توفي والدي (أبو العبد) رحمه الله، أبو العبد، في مخيم اليرموك قبل سنواتٍ طويلة، وقد أتقَنَ الصبر ولم تكسره الحياة، توفي وهو يحلم بالعودة الى مرتع ولادته، وفتوته، وصباه، وشبابه، الى حيفا الميناء، حيفا الفينري، حيفا ساحة الجرينة، والحليصة، ساحة الخمرة، وحيفا شارع الناصرة، حي الألمانية، ودرج الأنبياء، وشارع الملوك، وشوارع الصنوبر والمتنبي والحريري وابن المقفع وابن سينا ويافا، وشارع ستانتون، ووادي النسناس، ومسجد الإستقلال، وقهوة العجمي أسفل بناء العجمي، وقهوة الراديو في الطابق الأرضي من بناء شبيب في شارع الملوك بحيفا، مقهى المتروبول، والحمام الصغير وسط سوق الشوام لأصحابه عائلة كزبر وعائلة رنّو، وحمام الباشا ... ومدرسة السباعي، والمدرسة الإسلامية، وسوق الشوام والسوق الأبيض، ومصنع الثلج في محطة الكرمل، والنوادي والمرافق الحكومية والجمرك والأديرة والأراضي، مثل أرض البلان، أرض الرمل، الزحاليق، والأودية، مثل السعادة ورُشميا والتينة والسياح، ووادي الصليب، والنسناس، والمحطة، والكنائس، ووادي الجمال، والحارة الشرقية، وكذلك الشواطئ، مثل شاطئ أبو نصور والعزيزية وغيرها من الأماكن. وسينما الأمين، ومنتزه "بستان الانشراح" حيث غنّت فيه ام كلثوم وعرض يوسف وهبي وفرقته ابداعهم في التمثيل.... وحملت أم كلثوم، في حينها ومن مدينة حيفا لقبها المعروف بــ (كوكب الشرق).
فارق والدي أصدقاءه، وكان منهم صديقه الذي أبقى "البريموس" مُشتعلاً لشرب فنجان القهوة العصملية. وصديق أخر أخذ مفاتيح بيته للعودة السريعة، وجدّتي لأمي، التي كانت قد سلمت الكوشان لأختها في السيارة وهما في المنفى في لبنان، ظانة أنه، بعد اسبوعين، ستلتقيان في داريهما، فراح الكوشان وبقي المكان، إلا أن عادت عام 1950 الى حيفا.
فارق والدي اصحابه، ورفاقه، وأصدقاء فتوته وشبابه من جيله، فتبعثر الجميع في تغريبة النكبة الكبرى، وضاع عن الأصدقاء الأوفياء، ومنهم زملاء العمل في سكة الحديد في حيفا، وطالما تذكَّرَ لفيف أًحبابه وأصدقائه أمامنا ونحن صغار السن أثناء تحلّقنا حوله وإصغائنا لمروياته الدامغة عن فلسطين، وقد احتفظت ذاكرتني بأسماء بعضاً منهم وفق ماكنت أسمعه من والدي رحمه الله : المرحوم المقدسي عبد الداروجي (من حي الطالبية في القدس الغربية التي تم احتلالها عام 1948) الذي لجأ الى مخيم قلنديا في البداية ومن ثم الى الزرقاء في الأردن. الأستاذ والمدرس في حيفا عبد الرحمن الخمرة. وسعد خماش النابلسي وصاحب محل الخياطة في حيفا والذي جاء بعد النكبة لدمشق وافتتح محلاً للخياطة في الحجاز خلف البريد المركزي. وعبد الجارحي الذي لجأ الى سوريا وأقام في حي الشاغور. والمرحوم نجيب المرعي من بلدة أم الفحم ومن متعهدي الأراضي الزراعية، والذي كان يستعين بوالدي لإصلاح الآلات الزراعية في مواسم الحصاد في أم الفحم واللجون ومنطقة المثلث في عارة وعرعرة ومصمص وسالم والخضيرة والعفولة، وقد بقي في فلسطين في مدينته أم الفحم. وأبو خليل نفاع صاحب مقهى في حيفا. وشعبان الأسود (الحجّار). وخالد شنكل الصفدي الأصل وصاحب محل الحلاقة في حارة الكنائس. وحسين ونايف أبو العردات. وأبو شحادة ستيتية. وحسين عبود السكافي أبو محمد صاحب محل (درازة) وتصليح الأحذية في محل يقع في بناية العجمي. وأبو سميح مسعود من قرية (بُرقة) قضاء نابلس والذي كان يقيم في حيفا، وبالجوار من منزلنا، وقد رحل يوم النكبة الى قريته (بُرقة)، وتشاء الصُدَف أن أتعرّف على ابنه الكبير الدكتور سميح، دكتور الإقتصاد السياسي ومدير المركز الكندي لدراسات الشرق الاوسط في مونتريال. وعائلة عباسي التي اصبح أحد أبنائها ممن ولد في حيفا ضابطاً كبيراً في الجيش العربي السوري بعد النكبة وهو اللواء وليد عباسي من قوات الدفاع الجوي السوري. وبهجت البيلاني زوج عمتي (آمنة بدوان) اللبناني المُقيم في حيفا، والذي كان يمتلك محلاً في حيفا لصناعة الأحذية الجلدية الأصلية من الجلد الطبيعي، والذي خرج من فلسطين عام النكبة باتجاه مدينة صيدا حيث مدينته وعائلته الكبرى علماً أن جذوره تعود به الى قرية العديسة اللبنانية جنوب مدينة صور والملاصقة لفلسطين. والمرحوم أحمد طاهر أبو عبيد (أبو أسامة الياموني)، ورغم لقبه (الياموني) الذي اشتهر به نسبة لبلدة (اليامون) قضاء جنين، إلاّ أنه من بلدة (عرابة) قضاء جنين أيضاً القريبة من بلدة (اليامون) ... وكان المرحوم أبو أسامة الياموني الصديق المخلص لوالدي، وكما يقولون الصديق من "الروح للروح" وقد أهداه صورته عام 1933 وهو في ريعان الشباب، ومازلنا نحتفظ بها، حيث كتب لوالدي خلف الصورة البيتين التاليين :
أموت وتبقى صورتي لأحبتي ولفيف عائلتي وأهل داري
اذ ليس للانسان بعد مصيره غير الرسوم ندوم للأبادي
لم ترحل ذاكرة والدي، والذاكرة تأبى أن تُمحى، فهي تنتقل من الجد الى الأب الى الحفيد. وها نحن ؟ ابناء الجيل الثاني بعد النكبة ؟ نستذكر وندوّن كي لا يضيع الحق التاريخي. وللتاريخ قيمة غالية، علينا الحفاظ على هذا الحق التاريخي ونقله من جيلٍ الى جيل.
والدي كان يقول لي دوماً : يا بني .. إنتبه أين تضع قدميك في هذا الزمن ..
فكانت اجابتي الدائمة له .. أنا أتبع خطواتك يا أبي ...
بقلم/ علي بدوان