تعتبر الديماغوجية ظاهرة معروفة في المجتمعات كافة بغض النظر عن مستوى تطورها السياسي والاجتماعي والاقتصادي، حيث تتمحور الديماغوجية كأسلوب لإقناع الآخرين وحشدهم في اتجاه سياسي أو ايديولوجي معين بإثارة مخاوفهم ومخاطبة أفكارهم المسبقة, واستخدام القضايا المعيشية والدينية والقومية واللعب على عواطف الجماهير واستثارها، مستخدمين براعتهم في الخطابة او الكذب وغيرها من أدوات التدليس لتحقيق اهدافهم، وقد بلغت ذروتها مع ظهور النازية والفاشية، وفي بعض الانظمة ذات الطابع الثوري التي وصلت السلطة بعد الحرب العالمية الثانية وحتى الثمانينيات، إلا أن نضج الأنظمة السياسية والإيمان بالتحول الديمقراطي على مستوى العالم، وانتهاء الحرب الباردة وانتفاء الكثير من اسباب التوتر العقائدي، قلص من فرص الديماغوجيين ولكن لم ينهى وجودهم.
واليوم عادت الظاهرة مرة أخرى في دول العالم الثالث وبالتحديد في الدول العربية التي لم تتفتح بعد على الممارسة الديمقراطية والتعددية السياسية والحزبية والتداول السلمي للسلطة، التي ما زالت تعصفها المشاكل خاصة بعد ما يسمى بثورات الربيع العربي، وظهر أصحاب الطموح للسلطة وقعاً آخر بأساليب حديثة وفقاً لمعطيات العصر وانتشار التكنولوجيا وامتلاك رأس المال ولغة المصالح والتحالفات الخفية بين الدول وتوظيفها بطرق مختلفة، واستخدموا أوجاع الناس وامتهنوا كل اشكال التضليل التي صارت تسلط عليهم من خلال الفضائيات والاعلام المرئي والمسموع والرقمي للتحكم بمزاج الناس وصنع الحقائق الزائفة ومطالبتهم بتصديقها وتأييدها، والانسياق الى الكلام المتفاعل مع أوجاعهم.
وإذا كانت الديماغوجية ظاهرة قديمة حديثة إلا أنها أسلوب يلجأ إليها الكثير من الفاعلين السياسيون من الحزبيين في التجاذبات السياسية، وأيضاً المتاجرون بالدين أو بالفئوية والطائفية؛ لإغراء الناس وتعبئتهم بوعود كاذبة، أو خداعهم بقضايا مختلقة، وإيهامهم تضليلا بأن ذلك للمصلحة العامة للشعب، مستخدمين السفسطة، واللعب بالعواطف والارجاف، وتحفيز المخاوف في نفوس الناس، وعمل غسيل دماغ وبرمجتهم بغرس أفكار مسبقة للسيطرة عليهم، واستعباد عقولهم من أجل الوصول إلى هدفهم.
ومن يتأمل معظم أرباب الحراك السياسي في الدول العربية، يجدهم ديماغوجيين مستخدمين المواضيع القومية والوطنية مثل رفع شعار الإصلاح والتغيير والعدالة وحقوق المواطن ومحاربة الفساد، هذا الكلام الديماغوجي العاطفي الذي يعتمد على جهل سامعيه وسذاجتهم، واللعب على عواطفهم، بالاستناد إلى شتى فنون الكلام وضروبه، واستغلال الأحداث لخداع الناس، وتضليلها بالشعارات والوعود الكاذبة، وتشويه الحقائق بالتشويش، والتحريض، والتضليل، وتملق الطموحات والعواطف الشعبية كإعلان حملات معينة بهدف الحصول على تأييد الرأي العام من أجل الحصول على السلطة، بالسيطرة على الناس، من خلال التحيزات الحزبية والفئوية، والشعارات الأيديولوجية، مستغلين ما يروجون إليه دون اللجوء إلى إسناد افكارهم وادعاءاتهم الى المنطق والبرهان والسند، لأنهم لا يريدون ان يبعثوا الناس على التفكير وأن يوقظوا الحذر فيهم.
فالتجارب العربية المتمثلة في الانقلابات وثورات الربيع العربي كانت في بداياتها يلتقط زمام قيادتها الديماغوجيون، فيصعدون، ويبيعون الناس الشعارات، والمعلبات القولية، والأحلام والأوهام، وفي النهاية يبوؤون بالفشل الذريع، وغير قادرين على بناء الدول، ويستخدمون القوة العسكرية والقمع والتعذيب وأساليب التخوين والتكفير لتخويف الناس للبقاء في السلطة والحكم مهما كلفهم ذلك من أثمان، فالعالم العربي يعيش اليوم زمن الديماغوجيين الجدد بامتياز، زمن يستثمر فيه اصحاب الطموح والمصالح كل شيء، ليقولوا كل شيء يجعل الناس قريبة من طروحاتهم ومشاريعهم، انه زمن الهتافات الجديدة التي غيبت حقائق مهمة في التاريخ والحاضر ايضا، وستحيط مستقبل الناس بضباب كثيف، ان لم تنتبه وتقف بوجه هذه الديماغوجية التي اكلت كل شيء من حولهم وتركتهم في وحل الفقر والتسول.
وقد يرى البعض أننا نبالغ في هذا التوصيف للحالة العامة في الوطن العربي، غير إن الواقع يؤكد أن الأزمة الديماغوجية أعمق مما نتصوره, ولا يحتمل التجميل والمجاملة، فالأوضاع ترمى إلى المجهول ولكن تبقى إرادة المواطن العربي فوق كل شيء، وحتما سيأتي الحريصين على مصير الوطن ممن يمتلكون القدرة والفعالية والاتزان الشعبي لبذل الجهود من أجل الخروج من الحالة النشاز في التاريخ الوطني والسعي نحو بناء الدولة ومؤسساتها على أسس ديمقراطية سليمة، وإقامة جسور العبور من الثورة وغوغائيتها إلى الدولة المستقرة القائمة على المساواة وتكافؤ الفرص والحفاظ على كرامة مواطنيها.
بقلم/ د. رمزي النجار