شعارات مثالية رنانة وواقع داقع مغاير- بين الحلم والحقيقة

بقلم: رائف حسين

الأقوال المأثورة والحِكَم والجُمَل المعبرة هي جزء من كل ثقافة في هذه الدنيا ... الثقافات المختلفة تتميز عن بعضها البعض بقدرة المجتمعات التي تنتمي لهذه الثقافة على رسم  حياتها اليومية وسيروة  المجتمع وعلاقة الأفراد بهذا المجتمع والأفراد ببعضهم البعض وفقا ً لفلسة حكمائهم وأقوالهم المأثورة وامثالهم الشعبيه والتماشي معها وبحسبها...  مصداقية المجتمعات المختلفة مع نفسها تقاس بقدرتها على العيش حسب معايير أقوالها الشعبية و كلامها الماثور... العلاقة بين المصداقيه في الحياة اليومية والتعامل المتبادل وفقا لثقافة المجتمع بتشعباته  هي علاقة طردية ببعد او قرب هذا المجتمع من الحداثة. 

في الثقافة الإسلامية التي تنتمي لها مجتمعات عديدة و أكبرها وأهمها المجتمع العربي بكل مكوناته هنالك أقوال مأثورة عديدة،  لا حصر لها ، ومن أهمها الجملة الأكثر تداولاً بين الأفراد والمجموعات بالحيز الخاص والحيز العام  :  النظافة من الايمان .

لا اود الان ان ادخل  في نقاش موضوع الإيمان والتدين والدياليكتك بينهما فهذا موضوع فلسفي اجتماعي معقد… لكن لا بد من التنويه ان الشرق العربي بمجتمعاته المختلفة وثقافاته المتنوعة ، ومنذ زمن طويل،  اصبح لا يفرق بين الإيمان وبين التدين وبين مظاهر ومعالم كل منهما. وأصبح استعامل المصطلحين، من قبل عامة الشعب والنخبة،  بالترادف،  امر عادي. ارهاصات كثرة التدين وقلة الإيمان نراها ونراقبها في كل يوم وفي كل زاوية وفي كل بلد.   ان كانت النظافة من الإيمان او النظافة من التدين فهذا الامر لن يغير من الواقع الداقع بمعظم مدن وقرى الشرق العربي شيئاً (هنا استثني مدن الخليج العربي).  

لا اريد الان الربط بين قلة النظافة في الحيز الخاص والحيز العام بزيادة التدين لما في هذا الافتراض من افتراء وقلة علمية… لكن ما يمكنني ان اجزم به ان الشرق العربي، حيز جغرافي ومجتمعات، أصبح يحتل مكانة مرموقه بين شعوب العالم وجغرافيتها بقلة النظافة … القمامة أصبحت للاسف الصورة الطاغية على ثقافة الشرق. 

ان كانت الجملة المعبره والمأثورة: النظافة من الايمان صحيحه، وانا لا اشك بذلك، فالاستخلاص الأول يجب ان يكون ان قلة النظافة نابع من قلة الايمان! 

وانا على يقين تام ان أي إنسان تكلموه بهذا الموضوع سوف يرد عليكم بإصرار وثقة عالية ان الدين الإسلامي الحنيف ونبيه العظيم اوصونا بالنظافة … لكن الواقع مغاير كلياً لهذا الكلام  وهذا ما نشاهده ونراقبه في معظم الجغرافيا العربية… الحقيقة هي ان الدين الإسلامي شدد على نظافة الجسد والروح والفكر والنوايا والبيئة… لكن هذا ما زال حلم منذ أربعة عشر قرن والواقع على الأرض يرينا صورة أخرى رغم زيادة التدين وممكن أيضاً زيادة الايمان عند الأفراد … صورة شوارع مملوئة بالنفايات وساحات الجوامع والمقابر والأماكن العامة تملئها اكياس البلاستيك والأثاث القديم والثلاجات والنفايات الأخرى … والبعد بين ما أوصى به الدين الحنيف والواقع يزداد يوم بعد يوم رغم  زيادة التدين ومظاهره بكل المجتمعات ألعربيه.  

السؤال الواجب طرحهه الان : لماذا نعيش هذا الواقع الداقع؟ ولماذا أصبحت النفايات الصورة الأكثر انطباعاً عن ثقافتنا العربية  في رؤوس كل من زارونا من ثقافات ومجتمعات أخرى؟

الجواب سهل وبسيط… النفايات أصبحت للاسف جزء طاغي في الثقافة العربية الشرقية وأحداً لا يعير هذا الموضوع اهتمام كافي رغم ان الكل يشكي من الواقع… لا الأفراد ولا المؤسسات ولا المسؤولون يكترثون لهذا الامر… الكل سواسية في تحمل  المسؤولية والكل مطالب بالبدء بتغيير الواقع … لكن كيف؟

 

موريتانيا الدولة العربية الإسلامية كانت سباقة في منع استعمال اكياس البلاستيك التي كانت معظمها تتجمع بالبحر وتلوثه وتلوث الثروة السمكية التي يعتاش منها عدد كبير من ابناء هذا الشعب وحذت قبل أسابيع مصر بالاتجاه نفسه ومنعت استعمال البلاستيك على سواحل البحر الأحمر … 

هذه خطوات ايجابيه وتتجه بالاتجاه الصحيح لكنها ليست كافيه… اذ ما زال المواطن العربي لا يشعر بان الحيز العام جزء يخصه وهو يتعامل معه وكأنه حاوية نفايات كبرى … النظافة من الإيمان يجب ان تتحول من شعار رنان إلى واقع تعيشه الشعوب العربية الإسلامية وتتعامل معه النخبة  وتجعله جزء أساسي في ثقافتها. 

نعم أنا على يقين تام بان نقصان المواطنة الحقيقية في دول الشرق العربي هي سبب أساسي في تعامل المواطن باللامبالاة في الحيز العام ونظافته … المواطن لا يشعر بانه يتبع للدولة التي يقطن بها ويعتبر الحيز العام ملك للنخبة السياسة التي تنهب المواطن وتسلب حقوقه الشخصيه والإنسانية وتسيطر عليه وعلى مستقبله بدكتاتورية والمواطن العادي تراه بالتعامل مع الحيز العام وكأنه يعاقب هذه النخبة بتلويث ما تملكه. 

الفقر كسبب لتلويث البيئة ، الذي يأتي به البعض عندما يتحدث او يكتب عن هذه الظاهرة المشينة،  هو فقط نصف الحقيقة اذ ان هنالك شعوب في مختلف الثقافات التي تعيش في مستوى حياة اقل بكثير من المجتمعات ألعربيه ولكنك عندما تزور قراهم تراها انظف من معظم العواصم ألعربيه، رغم الفقر والقلة التي تعيشها هذه الشعوب … الأسباب لهذا الواقع في هذه الثقافات بسيط جداً … الكل، شعوباً ونخبة تتحمل مسؤوليه الحفاظ على النظافة في الحيز الخاص وفي الحيز العام وأصبحت النظافة في هذه المجتمعات جزء أساسي في ثقافتها بينما نحن بالشرق ما زلنا نتغنى بالشعار فقط .

لمجابهة هذه الآفة الطاغية لم تعد تكفي الشعارات الرنانه ولم يعد تكفي الإشارة إلى الدين وأقوال الرسول العظيم ولن تكفي أيام العمل التطوعي لتنظيف الشوارع والساحات العامة والمقابر ، رغم أهميتها …

 اصبح علينا، شعوبا ونخبه،  ان نقوم بتحول جذري في هذا المجال لنغير الواقع ونبدأ بالعيش في مجتمعاتنا وفقاً لأقوالنا الحكيمة وقيمنا  التي نتبناها والتي ما زالت بأكثرها حبراً على ورق فقط. 

الخطوات سهلة جدا وممكن اختصارها بالتالي:

أولا ان نبدأ كأفراد بتطبيق شعار النظافة من الإيمان في حياتنا اليوميه والعودة إلى الثقافة التي رُبينا عليها من قبل اجدادنا عندما كنا مجتمعات زراعية وقبل ان ننتقل لنصبح مجتمعات انتقاليه … أي لا زراعية ولا صناعية خدماتية … في. ذلك الزمان كان إلقاء كيس بلاستيك بالأرض كارثة كون هاذا الكيس يحجب الحياة عن الأرض ولا ينبت فوقها شي … في. ذلك الزمان كانت الجغرافيا العربية انظف وكان احترام الحيز العام جزء من احترام الذات.

ثانياً لم يعد يكفي تربية الطلاب بالمدارس والبيوت على أهمية النظافة والبيئة وبعد دقائق يرى الطفل والشاب المعلم والمعلمة والأب او الأم يرمون بسيجاراتهم في الحديقة او في الطريق وترى الأم آتيه من السوق بعشرات اكياس البلاستيك وتلقي النفايات من حديقة البيت خلف السور ويراقب الأولاد كيف يقوم اهلهم برمي الثلاجة القديمة وأحشاء الذبيحة بين أشجار الزيتون… ما هو مطلوب ليس تربية الأولاد بل ان يكون الكبار من اهل ومربين قدوة في هذا المجال .

ثالثاً لم يعد يكفي بان تقوم البلديات والمجالس المحلية بزع مئات اللافتات التي تطالب بالمحافظة على النظافة والبيئة في الوقت الذي لا تقوم هذه الجهات الرسمية باقل ما يمكن للحفاظ على النظافة … حاويات النفايات العامة، ان وجدت أصلاً في القرى والمدن، لا يتم الاهتمام بها ولا يتم تفريغها إلا موسمياً… زرت قرى ومدن عربيه كثيرة في مختلف الوطن العربي وفي معظمها لم ارى حاوية نفايات عامه واحده… راقبوا هذا الامر في أماكن تواجدكم لتروا ان الواقع مر وداقع.

رابعاً اكثر الشعوب التي تتغنى وتتذكر امواتها هي الشعوب العربية وهذه ميزة نبيلة يجب المحافظة عليها … لكن زيارة قصيرة للمجنة القريبة منكم ستريكم ان هذه الشعوب بأفرادها ومؤسساتها تتقن الدجل بامتياز … معظم المقابر بالعالم العربي هي اشبه بالمزبلة … وفقط قبور الزعامات يتم المحافظة عليها وعلى نظافتها وتقديسها … الشعوب التي تحترم نفسها وتاريخها هي الشعوب التي تحترم امواتها … المقابر في مجتمعات عديدة اشبه بالحدائق وترى المواطنون يذهبون هناك للتمشي والتمتع بالطبيعه… أما في الوطن العربي فالبشر يهربون بعد الدفن لتفادي المناظر البشعة في المقابر.

 

لائحة الخطوات التي ممكن ان نقوم بها أفراداً ومؤسسات للتخلص من هذا الواقع الداقع طويلة جداً ولا يمكن حصرها بمقال متواضع صغير …  ما علينا، أفراد ومؤسسات ان نقوم به هو ان نبدأ بتطبيق أقوالنا المأثورة ونبتعد عن التقني بالشعارات الرنانه فقط … ما بحك جلدك الا ظفرك … هذا المثل العربي الفلاحي الأصيل عليكم جميعاً وفوراً ان تبدأوا بتطبيقه… ابدأوا في بيوتكم وحدائقهم والشوارع المحيطة بكم وطالبوا المسؤولين بالقيام بواجبهم 

مقال بصفحة 86..الكاتب والمحلل والمفكر السياسي رائف حسين- المانيا