نُشر مؤخرا مقال عن حزب التحرير بعنوان "حزب التحرير: ردود تخاصم الواقع وتتجاوز منطق الوقائع" وتناول المقال قضايا مختلفة تنتقد موقف الحزب من قضية فلسطين وتشكك في طريقته للوصول إلى غايته وتطعن في بعض أفكار ومواقف الحزب، ومن باب النقاش الفكري ومقابلة الحجة بالحجة والفكر بالفكر حتى تظهر الحقيقة للقارئ والمتابع نورد بعض الإضاءات التي تفند الافتراءات وتوضح بعض النقاط التي تناولتها المقالة.
وأبدأ فأقول:
جاء في مقالة الكاتب سري سمور والتي بدا عليها هذه المرة لغة التهكم على غير المتوقع، قوله: "تعويل الحزب على إعطاء قيادات في جيوش المسلمين النصرة له ضرب من ضروب الوهم لعدة أسباب منها: أن التركيبة العسكرية للجيوش والرقابة الغربية الشديدة عليها تجعل الوصول إلى بعض قادة الجند وضباط الجيوش أمرا مستحيلا."
وفي هذا أمران: -
الأول: هو الإقرار بأن الغرب يعتمد على بعض قادة الجند وأهل القوة الذين هم من جنس النظام في منع انعتاق الأمة من التبعية إليه.
الثاني: المطالبة بعدم التعويل على الجيوش في أي عملية تغيير واعتبار ذلك وهم ومضيعة للوقت.
وهنا نجد المفارقة المحزنة وهي أنّ الغرب مدرك أنّ أهل القوة باتوا حجر الزاوية في أي عملية تغيير قادمة في بلاد المسلمين لاسيما وأن الرأي العام مع المطالبة بحكم الإسلام ولذلك هو يبذل قصار جهده لإبقاء السيطرة علينا من خلال الحيلولة بيننا وبين أهل القوة الذين هم من أبناء المسلمين ويحملون عقيدة الإسلام في صدورهم، وفي المقابل نرى من أبناء المسلمين من لم يدرك ذلك فيتعمق في فهم عدوه ويكون سطحيا وساذجا في فهم واقع أمته، فيغفل عن مكمن قوتها ويغمض عينيه عنه ويطالب بتسليم الراية والاستسلام للأمر الواقع، ويجهد نفسه في البحث عن حل من جنس الواقع السيء الذي فرضه علينا الغرب فيدور ويدور ومن ثم يجد نفسه في حضن مؤامرة غربية وقع فيها من قبل عشرات المرات فيجعل من نفسه محل سخرية وشماتة عند السياسيين الغربين يضحكون عليه ويتشمتون به ويستهزؤون بالعقلية السياسية التي تبقيه رهن مشاريعهم. والسبب في ذلك هو جعل أصحاب هذا الرأي الواقع مصدرا للتفكير لا محلا للتفكير والتغيير!! وجعلهم الجيوش محلا للهجوم لا محلا للعمل لتحريكهم ضد الحكام العملاء وجعلهم ينتصرون للأمة ولمشروع الإسلام.
أما قول الكاتب " أن الجيوش لا خير فيها بدلالة أن تلك الجيوش إما منشغلة بألاعيب السياسية أو في الاستثمار والاقتصاد أو في قمع الشعوب أو الانقلابات العسكرية أو التعاون القميء مع الصهاينة والأمريكان وغيرهم."
فمن التضليل والتيه عدم التفريق بين الجيوش والأنظمة الموجودة، لأن ذلك الخلط بين الجيوش والأنظمة يجعل الأذهان تضيق ولا تتسع لفكرة استنصار الجيوش الذين يخشى الغرب تفلتهم وانحيازهم لأمتهم، أما النظام ورجالاته وهم المنشغلون في خدمة أسيادهم وجمع المال وقهر الشعوب فهم محل الكفاح والهجوم لإسقاطهم، ومن يريد التغيير يجب أن يعمل على إسقاط النظام من خلال الرأي العام والجيش لا أن يعتبر النظام والجيش شيئا واحدا، لأن ذلك يخالف أبجديات السياسة وعمليات التغيير.
ومن المعيب أن ترى من يأخذ على حزب التحرير ويعيب عليه استنصاره للجيوش لإقامة دولة الإسلام رغم أن الحزب بيّن ووضح أن هذا التوجه مبني على أحكام شرعية مستنبطة من طريقة الرسول صلى الله عليه وسلم الواجبة الاتباع، ولا تراه يعيب على الارتماء في أحضان الغرب والتسول في أروقة الأمم المتحدة والزحف باتجاه أقدام ترامب وقادة الغرب لنيل رضاهم والاستعانة بهم في إكمال أي عملية تغيير قادمة، فيجدون أنفسهم قد توجوا تضحيات الناس بإعادة تدوير النظام وتثبيت أركانه وتبعيته للغرب وأصبحوا هم رجالات النظام الذي كانوا يسعون إلى تغيره في السابق.
أما قول الكاتب "قضية فلسطين ونظرة حزب التحرير لها غير واقعية وفيها انتقاص لأهل فلسطين وجهادهم وتضحياتهم". هنا أورد بعض النقاط في الرد على ذلك:
- من السخف السياسي وعدم الوعي السعي لفصل قضية لها بعدها العقدي والأممي عن ذلك البعد ومحاولة حصرها في قمقم الوطنية الضيق الذي رسخه الغرب بعلم وخط على الخريطة ونشيد وطني، ورغم أن الحزب أدرك خطورة هذه النقطة منذ اللحظة الأولى وعمل على ضربها وبيان خطورتها وباتت واضحة عند عوام الناس إلا أنك ما زلت تجد من يتمسك بها ويروج لها رغم أنه يقر بأن كيان يهود يستمد قوته من علاقاته بالدول الكبرى وربط نفسه بها وجعلها امتدادا له يستعين به في أي مواجهة يريد أن يخوضها أو أي خطر يتهدده، وفي نفس الوقت وأحياناً في نفس المقالة ترى صاحب هذا الرأي يطالب بفصل قضية فلسطين عن بعدها الإسلامي والعقدي والأممي العابر للقارات لتصبح قضية مبتورة!!
- من اللافت عدم تطرق الكاتب الذي يقول بأنه يولي اهتماما خاصا لقضية فلسطين لخيانات السلطة الفلسطينية وتنازلات منظمة التحرير وإلى أين أوصلت مشاريعهم الوطنية القضية بعد عقود من (الكفاح) حتى هذه اللحظة والنتائج الكارثية التي جلبوها على القضية وأهل فلسطين حتى مهدوا الأرضية لمشاريع تصفوية كان يصعب طرحها في السابق -مثل صفقة القرن- وإصرارهم على المواصلة في نفس الطريق والوقوف في ذات المحطات الكارثية المتمثلة بما يسمى بالشرعية الدولية التي زرعت كيان يهود وأمدته بأسباب الحياة وأضفت عليه الشرعية، فمثل هكذا أمور يجب التطرق لها وكشفها وبيان حقيقتها لكل من يريد خيراً للقضية ويهتم بها، لا أن يحاول صرف الأنظار عن ذلك بالتركيز على مهاجمة حكم شرعي والتهكم على المطالبين به في ظروف أحوج ما يكون فيها أهل فلسطين إلى من يصوب لهم البوصلة وينير لهم طريق الخلاص لا أن يفصلهم عن أمتهم ويحشرهم في صندوق الوطنية المعتم وهم يرون الخطر المحدق بهم وبالأرض المباركة في ظل الدعم العالمي سواء الأمريكي أو الأوروبي أو الروسي لكيان يهود، وفي ظل خنوع السلطة وتآمر الأنظمة الحاكمة في بلاد المسلمين وسعي ترامب وإدارته لتصفية القضية وفرض صفقته المشؤومة.
- لماذا هذا الإصرار من أصحاب المشروع الوطني ومن يسايرونهم التفكير على تحميل أهل فلسطين والمجاهدين منهم مسؤولية تحرير الأرض المباركة والله جعل فرضية ذلك على الأمة وجيوشها التي تمتلك الدبابات والطائرات والسفن الحربية والفيالق والكتائب؟؟ هل هو مكابرة لنزعة وطنية لو كانت عند من سبقونا لبقيت فلسطين ترزح تحت حكم الصليبين لأن صلاح الدين رحمه الله لم يكن فلسطينيا أو عربيا، أو لبقيت تحت ظلم المغول لأن قطز وبيبرس لم يكونا فلسطينيين ولا عربيين، فهل عاد أصحاب هذا التفكير إلى كتاب الله وتاريخ المسلمين ليروا الصواب بدل الانجرار خلف أصحاب المشروع الاستثماري الوطني الذي يهدف لتحقيق مكاسب ضيقة ومصالح أنية أنانية على حساب ترسيخ الاحتلال على معظم الأرض المباركة وما ينتج عن ذلك من قتل وتشريد وحصار لأهل فلسطين ومتاجرة بتضحياتهم ودمائهم؟؟.
أما بعض القصص التي ذكرها الكاتب عن الحزب وتوزيع نشرات خارج سياق الأحداث، فهي قصص مبتورة ممزوجة بنكهة التسطيح للأمور لا ترتقي إلى مستوى البحث، فأبسط شخص منصف يعلم أن الحزب لم يهمل قضية فلسطين للحظة إن كان هذا الشخص يتابع الحزب ومكاتبه الإعلامية وحجم الأعمال السياسية التي قام بها لكشف المؤامرات على قضية فلسطين بوعي وبصيرة يشهد لها القاصي والداني، عايشها الكهل فلما بلغ من الكبر عتياً قال كنتم على حق في كشف خيانة وتآمر حسين وعبد الناصر والسادات وحافظ ... وعايشها الطفل فلما كبر قال أحقاً هذا كان قولكم في منظمة التحرير عند إنشائها وفي حرب 1967 عند حصولها وفي مشروع الدولة الواحدة ومشروع الدولتين عند طرحهما والكثير من الأحداث التي تناولها الحزب بوعي سياسي فريد، والناس تتابع أعمال الحزب في هذا الخصوص وتعايشها وهذا أمر لا يحتاج إلى المزيد من التوضيح.
أما إنزال الكاتب الغرب منزلة مرعبة وأنه إذا ما حصلت عملية تغيير فإن حاملة الطائرات الأمريكية سوف تتحرك للقضاء عليه، وهنا نقول صحيح أن الولايات المتحدة الدولة الأولى في العالم والأقوى من ناحية عسكرية، حالها حال فارس والروم في زمن المصطفى صلى الله عليه وسلم، ولكن هل استطاعت تلك القوتان في ذلك الزمان القضاء على دولة الإسلام الوليدة في جزيرة العرب أم أن المسلمين قضوا عليهما في سنوات قليلة رغم فارق القوة والعتاد والعدد، وهنا لا يقال السيف والصاروخ ولكن يقال دولة بقوة تمكنها من الوقوف على قدميها بمشروع من جنس عقيدتها وأمة مستعدة للدفاع عن دولتها وإيمان بأن الله سيدافع عنها في مواجهة دول تفوقها بالقوة والعدة والعتاد ولكن لا عقيدة لها ولا إيمان ولا تأييد من الرحمن أي أن الأمر لا يخضع للحسابات الرياضية المجردة.
- وبالمناسبة فإنّ المدمرة الأمريكية يو إس إس كول تم إخراجها عام 2000 عن الخدمة في خليج عدن بقارب صغير من المتفجرات عليه اثنان، فكيف الحال لو كانت هناك دولة بتنظيم وجيش مدرب وأمة مستعدة للتضحية -دع حاملات الطائرات تنفعهم حينئد-.
أما قول الكاتب بأن الحزب يجعل محل عمله ومركز توجهه الأحزاب والحركات والفصائل الإسلامية، فهو كلام شمولي عام لا يصلح للبناء عليه، فالحزب مكان عمله الأمة بمجملها وطبيعي كون تلك الأحزاب والفصائل جزء من الأمة أن يحصل نقاش معهم وتوجيه النصح لهم ولكنهم ليسوا محل كفاح ولا محل هجوم -فهذا محله الغرب والأنظمة التابعة له وأدواتهم- فنحن نبين فكرتنا وغايتنا وطريقتنا بالحجة والدليل الشرعي للجميع من باب فرضية العمل دون تفريق بين أبناء الأمة وبغض النظر ممن تكون الاستجابة والتي هي أمرها عند الله، وهذا أمر لا يعاند في صحته إلا مكابر لا يبحث عن الصواب ولو توقف برهة من الزمن لوجد أنه قد أخطأ الحكم في قضية محسومة دون نقاش وتوقف عن الخوض فيها فالرجوع عن الخطأ خير من التمادي فيه.
وفي الختام نصيحة نوجهها لكل من أراد أن يتناول الحزب وأفكاره بأن يتقي الله وأن يتحرى الدقة والصواب فيما يقول، وإن يتمعن في قراءة كتب الحزب وأن يجعلها المرجع للاستدلال والحديث عن الحزب وأن يقيس كل قول وفعل للحزب بمقياس الشرع لا بمقياس العقل فيكون صوتاً للحق بدل أن يجعل من نفسه بوقاً للباطل، ونقول للوكالات الإعلامية أن المصداقية والحيادية التي يتحدثون عنها تتطلب نشر هذا الرد كما نشروا المقالة التي استوجبته.
الدكتور إبراهيم التميمي*
- عضو المكتب الإعلامي لحزب التحرير في فلسطين