من وعد بلفور إلى سايكس ـ بيكو إلى.. قيام اسرائيل: لا مستقبل عربياً بلا مصر وسوريا.. والبقية تأتي!

بقلم: طلال سلمان

يهرب العرب، في أربع رياح ارضهم من واقعهم البائس إلى احلامهم مستحيلة التحقق، ويطوي كبار السن منهم دفاتر ذكرياتهم على ما كانوا قد أنجزوه او كانوا على وشك انجازه لولا… و”لولا” هنا متعددة المعنى وان ظلت نتائجها واحدة: الخيبة.

الهزيمة امام العدو الاسرائيلي هي النتيجة المنطقية لتقاسم ارضهم بين بريطانيا وفرنسا تحقيقا لمعاهدة سايكس ـ بيكو 1920، والتي جاءت في سياق وعد بلفور الذي “اعطاه من لا يملك لمن لا يستحق” قبل ذلك ـ 1917.. وهكذا تم تقطيع المشرق العربي إلى دول لا مقومات لوجودها او استمرارها، لا في التاريخ ولا في الجغرافيا..

تلك كانت التمهيدات الضرورية لزرع الكيان الصهيوني في فلسطين على حساب شعبها الذي كان دائماً شعبها، ووحدة امتها التي صارت كيانات او دولاً شتى مرتهنة بوجودها واسباب قيامها بالتمهيد لاستيلاد “دولة الصهيونية” اسرائيل (194).

بالتزامن كانت شركة نفط العراق (I.P.C) تمد انابيها، عبر سوريا، إلى شمالي لبنان (الدعتور ـ قرب طرابلس).

وجاءت بعدها شركة التابلاين الاميركية لتمد انابيب النفط السعودي إلى جنوب لبنان (الزهراني قرب صيدا) ـ بديلاً من حيفا، التي كانت قد باتت ضمن كيان الاحتلال الاسرائيلي ..

ثم توالت مشاريع الاحلاف الاجنبية لوضع هذه الدول حديثة الاستقلال، هزيلة القدرات الاقتصادية والعسكرية، تحت الوصاية الغربية، الاميركية الآن، بدءاً بمشروع ايزنهاور (1950) ثم حلف بغداد (1953) اثر العدوان الثلاثي على مصر ـ جمال عبد الناصر ( 195) وقبيل إقامة دولة الوحدة (مصر وسوريا) تحت قيادة عبد الناصر 1958.. ومن بعده “مشروع الدفاع المشترك” (الاميركي) والذي كان يطمح إلى “احتواء” المنطقة جميعاً.

لم يكن سراً أن الهدف الحقيقي من هذه الاجراءات جميعاً كان توفير الحماية الدائمة للكيان الاسرائيلي الذي زرع في قلب الوطن العربي: فلسطين.. وفي السياق ذاته ضرب وحدة الامة وتفتيت وطنها الكبير إلى مجموعة من الكيانات الضعيفة والمستنزفة بخلافات “حدودية” تضرب وحدة الامة وتزرع بذور الفتنة الدائمة، خصوصاً باعتمادها “الطائفية” حيث أمكن، والمذهبية حيث تنفع في إضعاف الوحدة الوطنية، وتدمر الحلم السني بالوحدة العربية.

صار المحيط آمنا للدولة القوية المبتدعة والمحمية بالنفوذ والمال والسلاح الغربي وتصدير يهود العالم (بما في ذلك بعض اقطار الوطن العربي، مصر، العراق، سوريا، لبنان، ليبيا والمغرب) إلى الكيان المستحدث: اسرائيل.

أقيمت اسرائيل بالحرب الدولية وتفتيت الوطن العربي إلى دويلات ضعيفة وعاجزة وليست لمعظمها الشرعية الوطنية او القومية، بل هي تقاسم لمناطق النفوذ بين المستعمرين القدامى (بريطانيا وفرنسا) والمستعمر الجديد (الولايات المتحدة الاميركية ـ الحامية الأساسية للكيان الاسرائيلي بمشاركة ملموسة من الاتحاد السوفياتي)..

المواجهة، اذن، بين القوة المطلقة الجامعة بين الغرب بأوروبا والولايات المتحدة، والشرق، ممثلاً ـ هنا، بالاتحاد السوفياتي ومعسكره الاشتراكي.. وبين “بعض” الدول العربية.. وليس جميعها وأبرزها مصر التي كانت قد أجلت للتو عسكر الاحتلال البريطاني (1954) ثم داهمها العدوان الثلاثي (بريطانيا وفرنسا واسرائيل ـ خريف 1956).

ولعل الاندفاع نحو إقامة دولة الوحدة ـ الجمهورية العربية المتحدة ـ بين مصر وسوريا، مثل هجوماً إستباقياً بالقوة الشعبية على محاولات استفراد الدول العربية واحدة اثر أخرى بمشاريع الاحلاف الغربية التي تعددت تسمياتها وان ظل هدفها واحداً: تمكين العدو الاسرائيلي من أن يكون اقوى من الدول العربية المحيطة بكيانه مجتمعة..

لكن هذه الدولة التي استولدتها الضرورة، على شكل دفاع هجومي، لم تعمر طويلاً، اذ انفرطت عراها بانفصال سوريا عبر انقلاب عسكري كان يمكن صده لو أن القيادة كانت متنبهة إلى المفعول المختزن للإقليمية ـ الانفصال، والتباعد بين المجتمعين المصري والسوري اللذين لم يجمعهما الا التقدير العالي لشخصية جمال عبد الناصر التاريخية.


على أن روح الثورة كانت تحرك جماهير الشعب العربي وتدفعها نحو رفض واقعها، وهكذا انتصرت ثورة الجزائر على الاستعمار الاستيطاني الفرنسي الذي انكر على الجزائريين هويتهم الوطنية وانتماءهم العربي، فقامت جمهورية الجزائر الديمقراطية في 20 ايلول 1962، برئاسة المجاهد احمد بن بله..

وفي الوقت ذاته انتفض شعب اليمن فاسقط نظام الامامة (آل حميد الدين) واقام الجمهورية..

ثم وقعت ردة على الانفصال في دمشق، وعاد حزب البعث إلى السلطة،

ووقع انقلاب عسكري ـ بعثي في العراق بقياد عبد السلام عارف.

وجرت محاولات غير جدية لإقامة وحدة ثلاثية بين مصر عبد الناصر وكل من سوريا والعراق، فلم تنتج الا الخلافات.

…وجاءت هزيمة 5 حزيران 1967 لتتوج الانقسامات العربية بالعار، وتدفع حركة المقاومة الفلسطينية إلى الواجهة، بعد سنوات من النضال السري..

على أن هذه الحركة سرعان ما أخافت العرش الاردني، فتركها تنمو مقدماً لها “الاغراءات” لتفسد عبر السيطرة غير المشروعة على مرافق الدولة والشارع، مطمئناً إلى خطورة الانقسامات ضمن فصائلها المتعددة، خصوصاً وان بعض الانظمة العربية بادرت إلى استرهان بعض الفصائل بتقديماتها من المال والسلاح..

وكان لا بد أن يؤدي كل ذلك مجتمعاً إلى الصدام بين النظام الملكي الهاشمي الذي استولد قيصريا، كإمارة، عند تقسيم المشرق العربي (1920) وبين المقاومة الفلسطينية التي كانت قد غدت متعددة الرؤوس، وغرقت فصائلها في مغريات السلطة خصوصا وقد توفر لها المال والسلاح..

وفي اوائل ايلول 1970 تجددت الاشتباكات عنيفة بين الجيش الاردني وفصائل المقاومة الفلسطينية، مما استدعى عقد قمة طارئة في القاهرة لصياغة تقاهم يقضي بخروج المقاتلين من عمان إلى جرش.. ثم اخذوا يندفعون، نحو لبنان عبر سوريا التي كانت ترعى فصيلها الخاص (الصاعقة) وترفض تمركز كتلتهم المقاتلة بفصائلها المتناحرة في اراضيها..

وهكذا انتهى الصدام بإخراج المقاومة الفلسطينية، قيادة ومقاتلين، من الاردن وعبر سوريا إلى لبنان الذي استقبلهم مضطراً، محاولاً تنظيم وجودهم في مناطق محددة من الجنوب، على حدود فلسطين، وذلك بموجب اتفاق بين حكومته والقيادة الفلسطينية برئاسة عرفات، عقد تحت رعاية عبد الناصر في القاهرة.

غير أن هذا الاتفاق وجد من يعارضه في لبنان، بقوة سياسية ينقصها السلاح..


أثقل لبنان “بالثوار” الذين فقدوا ميادين قتالهم الاصلية فاحتشدوا فيه..

وكانت الانظمة العربية التي لا تريد القتال، ولا تطمح إلى تحرير فلسطين، قد ضاقت ذرعاً بالوجود الفلسطيني المسلح واطمأنت إلى أن النظام اللبناني المدول منذ نشأته، والمطأف بالقصد، هو المؤهل ليكون “مدفن” المقاومة الفلسطينية، ولو بعد حين..

..وهذا ما جرى في منتصف السبعينات: اذ بادرت اطراف لبنانية بقيادة حزب الكتائب إلى افتعال اشتباك مع بعض المقاومين الفلسطينيين في منطقة عين الرمانة ـ احدى ضواحي شرق بيروت، سرعان ما تحول إلى حرب اهلية مفتوحة كان ختامها المحزن الاجتياح الاسرائيلي للبنان حتى عاصمته بيروت، و”التفاهم” الاميركي ـ العربي على اجلاء المقاومين الفلسطينيين عنه و”تهجيرهم” موزعين على اقطار عدة، مع اختيار تونس كمقر لقيادتهم.

وكانت تلك نقطة النهاية للمقاومة الفلسطينية خارج فلسطين.. ولانكشاف التواطؤ الاميركي ـ الاسرائيلي، ولتعزيز الانظمة الطائفية في لبنان وسائر دول المشرق (في غياب مصر)..

ولسوف يبدأ تاريخ جديد لهذه المنطقة، لا سيما بعد خروج مصر من ميدان الصراع العربي ـ الاسرائيلي مع معاهدة كمب ديفيد..

وفي غياب او تغييب مصر، واحتلال العراق، وتفجير سوريا من الداخل، واشغال لبنان بمباذله وانقساماته الطائفية، وانطفاء وهج الثورة الفلسطينية، يبقى الامل في مقاومة الداخل الفلسطيني.. شرط احتضانه عربياً، وهذا متعذر في الوقت الحالي..

ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل.

تنشر بالتزامن مع جريدتي “الشروق” المصرية و”القدس” الفلسطينية