نشرت صحيفة "هآرتس" تحقيقاً مثيراً ومؤلماً حول تجارة أشجار الزيتون الفلسطينية العتيقة، حيث يسرق بعضها تحت ضوء الشمس وتحت نظر وسمع أصحاب بيارات الزيتون التي تبكي هي وأصحابها فقدان الأشجار المعمرة، التي تقتلع وتصل بطرق التفافية مختلفة الى السوق الإسرائيلية ومباشرة الى منازل أصحاب الملايين، أشجار الزيتون التي تقلع من أرضها بلا رحمة ويدون اذن أصحابها، أضحت تجارة غير رسمية تقدر بعشرات الملايين من الشواقل كل سنة.
من يسرق هذه الأشجار؟
الزيتون كان دائماً الى جانب البرتقال رمزاً للوطن الفلسطيني، له مكانة مقدسة في قلوب أبناء الشعب الفلسطيني، وكما أن إسرائيل الرسمية باتت تعتبره رمزاً قوميا لها، تماماً كما صارت الفلافل والحمص مأكولات إسرائيلية، وتفاخر إسرائيل بجودة الزيت المنتج، مع الأخذ بعين الإعتبار ان منتجي الزيت معظمهم من أبناء الوطن الفلسطيني بأطرافه المقسمة.
الصحفية مايا زينشتاين من "هآرتس"،قامت بإجراء تحقيق جريء حول موضوع أشجار الزيتون، أشارت فيه انه منذ عشر سنوات تجري تجارة غير قانونية بأشجار الزيتون الفلسطينية العتيقة، بعضها يزيد عمرها عن الف سنة، تسرق، تقلع بشكل غير قانوني، تهرب من الضفة الغربية الى إسرائيل وتصل الى منازل أصحاب الملايين لتزيين مداخل منازلهم، حدائقهم، ساحاتهم، والى مواقع أخرى مختلفة، وكلها أشجار اقتلعت غصباً من أراضي أصحابها، من الأرض التي نمت فيها منذ مئات السنين.
ان من يدخل منازل أغنياء إسرائيل كما جاء في التحقيق الصحفي، يظن انه انطلق في مركبة الزمن عائداً الى ايام هيرودوس، الحاكم الروماني لفلسطين الذي استمر حكمه من عام 37 قبل الميلاد حتى عام - 4 قبل الميلاد، في عهده زرعت الكثير من أشجار الزيتون.
ظاهرة تزيين منازل أصحاب الملايين اليهود في إسرائيل بأشجار الزيتون العتيقة أصبحت ظاهرة واسعة الانتشار. هذه الظاهرة تنمو وتكبر دون أن تثير أصداء او تدخّلاً من السلطة لوقف عملية السرقة. السؤال الذي يشغلني هو لو كانت الأشجار التي تسرق ويجري اقتلاعها من أراض داخل الخط الأخضر، يملكها اليهود او استملكها اليهود بأمر السماء، هل كانت السرقة تمرّ بمثل هذا الصّمت والتجاهل؟
"هآرتس" تكشف ان معظم الأشجار يجري تهريبها من مناطق الضفة الغربية المحتلة، والبعض الآخر من الجليل، وهو تعبير يعني أراضي بملكية عربية، ولكنها لا توضح هل يجري اقتلاعها هي الأخرى عنوة بدون معرفة أصحابها؟ هل اقتلاع الأشجار يجري حسب القانون؟
التهريب من مناطق السلطة الفلسطينية يجري بدون عقبات، ويمر عبر الحواجز بدون سؤال وجواب.
سعر الشجرة الواحدة يتراوح بين 30 الى 80 الف شاقل. أشجار لم يتعب سارقوها بصيانتها وتنميتها والحفاظ عليها لتطعمهم وتطعم أولادهم وتبقى ضمن الحقوق الأساسية البسيطة التي يمكن ان لا يتطاول عليها الاحتلال "المتنور" وسوائب مستوطنيه، على اعتبار ان الشجرة ليست طفلاً فلسطينياً يجعل ضابط نيابة عسكري يقول لوفد من البرلمان البريطاني جاء ليفحص واقع حقوق الطفل الفلسطيني تحت الإحتلال: "ان كل طفل فلسطيني هو "مخرب" محتمل في المستقبل"!!
بغض النظر عن اقتلاع أشجار زيتون بموافقة أصحابها لأسباب عديدة منها ضيق مساحة أراضي البناء في الوسط العربي داخل إسرائيل وحالة الفقر التي تسود بعض هذه الأوساط، إلا ان هذه الظاهرة تأخذ منحى آخر في المناطق المحتلة.
حسب تحقيق "هآرتس" نقل أشجار الزيتون يشكل أيضا مخالفة جنائية في الكثير من الحالات. نص القانون واضح ولا يترك فسحة لعدم الفهم. أمر "الغابات الانتدابي"، الذي يعتبر القاعدة القانونية لحماية الأشجار في إسرائيل والضفة الغربية بنفس الوقت يمنع قطع او نقل شجر الزيتون، وأشجار أخرى، من مكان لمكان، دون الحصول على تصريح بالقلع والنقل، وكذلك تصريح لأصحاب الأرض باقتلاع أشجارهم، وذلك من موظفي قسم الغابات في وزارة الزراعة وموظفي "الكيرن كاييمت لإسرائيل" (صندوق أراضي إسرائيل).
"الكيرن كاييمت" تعترف انه توجد فجوة هائلة بين التراخيص التي أعطيت لنقل عدد من أشجار الزيتون، وبين ما يجري في الواقع، البعض يقول ان الفجوة تصل الى 50% فجوة بين التصاريح وعمليات الاقتلاع والبيع غير المشروعة.
يقول احد العاملين في هذا المجال حول نقل الأشجار من الضفة، انه "ممنوع إحضار أشجار زيتون من الضفة لأن دولة إسرائيل لا تملك حقوق اقتلاع الأشجار هناك".
في مشتل في المثلث (أتجاهل قصداً عدم ذكر التفاصيل والأسماء) توجد عشرات من أشجار الزيتون منم جيل 100 سنة وحتى ألف سنة. يقول العامل هناك ان سعر الشجرة يصل الى 75 الف شاقل والشجرة الثانية للمشتري 60 الف شاقل فقط "!!"، وانه يوجد الكثير من "المجانين" في إسرائيل خاصة من قيساريا ومن سيفيون (أي مدن الأغنياء في إسرائيل) – القصد أغنياء يدفعون عشرات آلاف الشواقل مقابل كل شجرة زيتون. حول السؤال من اين وصلت هذه الأشجار؟ لا يجيب العامل الا بالصمت وابتسامة ذات دلالة ترتسم على وجهه، بعد تردد، وبعد فحص الزبون بعينيه ليتأكد ان لا شيء يمنع المصارحة يشاركه بمعلوماته: "هل ترى هذه الأشجار؟ وصلتنا أمس في الحادية عشرة ليلاً مع رافعة بقدرة 50 طنا. هذه اشجار عمرها 2500 سنة، ليست من هنا، هذه الأشجار من الخارج، من فلسطين، كل هذه الأشجار من فلسطين".
يشرح العامل شكل الحصول على الشجر: "أذهبُ الى أصحاب بيارات الزيتون، أختر بعض الأشجار، وأقول لصاحبها اني سأدفع لك عشرة آلاف دولار مقابلها، هذا مبلغ كبير جداً جداً بالنسبة له ، خلال عشرة سنوات قادمة تلك الأشجار لن تعود عليه بدخل مشابه. يصاب الفلسطيني بصدمة من قيمة المبلغ المعروض وبِحيرة كبيرة، البعض لا يقبل، ولكن من يقبل نرسل له شخصا من طرفنا، يشتري الأشجار، نتلقّى الموافقة من وزارة البيئة، نسجّل الشجر ونحصل على تصريح ونمرّ عبر الحواجز مع الترخيص.
الإادارة المدنية بصفتها الجسم الوحيد المسؤول عن اقتلاع الأشجار من الضفة الغربية وإدخالها الى إسرائيل لها رواية مختلفة.
ضابط الزراعة في الإدارة المدنية يقول انه في السنة الأخيرة لم يعط أي تصريح لقلع ونقل أشجار زيتون ويدعي الضابط أنهم في الإدارة المدنية لا يعلمون شيئاً عن تهريب أشجار الزيتون الى إسرائيل. مستهجن انهم لا يعلمون. ويبدو ان عدم العلم سياسة ؟!
صحيفة "يديعوت أحرونوت" نشرت عام 2003 تقريرا عن حملة قلع واسعة جدًا لأشجار زيتون من الضفة الغربية (المناطق المحتلة) وأوضحت أن بناء الحائط الأمني، عزل آلاف أشجار الزيتون عن أصحابها، وتسبب اثر ذلك بقلعها الواسع وسرقتها. أكثريتها لم تُعَد لأصحابها بل بيعت من قبل مقاولي البناء الذين بنوا الحائط الأمني، وبمعرفة الادارة المدنية.
صحيفة "هآرتس" تسجل قصة مؤلمة: محمد مقبل من إحدى قرى الضفة الغربية، يحمل أوراق الطابو لأرض اشتراها والده قبل ولادته، وهي عبارة عن بيارة مزروعة بأشجار الزيتون، عمر أشجارها أكثر من 100 عام، لا يسمح له بزيارة أرضه إلا مرتين كل سنة. الى جانب أوراق الطابو يحتفظ محمد مقبل بكمية كبيرة من الشكاوي التي قدمها في السنوات العشر الماضية لشرطة إسرائيل ولإدارة التنسيق والاتصالات في الضفة الغربية حول اعتداءات متكررة على أرضه، منها اقتلاع أشجار زيتون دون اذنه، يؤكد انه في عام 2007 اضطر للمشاهدة من البعيد، الجرافات وسيارات الشحن تقتلع أشجار الزيتون من أرضه، وان شكواه للشرطة لم تفد، وان الإدارة المدنية أعادت له أقل من نصف الأشجار والبقية "اختفت"!!
ويضيف محمد مقبل ان لجاره أيضاً مشكلة مشابهة، هذا عدا موت أشتال زيتون جديدة زرعها لأنه لم يسمح له برويها ورعايتها بسبب منعه من الوصول الى أرضه إلا مرتين في السنة.
طبعاً الحائط الأمني خلق واقعاً مؤلماً ومدمّراً للزراعة الفلسطينية بفصل قرى كاملة عن أراضيها واضطرار الفلاحين لبيع أشجار الزيتون، التي لم يعد باستطاعتهم الوصول اليها، وقد تتعرض للاعتداء الهمجي بالقلع والحرق من المستوطنين، وايضا لضمان لقمة الخبز التي أصبح ضمانها صعباً جداً مع الحصار المفروض على البلدات العربية ومنع الفلاحين من فلاحة أرضهم وزراعتها والحواجز العسكرية التي حولت البلدات الفلسطينية الى سجون كبيرة لا تتوفر فيها الشروط الأساسية لحياة طبيعية. هذه الظاهرة توجد في الكثير من المناطق وأبرزها قرية "حبلة" في مقاطعة قلقيليا، حيث تمر الأشجار المقلوعة عبر الحاجز العسكري بدون مشاكل.
الحقائق تبدو بلا أهمية وتافهة أمام ما يجري من سرقة الأرض الفلسطينية، ومهزلة لجان قانونية تشرع الاستيطان والسيطرة على الأرض. في ظل هذا الواقع من يهتم بأشجار الزيتون في الوقت الذي يعاني فيه الانسان الفلسطيني من حصار ونهب وحرمان من حقوق اولية للبشر؟ حتى الوصول الى المستشفيات بات مشكلة وبعض النساء يلدن أطفالهن على الحواجز العسكرية وهن ينتظرن رحمة المحتل ليسمح لهن بالوصول الى المستشفى وولادة "المخرب" الفلسطيني الجديد؟
طبعا السلطة الفلسطينية لها موقف ضد اقتلاع أشجار الزيتون الذي يشكل مصدر دخل هام وأساسي للفلسطينيين. الأرض والرقابة عليها ليست بأيدي السلطة وحتى ليست بأيدي الإدارة المدنية إلا شكلياً وشرطة إسرائيل لا يهمها الأمر. لو كان الاتجاه عكسياً لسمعنا عن اعتقالات وتحقيقات ومحاكمات. طبعاً، وعود كثيرة تُطرح، يُسمع عن تهديد بالعقاب لمخالفي القانون، بل ويقال بوضوح انهم يعلمون ان هناك فجوة كبيرة تصل الى أكثر من 50% بين تصاريح نقل أشجار زيتون وبين الواقع. مسؤولية من تنفيذ القانون في المناطق المحتلة؟ مسؤولية من الكشف عن هذه السرقة الرهيبة للشجر الفلسطيني الذي يشكل الغذاء الأساسي للمجتمع الفلسطيني المحاصر والمعزول عن العالم وعن بعضه البعض؟يبدو ان حالة أشجار الزيتون لا تختلف عن حالة أصحابها. الانسان الفلسطيني، حتى داخل إسرائيل، يعاني من "ابرتهايد" والشجر الفلسطيني يعاني من ابرتهايد. التسيّب لن يتوقف ما دام احتلال الأرض الفلسطينية مستمراً.
"الكيرن كاييمت" اعترفت انها أصدرت في السنة الأخيرة 18,900 تصريحاً لنقل أشجار زيتون. ولكن معظم هذه الأشجار ليست مطلوبة في السوق، وإنما هي أشجار جديدة اقتلعت من أراضي الكيبوتسات بسبب ارتفاع أسعار مياه الري ولتنفيذ مشاريع أخرى.تبين كذلك ان عقاب تجار الأشجار المهربة والمسروقة لا يشكل رادعاً. الغرامة التي تفرضها المحاكم لمن يضبط بعملية التهريب تتراوح من 750 شاقل حتى 5,000 شاقل لأشجار تباع الواحدة بأكثر من 75 ألف شاقل. الجهة الوحيدة التي اهتمت بالموضوع، هي دائرة الضرائب، ليس لأنقاد أشجار الزيتون الفلسطينية من السرقة، بل للحصول على حصة الضريبة من الأرباح الخيالية، أرباح الاعتداء غير المشروع والمخالف للقانون الذي تدعي إسرائيل انه تنفّذه ويشمل أشجار الزيتون الفلسطينية، لا أعرف أحكام القانون الدولي في هذه الحالة.
لا بد ان تقوم الى جانب السلطة الفلسطينية هيئة عامة تشرف وتوقف اقتلاع أشجار الزيتون، واستهجن اني قرأت عن الموضوع بصحيفة عبرية مستقيمة وجريئة، ولم أقرأ عنه بتقرير فلسطيني رسمي او صحافي.
سوائب المستوطنين حرقت وقطعت آلاف الأشجار. حان الوقت لجعل شجر الزيتون ضمن الحماية القانونية الواضحة للسلطة ألفلسطينية، وإجراء مسح ورقابة دائمة. يجب إنقاذ شجر الزيتون من سياسة الأبرتهايد الإسرائيلية التي لا تميز بين الإنسان والنبات. كل ما هو فلسطيني مباح. يجب ان يعاقب كل متعاون وبائع لهذه الثروة الفلسطينية ومعاملته بنفس أسلوب معاملة الخائنين لوطنهم ومقدساتهم.
بقلم/ نبيل عودة