ربما تدرك حركة حماس اليوم وبعد كل جولات التفاهمات والتصعيد والتهدئة المتعاقبة مع اسرائيل منذ ما يزيد عن عقد من الزمن استحالة أن تحصل من اسرائيل على أى شئ مجاني حتى وإن كان مطلب انساني مستحق بدون انتزاع تنازلات سياسية مؤلمة من الحركة؛ والتى لا تتمتع بأى غطاء عسكرى ولا حتى سياسي لا عربيا ولا إقليميا ولا دوليا، وحالة المراوحة الحالية التى وصلت لها تفاهمات التهدئة هى أبلغ دليل على هذا الواقع.
وإسرائيل لا ترى نفسها مضطرة إلى تقديم طوق النجاة لعدوها وهي تراه يترنح أمام أعينها من وطئة حصارها له؛ بل على العكس فهي حاصرته لتحظي بتلك اللحظة التى تراه فيها يطلب فك هذا الحصار لتبدأ معه مرحلة المساومة والابتزاز؛ ولكن اسرائيل ترى أنه ثمة مشوار طويل يجب على حماس أن تقطعه لتصل إلى فك الحصار الاسرائيلي وخلال مراحل هذا المشوار المتراتبة ثمة استراتيجية اسرائيلية متفق عليها من مراكز صنع القرار فى اسرائيل للتعامل مع قطاع غزة تحت حكم حماس ضمن محددات واضحة؛ وثمة هامش سياسي للحكومات المتعاقبة للإضافة أو الحذف لكن الاستراتيجية لن تتغير؛ وأهم معالم تلك الاستراتيجية أن على حركة حماس أن تنهي قضية الجنود الاسرائيلين الأسرى بأبخس الأثمان ضمن صفقة تبادل بالمعايير الاسرائيلية التى قد تحصر التفاوض فى أسرى قطاع غزه دون غيرهم؛ وسيكون على حماس مبدئيا وقف كل أشكال النضال المسلح تجاه اسرائيل من قطاع غزة؛ ولاحقا عليها إثبات جدارتها وحسن نواياها تجاه اسرائيل لكي يستمر فكفكة الحصار عن غزة؛ وفيما بعد سيكون على قادة حماس بدء مفاوضات أمنية مباشرة مع إسرائيل، ولكن تطور هذه المفاوضات إلى سياسية سيتطلب اعتراف حركة حماس وبكل وضوح بحق اسرائيل فى الوجود واعتراف اسرائيل بحركة حماس ممثلا شرعيا ووحيدا لقطاع غزة؛ وعندها ستبدأ آخر الخطوات الفعلية لانهاء الحصار عن قطاع غزة عبر توقيع اتفاق سلام بين القطاع واسرائيل تضمن من خلاله اسرائيل مصالحها الأمنية الاستراتيجية وتحدد من خلاله سقف التسلح خاصة فى مجال القدرات الصاروخية فى القطاع الذى تفضله اسرائيل منزوع السلاح منفصلا سياسيا وجغرافيا وديموغرافيا عن الضفة وعن باقى فلسطين التاريخية.
هذا هو ما ترنو إليه اسرائيل من مسيرة التفاوض والتهدئة طويلة الأمد مع حماس، أما حركة حماس فإنها تريد أن يتحقق فك الحصار أولا ثم ماذا بعد؟ لا إجابة!!!
فهل يمكن لإسرائيل أن تفك حصارها وتنتظر لاحقا المقابل وإذا افترضنا أنها فعلت وفكت حصارها؛ فهل يمكننا أن نتصور أن يكون ذلك بلا ثمن، إنها أسئلة بديهية معروفة الإجابة سلفا فليس ثمة فى السياسة شئ بالمجان، لكن إذا استمر المشهد المراوح الحالى فى القطاع بين تهدئة وخرق وتصعيد وأدركت إسرائيل أنه ما من أمل فى تنفيذ استراتيجيتها تلك فلن يكون أمام قطاع غزه إلا أن يتأهب لخوض أكثر معارك التاريخ المعاصر التى ينعدم فيها التكافؤ بين المتحاربين والتى سيدفع فاتورتها كاملة سكان القطاع من ممتلكاتهم ودمائهم وأرواحهم وستبرر اسرائيل فظاعاتها بدفاعها عن نفسها ومواطنيها من الاستهداف الصاروخي المتعمد لمدنها وستستدل بتصريحات بعض القادة الغير مسؤولة والتى تصور غزة على أنها قوة عسكرية تضاهي إسرائيل وتدعو إلى تدمير اسرائيل واستهداف اليهود فى أى مكان بالعالم، وكل هذه التصريحات ستترجم وتبث للتغطية على هول الجرائم الاسرائيلية ضد قطاع غزة في المواجهة القادمة.
لكن ما زال لدينا خيار ثالث يبدو الأفضل لجميع الأطراف باستثناء اسرائيل وأولئك الذين ارتبطت مصالحهم بالانقسام الفلسطيني؛ وهو إنهاء الانقسام وعودة السلطة الفلسطينية الشرعية المعترف بها دوليا إلى قطاع غزة؛ وهو ما تسعي له مصر اليوم عبر جهود ماراتونية عبر ربط ملف التهدئة بالمصالحة؛ ومن الواضح أن ثمة انجازات تحققت فى ملف المصالحة لم تعلن فى انتظار إكمال كل التفاصيل لكي لا يكون مصيرها كمصير الجولات السابقة.
وفى النهاية ليس بوسعنا إلا أن نتمنى أن يصل صوت المنطق والحكمة والعقل إلى أصحاب القرار فى غزة وأن ينتهزوا اللحظة الحالية لطي صفحة الماضي وفتح صفحة جديدة فى العلاقات الوطنية لإعادة ترتيب البيت الفلسطينى لمواجهة واقعنا المرير الراهن والخروج منه بأقل الخسائر.
د. عبير عبد الرحمن ثابت
أستاذ علوم سياسية