ترددت طويلا في اعتماد كلمة الحنين كترجمة لعبارة نوستالجيا، فكلمة حنين العربية تحيل إلى الحنان، أما الأصل اليوناني لكلمة نوستالجيا فهو يشير إلى عودة الألم، أو تذكر الألم.
لكن في الكلمتين هناك عجز نابع من التعامل المَرَضي مع الذاكرة. فيتم تجميل الماضي في مواجهة حاضر صعب وقاسٍ، وهذا هو حال الأجيال الأولى من المنفيين الذين يستبدلون الحاضر بذاكرة بعيدة لا ترى في الماضي المندثر سوى بديل وهمي لواقع يعجز الفرد عن التعامل معه بإيجابية.
لقد عشنا في لبنان، في زمن الحرب الأهلية وما بعدها، مرحلة يمكن وصفها بعبادة الماضي، وهي تلتقي بأيديولوجية لبنانبة سادت طويلا عن القرية وحياتها البسيطة والجميلة، التي محت التناقضات الاجتماعية وصوّرت الماضي بصفته عصرا ذهبيا ومرجعا وهميا في مواجهة حاضر صعب ومعقد.
تجربة الذاكرة اللبنانبة ليست متفردة، إذ نجد مثيلا لها في كل الأماكن التي تعرضت للكوارث السياسية والحروب والتهجير من فلسطين 1948 إلى سوريا اليوم.
النوستالجيا شعور أجوف، لأنه يبتعد عن المساءلة بمقدار ما ينغمس في لحظة عاطفية تصيب الفرد أو الجماعة بالشلل، لأنه تعبير مباشر عن عدم القدرة و/أو الرغبة في مواجهة حقائق التغيرات، التي هي سِمة الحياة.
مناسبة هذا الكلام هو حادث صغير مرّ من دون أن يتوقف الكثيرون عند دلالاته، وهو الاحتفال الذي أقامته السفارة المصرية في إسرائيل بمناسبة الذكرى السابعة والستين لثورة 23 يوليو/تموز 1952.
أليس غريبا أن يتصدر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو الاحتفال، ويتحدث عن حكمة الماريشال السيسي خليفة البكباشي جمال عبدالناصر؟
إسرائيل التي خاضت حربين 1956 و1967 من أجل تدمير فكرة نهضة مصر واستقلالها، تتصدر الاحتفال بذكرى ثورة قادها رجل اعتبرته إسرائيل عدوها الأول؟
ماذا جرى؟
هل تغيرت إسرائيل، واعترفت أخيرا بحق العالم العربي في استقلاله؟ أم تغيرت مصر إلى درجة أنها صارت حليفة دولة الاحتلال التي تعلن أن مشروعها ومشروعيتها قائمان على محو فلسطين، وترقص طربا على إيقاع صفقة ترامب التي تعني شرعنة احتلالها ومباركة ضمها للقدس واعتبار نظام الأبرتهايد الذي أسسته حقيقة ابتلعها العرب قبل أن يبتلعها العالم.
ماذا نقول أمام هذا المشهد؟ هل ننجرف إلى الحنين إلى الماضي؟ أم نمتلك الشجاعة لقراءة هزيمة المشرق العربي؟
الحنين إلى الماضي القومي لا يختلف كثيرا عن الحنين إلى الماضي الليبرالي أو شبه الليبرالي، كما أنهما نسخة أخرى من حنين ترسّخ في ذلك التصوّر الوهمي بإمكانية استعادة مجد عربي قديم على النخب العربية أن تبعثه من ركام التاريخ.
وسقط العالم العربي أسير فكرة الانبعاث، عبد الناصر هو انبعاث صلاح الدين، حسب فيلم يوسف شاهين، والوحدة العربية تقوم كالأعجوبة إذا برز قائد مُلهم، إلى أن وصلنا إلى مسوخ الاستبداد الذين يتسلطون على المشرق العربي، ولن يكون أبو بكر البغدادي الذي أراد بعث دولة الخلافة آخرهم للأسف.
مشهد السفارة المصرية في إسرائيل هو نتيجة مسار طويل، وليس مصادفة أو لعبة نرد. نتنياهو لم يقل ما لا نعرفه، ومع ذلك فاجأنا لأننا حتى الآن عجزنا عن قراءة مسارات الهاوية التي كانت هزيمة حزيران/يونيو مؤشرها الأول.
بدلا من أن نستعيد هذا المسار ونحلله بلا شفقة على أنفسنا، يأخذنا الحنين إلى زمن مضى، ونصرخ بألم أين ذهبت صرخة ناصر: «ارفع رأسك يا أخي»؟ وننسى أن رؤوسنا دفنت في رمال السجون الصحراوية التي حوّلها رجال الاستخبارات إلى مقابر للأحياء، قبل أن تعانق الرمل في سيناء الهزيمة عام 67. وننسى أن هزيمة 67 صارت بنية سياسية راسخة عندما تمت قراءتها بصفتها «نكسة»، حسب تنظير محمد حسنين هيكل، وأن الساداتية التي أسست للاستسلام كانت جزءا عضويا من نظام العسكريتاريا، الذي خنق العالم العربي.
نحنّ إلى ماذا؟
هل تكفي أغاني عبد الحليم حافظ الوطنية كي تعيد ما سُلب، وترمم أوطانا تصدّعت جدرانها؟
انظروا إلى واقع المشرق العربي اليوم، فهذه الدول والدويلات التي يفترسها الفقر والمجاعة، والمحمّلة بثروات تتبدد، تنقسم اليوم إلى مجموعتين:
المجموعة الأولى هي مجرّد كرات أو طابات تتقاذفها الأقدام.
والمجموعة الثانية هي ملاعب لكرة القدم تحتلها القوى الإقليمية والدولية.
خوف الملاعب هو أن تتحول إلى كرات، وطموح الكرات التحوّل إلى ملاعب.
لا يوجد لاعب عربي واحد للأسف، ولا نرى من يطمح للنزول إلى الملعب. دول الثروات النفطية ومعها مصر، تحولت إلى ملاعب. يدفعون كي يشجعوا اللاعب الأمريكي على كسر حدود الملعب واجتياح إيران. أما هم فلا في العير ولا في النفير، إنهم مجرد محميات محمّلة بالنفط الذي حُكم عليه بالتحوّل بددا.
أما ما تبقى من دول المشرق فهي كرات تحاول أن تختبئ من أقدام اللاعبين، وفيها تتراكم المآسي ويستبد العجز.
لا أحد يجرؤ على اللعب، العسكريتاريا استسلمت لقدر التبعية وتعيش في نعيم النهب والاستبداد، ومماليك الملوك والمشايخ يدفعون الجزية ويشترون كراسيهم بالولاء.
والطرفان يحملان مناشير القتل وتقطيع جثث العرب.
حتى فلسطين تبدو جزءا من مشهد هذا العجز الذي لم تعد أية نوستالجيا قادرة على تقديم غطاء شرعي له.
مشهد نتنياهو واعظا ومشيدا بحكمة الرئيس المصري، في ذكرى ثورة يوليو، هو التعبير السياسي الذي أنتجته رقصة الاستسلام في المنامة.
على أرض فلسطين المحتلة التي تُسمى اليوم إسرائيل، قال رئيس الحكومة العنصرية للشعب الفلسطيني إنه وحيد في المواجهة، وإن نكبته ستستمر إلى أن تنهض فلسطين من ركام الماضي وتؤسس فكرتها من جديد، فكرة الحرية والمساواة.
وكل كلام آخر صار جزءا من نوستالجيا الغياب
الياس خوري