على وقع التصعيد والتهدئة وماتخللها من حروب دامية، يتواصل حصار قطاع غزة، ويتواصل معه سعي الحكومة الإسرائيلية للاستفادة من واقع الانقسام،باتجاه توظيف الخطوات المقدمة من الاحتلال في ملف التهدئة كمقدمة لترسيخ انفصال القطاع عن الضفة وتأبيد الانقسام واستثماره سياسيا في هذه المرحلة عبر بورصة العروض السياسية المطروحة في سياق صفقة ترامب.
وماهو مطروح إسرائيليا في هذا الشأن ليس نوايا مبيتة في دوائر القرار الإسرائيلي الضيقة بل هو مشروع معلن صرح عنه بنيامين نتنياهو مرارا منذ وقوع الانقسام واشتغل على أساسه، حتى في الفترة التي كانت فيها المفاوضات مع الجانب الرسمي الفلسطيني ضمن المشهد السياسي، قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة منذ بضعة أعوام.
لكن الأمر بات أكثر خطورة منذ مجيء إدارة ترامب وماقدم معها من هجوم مفتوح على حقوق الشعب الفلسطيني وطموحاته الوطنية. والمخاطر التي كان يتم التحذير من اقترابها باتت وقائع تتحرك على الأرض.
إلى جانب المشروع الإسرائيلي المذكور، يمكن القول إن سياسية نتنياهو تجاه ثنائية التصعيد التهدئة في قطاع غزة توظف في خدمة تعزيز الموقع السياسي والحزبي لرئيس الحكومة، وفي نجدته كلما ازداد من حوله ضغط الملف القضائي بخصوص ارتكابات الفساد المنسوبة إليه. ويلجأ نتنياهو إلى لفت الانتباه نحو ما يجري في قطاع غزة على صعيدي التهدئة والتصعيد واستثماره في تسوية الخلافات داخل الائتلاف الحكومي، وفي الاشتباك السياسي مع المعارضة في محطات عدة خاصة على أبواب انتخابات الكنيست الأخيرة وتشكيل حزب «أزرق ـ أبيض» برئاسة رئيس الأركان السابق بيني غانتس الذي زايد على نتنياهو كثيرا بشأن قطاع غزة.
وفي هذا كله، يلفت الانتباه أن نتنياهو يستخدم لهجتين متعاكستين: التهديد ضد غزة في معرض المزايدة على الأحزاب الصهيونية والرد على اتهامه بالتهاون مع القطاع، ولهجة التهدئة و»طول النفس« في سياق المناورة على المبادرات الإقليمية والأممية بشأن التهدئة وتخفيف إجراءات الحصار.
والمعادلة حتى تستقيم بالنسبة إلى نتنياهو ينبغي أن يستبدل السياسي بالإنساني وبالعكس. فأزمات قطاع غزة أزمات إنسانية منشأها الأساس سوء إدارة الفلسطينيين لأوضاعهم، ولاعلاقة للاحتلال وحصاره الخانق بالأمر.لكن هذه الأزمات الإنسانية تتحول في سياق البحث في إجراءات تخفيف الحصار إلى «بضاعة» سياسية ينبغي قبض ثمنها على حساب محددات البرنامج الوطني الفلسطيني. لذلك يطالب الاحتلال بوقف مسيرات العودة وكسر الحصارـ على سبيل المثال ـ كجزء من أثمان تخفيف الإجراءات الإسرائيلية المفروضة على القطاع .
ووجد نتنياهو في أزمات القطاع مجالا للمزايدة على الفلسطينيين أنفسهم فوجه سهام نقده إلى السلطة الفلسطينية على خلفية قطع وتخفيض رواتب موظفين لها في غزة إضافة إلى إجراءات عقابية أخرى، وقدم نفسه كحريص غيور على مصالح الغزيين! وهو هنا يصب الزيت على نار الاحتراب الذي كان في ذروته بين حركتي فتح وحماس لأن من مصلحة الاحتلال أن يتأبد الانقسام ويتفاقم إلى حد الانفصال الفعلي بين الضفة والقطاع. وتصبح بالتالي قضايا القطاع «محلية» منفصلة عن الهم الوطني الفلسطيني العام، ويتم بحثها في سياق مختلف تماما.
فموضوعة التهدئة هنا تخرج من الصيغة التي نجح الفلسطينيون في فرضها عقب عدوان العام 2014 على القطاع بعدما تمكن الوفد الفلسطيني الواحد من فرض معادلة تضع الاحتلال أمام التزامات واجبة التنفيذ بنتيجة المفاوضات غير المباشرة التي جرت برعاية القاهرة. ونجح الوفد في وضع مسألة التهدئة في سياقها السياسي الصحيح من خلال التمثيل الشامل لمكونات الحالة السياسية الفلسطينية.
وزايد نتنياهو أيضا على حليفه ترامب عندما طلب عدم قطع المساعدة الأميركية عن الأونروا في قطاع غزة، من موقع معرفته أن القطاع برميل بارود وخزان هائل من الاحتقان الذي تخشى تل أبيب انفجاره كونها ستكون أول من يحترق بفعل هذا الانفجار. وقد وجدت حكومة نتنياهو في صفقة ترامب فرصة كي يتم التركيز على حل مشاكل القطاع بمعزل عن عناوين القضية الفلسطينية واستحقاقات البحث في حلها.
وتضغط حكومة نتنياهو على الحالة الفلسطينية في القطاع مستغلة معاناة أهله من أجل التوصل إلى تفاهمات مجحفة بحق الفلسطينيين تحت سيل من الوعود الفارغة بإجراءات مستقبلية «واعدة» شرط المرور بمرحلة انتقالية يثبت الفلسطينيون خلالها «حسن سلوكهم» في الالتزام بشروط الاحتلال وحليفته واشنطن. ومن زاوية الإدراك بأن إغراءات الاحتلال ووعوده إنما هي مدخل لمسعى تأبيد الانقسام تؤكد المساعي الفلسطينية بشأن التهدئة على ضرورة أن تترافق هذه الجهود مع مساعي إنجاح المصالحة .
وعلى الرغم مما أتت به إدارة ترامب من مصائب عبر صفقتها العدوانية إلا أنها خلقت وضعا فلسطينيا موحدا في الموقف برفض الصفقة على المستويين الشعبي والسياسي.وهذا أمر يشجع على البناء عليه والدفع باتجاه إعادة تنشيط الجهود الوطنية والاقليمية المخلصة من أجل إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة ربطا بالمخاطر الكبرى التي تتهدد حقوق الشعب الفلسطيني على يد المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي والأطر والآليات التي ابتدعها على وقع استشراء التطبيع الرسمي العربي مع الاحتلال.
وأمام أية جهود تجاه إنهاء الانقسام تبقى المسالة مرهونة بتوافر الإرادة السياسية وتغليب المصلحة الوطنية العليا على المصالح الضيقة التي أنتجت السياسات الانقسامية وأوصلت الحالة الفلسطينية إلى ماوصلت إليه من الترهل والضعف، وتحتاج هذه المهمة الوطنية الكبرى إلى دور ضاغط من الشارع الفلسطيني بقواه السياسية والاجتماعية والمهنية وفئاته وشرائحه المختلفة وفي المقدمة منهم الشباب.
فعاليات الضغط من أجل استعادة الوحدة ليست منفصلة براينا عن التحركات والفعاليات المفترضة في مواجهة الاحتلال ومستوطنيه وإجراءاته وسياساته التوسعية في سياق مواجهة صفقة ترامب وتعبيراتها، وليست منفصلة أيضا عن معارك الدفاع عن حقوق اللاجئين الفلسطينيين في مواقع لجوئهم والذين يتعرضون لحرب التجويع بدلا من دعم صمودهم في وجه مشاريع التوطين ودعم تمسكهم بحق عودتهم إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها منذ العام 1948.
الحرب ضد الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني تتصاعد ومحاولة تصفية القضية الفلسطينية تنشط على يد المشروع الأميركي ـ الإسرائيلي وأعوانه، وفي المقابل يتمسك الشعب الفلسطيني بهذه الحقوق ويدافع عنها ومعه الكثير من الأصدقاء الذين يقفون إلى جانبه. المعركة كبيرة وطويلة وأول مايتحاجه الصمود فيها وصولا إلى الانتصار هو إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة.
بقلم/ محمد السهلي