين أن يقلقوا بعدما أصبحت الجولات الإسرائيلية في دول الخليج ظاهرة عادية، وبعد أن بدأت بعض الأبواق الخليجية تنتقد الفلسطينيين، وتنتقد رفضهم لصفقة ترامب، ومقاطعتهم لورشة البحرين، من أجل تبرير سياسات الأنظمة الخليجية.
ومما لا شك فيه أن التطبيع سوف يوفر لإسرائيل عناصر قوة، ويلحق بالفلسطينيين الضرر الشديد، ويضعف موقفهم، مما يتيح لكوشنر استكمال تحضير المسرح السياسي لإطلاق مشروعه السياسي، الذي لن يتجاوز في سقفه، مشروعاً للإدارة الذاتية للفلسطينيين بدلاً من الدولة، يطلق على هذه الإدارة اسم «فلسطين الجديدة»، تبنى لها عاصمة في الأحياء العربية المجاورة للقدس تسمى «القدس الجديدة».
ولعل الخطوات الميدانية التي اتخدتها إدارة ترامب، وحكومة الإحتلال، تشكل تمهيداً لمثل هذا المشروع.
ولعل هذا، أيضاً، ما يفسر، لماذا أطلق كوشنر الشق الإقتصادي لخطته قبل الشق السياسي. فالشق الإقتصادي هو الممر نحو التطبيع. والتطبيع هو الممر لفرض الحصار على الفلسطينيين وليّ ذراعهم لجرهم إلى «مقصلة القرن» تحت رعاية صفقة ترامب – نتيناهو.
بقلم/ معتصم حمادة