أشارت دراسة أعدها الباحثان كارميت بادان ومائير الران من "معهد أبحاث الأمن القومي في جامعة تل أبيب "إلى حدوث تغيّر خطير في حالة "المناعة الاجتماعية" في القرى الصهيونية المحيطة بقطاع غزة، والتي تعرف باسم "قرى غلاف غزة"، وحدث هذا التغيّر في المناعة في أعقاب انطلاق مسيرات العودة التي بدأت في قطاع غزة بتاريخ 30 مارس 2018م، وما شملته هذه المسيرات من أنشطة "المقاومة السلمية" مثل إطلاق البالونات والطائرات الورقية الحارقة، وغيرها من الأنشطة السلمية، وكذلك "جولات التصعيد" القصيرة المتتالية خلال هذه الفترة والتي تُطلق خلالها قذائف صاروخية باتجاه "قرى غلاف غزة" نتيجة الاعتداءات التي كانت تقوم بها قوات الاحتلال الصهيوني ضد أهداف مدعاة في قطاع غزة.
يعبر مفهوم "المناعة الاجتماعية" من الزاوية الوظيفية عن قدرة النظام الاجتماعي لمنطقة سكانية ما على مواجهة واحتواء "تشويش شديد أو إرباك مفتعل" بصورة لينة، والانتعاش والتعافي من هذا "التشويش والإرباك" بسرعة والعودة إلى الوضع والأداء السليم وحتى المتحسّن مع الوقت بشكل مناسب".
وتشير الدراسة التي نشرت يوم الخميس الماضي 04/07/2019م، إلى أن أبحاثا جرت حول "المناعة الاجتماعية" في "قرى غلاف غزة"، بين العامين 2006 – 2016، دلّت على وجود "مناعة اجتماعية عالية في هذه البلدات"، وذلك بموجب عدة معايير، بينها القدرة على التنظيم، والقيادة، والثقة الاجتماعية، التي أشارت إلى أن أداء البلدات دلّ على "قدرة وظيفية عالية أثناء المواجهات وعلى نمو سكاني واجتماعي واقتصادي لفترة طويلة، بين المواجهات وبعدها، والتي كان أبرزها "حرب الفرقان 2008-2009، وحرب حجارة السجيل 2012، وحرب العصف المأكول 2014، وغيرها من المواجهات خلال هذه الفترة" رغم التهديد المتواصل في هذه المنطقة والذي وصل ذروته في جولات المواجهة العنيفة الثلاث، وبينها "الجرف الصامد"، في العام 2014، بحسب التسمية الصهيونية، والتي تميزت بطول فترتها وبتشويش بالغ للحياة العادية في هذه القرى؛ إلا أن الدراسة أكدت على أنه منذ انطلاق مسيرات العودة عند السياج الأمني المحيط بقطاع غزة، في نهاية آذار/مارس 2018، "طرأت تغيرات واضحة على شكل التشويشات الأمنية الصادرة من قطاع غزة.
وتؤكد الدراسة على أنه؛ منذ وقف إطلاق النار بعد "الجرف الصامد" (وهي التسمية الصهيونية لحرب العصف المأكول) بثلاث سنوات ونصف السنة؛ كانت هذه الفترة هادئة نسبيا قبل أن يبدأ ضغط متواصل على "بلدات غلاف غزة" مع انطلاق مسيرات العودة وما نفذت فيها من أنشطه كالبالونات المتفجرة والطائرات الورقية الحارقة، التي سببت حرائق كثيرة في منطقة "الغلاف" وما نتج عنها من تدمير بيئي كبير وتشويش وإرباك مس بشكل مباشر الحياة العادية للمستوطنين، نتيجة احتراق أكثر من خمسين ألف دونم –حسب ما ذكرته الدراسة- وهذا يشمل؛ إضافة لحرق حقول زراعية، وأضرار شديدة لحقت بمزارع الحيوانات والنباتات في المنطقة بشكل عام، ويضاف إلى ذلك قصف غير متوقف وإزعاج متواصل لسكان "الغلاف"، وخاصة في البلدات القريبة من السياج الأمني، ويرافق هذا الوضع سلسلة من "جولات التصعيد" القصيرة والقوية، والتي تتميز بإطلاق قذائف صاروخية بأحجام واسعة، ويشمل إطلاق قذائف مضادة للمدرعات باتجاه مركبات جيش الاحتلال بشكل مباشر.
وفي المقابل، شملت عمليات الجيش الصهيوني، حسب الدراسة، إطلاق النار باتجاه مواقع عسكرية لحركتي حماس والجهاد الإسلامي، وتضييق مساحة الصيد في قطاع غزة، ومؤخرا وقف نقل الوقود إلى محطة توليد الكهرباء في القطاع، ثم استئنافه في إطار اتفاق التهدئة. وقالت الدراسة إن "هذه الأحداث المتواصلة قوضت وتقوض بصورة متتالية وبشكل متطرف الحياة العادية للمستوطنين في هذه المنطقة وتُسبب أوضاعا نفسية تتسم بالعصبية لهم طوال الوقت.
ووفقا للدراسة، فإنه في هذه الظروف التي تتزايد وتيرتها مؤخرا في منطقة "الغلاف" نتج عنها تعالي أصوات متنوعة بين الجمهور الصهيوني في "قرى غلاف غزة" وذوي المناصب والقيادة المحلية في المؤسسات والمراكز الحكومية، تتحدث عن مؤشرات لبداية اتجاه محتمل لـ"انهيار المناعة" لدى المستوطنين كأفراد وكذلك البلدات كتجمعات وظيفية، وذلك في أعقاب ما يسمونها بـ"حرب استنزاف متواصلة".
وتشير الدراسة إلى وجود العديد من الشكاوي التي تشدد على أن الخوف والشعور بانعدام اليقين عاد ليسود في قسم كبير من هذه المستوطنات، وفي إثر ذلك يُسمع كلام حول النية بالمغادرة، خاصة بين العائلات الني يكون لديها أولاد، وفي المقابل تشير الدراسة إلى تراجع حجم وعدد الأشخاص والأسر المعنيين بالاستيطان في هذه المنطقة، وتؤكد الدراسة على أن "مراكز المناعة" الموجودة في هذه المستوطنات غير قادرة على الصمود أمام ضغوط المتوجهين إليهم، وبالأساس أنه لا أمل بتهدئة، أو تسوية أو اتفاق سياسي طويل الأمد بين (إسرائيل) وحماس، يسمح بحياة عادية وطبيعية، وتبرز الدراسة عبارة؛ "الإسفنج مليء" وهي عبارة سائدة بين سكان "قرى غلاف غزة" الذين يشكون من وضعهم، ويشعرون بعدم الاستقرار وانعدام الثقة في تحقيق الاستقرار في المستقبل المنظور.
وأشارت الدراسة إلى أن مؤسسات مثل؛ طواقم الطوارئ، ومراكز المناعة، وغرف العمليات الحربية، وفرق مسلحة، وطواقم إخماد حرائق، واتصال مباشر مع الفرقة العسكرية اللوائية التابعة للجيش الصهيوني – كانت تعمل "على أفضل وجه" في السنوات الماضية –حسب الدراسة-. وكان سكان هذه المنطقة يخرجون منها أثناء فترات التهدئة ثم يعودون إليها.
وتشير الدراسة إلى أنه؛ خلال السنة الماضية ارتفع عدد السكان الذين انتقلوا للسكن في (قرى غلاف غزة) ببضعة آلاف معدودة، وتشير الدراسة الى الدعم المالي الضخم الذي تقدمة دولة الكيان الصهيوني في الاستثمار في عدد من المشاريع القطرية الضخمة في محاوله منها للسيطرة علي تداعي وتآكل "المناعة الاجتماعية" في هذه المنطقة.
وبرغم ما سبق، فقد تساءلت الدراسة حول ما إذا كان استمرار "جولات التصعيد" لفترة طويلة سيمس في المستقبل بالمناعة الوظيفية في "قرى غلاف غزة"، ورأت الدراسة أنه "لا توجد إجابة واضحة على هذا السؤال. ورغم ذلك؛ وعلى خلفية تجارب الماضي، في (إسرائيل) والعالم، في مواجهة التشويشات وحالة الإرباك التي تسببها الطبيعة والإنسان، ليس مستبعدا أن تستقر الظاهرتان – المواقف العصبية لدى السكان والمناعة الاجتماعية المرتفعة – إلى جانب بعضهما. وذلك بحال توفر شرطين في الحالة (الإسرائيلية):
الأول: وهو متوفر حسب الدراسة؛ ويتمثل في مدى قدرة القيادات المحلية الصهيونية في "قرى غلاف غزة" على توفير مستوى عالٍ من الخدمات الأساسية، ومن ضمنها رد معقول في مواجهة التشويشات وحالة الإرباك الناتجة عن الانشطة الصادرة من قطاع غزة، وبناء وتعزيز الثقة بشكل عام حول "شعور بأننا معا"، وتعزيز قيم المجتمع والانتماء إلى المكان.
والثاني، وهو ليس متوفرا، ويعتمد على قدرة الحكومة الصهيونية على منح سكان "قرى غلاف غزة" أملا بإمكانية الوصول إلى حل سياسي دائم، من شأنه أن يمنع، أو يقلص بشكل كبير من حالة الإرباك والتشويشات الأمنية المتكررة في المنطقة. وفي هذه الحالة، تشير الدراسة إلى أن الحكومة الصهيونية تعزز انتشار حالة تتسم بالضبابية في كل ما يتعلق بسياستها ضد حماس وتمتنع عن طرح أي حل سياسي مستقبلي أمام الجمهور للحد من التشويشات المتواصلة.
وتنتهي الدراسة إلى أن الدمج بين غياب حل للتهديد المتواصل من غزة وبين الضبابية حيال علاقات الحكومة الصهيونية مع حماس ستؤدي إلى نشوء فراغ أمني يمس بالمناعة الاجتماعية في "قرى غلاف غزة"، والذي يمثل بقاءه مصلحة قومية (إسرائيلية) من الدرجة الأولى.