نشر الأمريكيون بتاريخ 2 تموز (يوليو) الجاري الجزء الاقتصادي من صفقة القرن، وقد قرأتها جيدا وتفحصتها، ودققت جيدا فيما بين السطور وتحتها، ولاحظت أخطاءها اللغوية. وفيما يلي تعليق مختصر على بنود هذا الجزء.
ثقة مفقودة
1 ـ بداية، نحن الشعب الفلسطيني بصورة عامة لا نثق بالأمريكيين، وكانت منظمة التحرير الفلسطينية السبب الأول بالتغرير بالشعب الفلسطيني عندما قبلت بالولايات المتحدة وسيطا لإقامة سلام فيما يخص القضية الفلسطينية.
من بين الفلسطينيين من يظن خيرا بأمريكا، لكن الغالبية الساحقة من الشعب تعتبر الولايات المتحدة دولة معادية وخارجة عن القانون الدولي وتهدد السلام والأمن العالميين. نحن لا ننسى أعمال أمريكا في تهجير اليهود إلى فلسطين، وضغوطها على الدول في الأمم المتحدة للتصويت لصالح تقسيم فلسطين، وضغوطها للتسامح مع الكيان الصهيوني لمنعه عودة اللاجئين، ولا نغمض أعيننا عن حقيقة أن السلاح الأمريكي قتل عشرات آلاف العرب في فلسطين ومصر والأردن وسوريا ولبنان والعراق واليمن، وما زال يمعن بقتل الناس بأيد صهيونية وعربية خائنة.
2 ـ عنوان هذا الجزء غير سليم. العنوان ينص: "من السلام إلى الازدهار". أين هو السلام ومتى حصل؟ العنوان يقترض أن السلام قد حصل على الرغم من أن أمريكا تستمر في تأجيج الصراع من خلال إجراءاتها وسياساتها المعادية للشعب الفلسطيني والأمة الإسلامية. وفاقد الشيء لا يعطيه. أمريكا ليست مؤهلة لإقامة سلام لا على المستوى الإقليمي ولا العالمي.
دول لا تفكر إلا بالأرباح
3 ـ يفترض اقتصاد صفقة القرن أن الفلسطينيين حيوانات مجترة يسيل لعابها أمام أموال مجبولة بالدم العربي والإسلامي ومسمومة بكراهية وأحقاد غربية. وقد يُبهر من يقرأ هذا الاقتصاد من عامة الناس الذين لا يملكون علما اقتصاديا. الحديث عن الاقتصاد الفلسطيني مفعم بالعسل واللبن، ومن يواصل القراءة يشعر أن الجنة باتت في متناول اليد، وما على الفلسطينيين إلا أن يضغطوا على الزر.
يخاطب هذا الجزء أمعاء الشعب الفلسطيني وجيوبهم، ولا يخاطب عقولهم. هل من المعقول أن تقدم دول استعمارية مصاصة لدماء الشعوب أموالا من أجل راحة شعب مظلوم وهي أساس الظلم الواقع عليه منذ عشرات السنوات؟ هذه دول لا تفكر إلا بالأرباح ونهب ثروات ومقدرات الشعوب، وليس من المعقول أن يتنزل عليها فجأة ملاك الرحمة، وإذا كانت ستساعد فذلك مؤقتا كنوع من جرّ الرجل لتحقق مكاسب كبيرة مستقبلا. إنها أشبه من تكون بالمحسن الكبير الذي يمص دماء الناس أو يخون شعبه ويتخفى بعد ذلك بعباءة الإحسان.
4 ـ لا يخاطب اقتصاد ترامب كينونة فلسطينية لا على مستوى الأرض ولا على مستوى الهوية. إنه يتحدث عن الفلسطينيين بصورة عائمة وكأنهم قطيع غنم ينتظر العلف. لا يوجد إطار سياسي تندمج فيه ومعه الخطة الاقتصادية. ومن بديهيات العمل الناجح على مستوى الشعوب توفر بنية سياسية وقانونية للبرامج الاقتصادية الأمر الذي تتجاهله الخطة.
خطة لا تذكر الاحتلال
5 ـ في كل الخطة، لا يأتي الأمريكيون على ذكر الاحتلال الإسرائيلي. إنهم يتحدثون بدون أدنى انتباه لوجود الضفة الغربية تحت الاحتلال، وغزة تحت الحصار. ولا يأتون على ذكر إسرائيل إلا عند الحديث عن التعاون الإقليمي. واضح من الخطة أن الأمريكيين مهتمون بدمج الصهاينة في المنطقة العربية مع بقاء الاحتلال واغتصاب الأرض الفلسطينية بأكملها. فكيف يمكن أن تقوم جنة ترامب في ظل الاحتلال الصهيوني؟
6 ـ كل الترتيبات التي تتحدث عنها الخطة تتجمع لتشكل العصابة الدولية التقليدية التي هدمت اقتصاد الشعوب ومكنت الدول الاستعمارية من الاستيلاء على الثروات. تلتقي المساعدات المالية التي سيتم جمعها في الغالب من الدول الغربية ودول العرب المتخلفة الحليفة لأمريكا مع خبراء أجانب، ومستثمرين فلسطينيين وغير فلسطينيين وضامنين غربيين ومؤسسات مالية مثل بنك الإنماء الدولي الذي سيتم استحداثه، ومن المحتمل إدخال البنك الدولي وصندوق النقد الدولي ومنظمة التجارة العالمية في الشركة. وهذه جميعها مؤسسات في خدمة الاستعمار والامبريالية العالمية.
ومن المفيد جدا إعادة قراءة كتاب قاتل اقتصادي للمؤلف جون بيركنز لنتأكد أن هذه الصفقة الاقتصادية ستدمر الفلسطينيين نهائيا. بالأمس تم فتح البنوك الفلسطينية أمام المقترضين، وتورط مئات آلاف الفلسطينيين بقروض بنكية ذات فوائد عالية، وتم كسر ظهر العائلات ماليا، وبات المقترضون في هموم مستمرة ليلا ونهارا، أما خطة ترامب فتتحدث عن مصارف وبنوك إقراض للشعب الفلسطيني مقابل رهن عقارات.
ومن الواضح أن فوائد التنمية الاقتصادية لن تكفي لسد الفوائد المالية المترتبة على القروض، وبالتالي ستستولي المؤسسات المالية على العقارات الفلسطينية وفق القوانين التي ستكون معمولا بها. وبالتالي سنفقد ما تبقى من أراضينا وسيتم الاستيلاء على بيوتنا. وربما سيشترطون في المستقبل رهن نسائنا.
لم تدخل المؤسسات المالية الدولية دولة إلا خربتها. وكانت ماليزيا حذرة جدا من تدخلات هذه المؤسسات على الرغم من ضغوط الولايات المتحدة للتعامل معها. العديد من دول العالم لم تعد تحت الاستعمار الأمريكي المباشر، وإنما تحت استعمار المؤسسات المالية التي تتحكم بالسياسة الاقتصادية لصالح الإمبريالية العالمية.
رشاوى للبنان والأردن ومصر
7 ـ الخطة الاقتصادية ستقدم الرشاوي للبنان والأردن ومصر. لبنان والأردن من أجل تصفية المخيمات الفلسطينية وإزالتها من الوجود. لبنان لن تقبل. النظام الأردني سيقبل على الرغم من ثقتنا الراسخة بشعبنا العربي الأردني. أما مصر فسيكون مطلوبا منها تقديم تسهيلات موانئ ومطارات ونقاط عبور، وربما تقديم جزء من أراضي سيناء. يتم استثناء سوريا من التعاون الإقليمي.
8 ـ الخطة تقضي بتحسين الموارد الاقتصادية في الضفة الغربية وقطاع غزة، لكن تتكرر في الخطة مسألة تطوير مصادر مياه الشرب. التطوير الاقتصادي يفترض التركيز على الزراعة والصناعة وهما قطاعان يتطلبان الكثير من الموارد المائية، ولا يمكن لمياه الشرب أن تفي بكل الأغراض المطلوبة اقتصاديا. أي أن الاحتلال المائي لفلسطين سيبقى مستمرا.
9 ـ الشعب الفلسطيني تعلم من درس أوسلو. أغرى الغرب منظمة التحرير بالمال فوقعت اتفاق أوسلو المذل والمهين، ولن يتكرر المشهد مع صفقة القرن. نحن لا نبحث عن مال، إننا نناضل من أجل وطن غاب أهله عن ربوعه.
10 ـ المطلوب فلسطينيا التعلم من تجارب دول طورت فكرة الاعتماد على الذات. نحن بحاجة للاستفادة من تجارب كوبا وماليزيا وكوريا الشمالية وتركيا وإيران لنطور مقتضيات الاعتماد على الذات. ويبقى النزر القليل القائم على الزيت والزعتر أفضل من النعم الاستهلاكية التي ندفع وطنا ثمنا لها.
الدكتور عبد الستار قاسم