فيلمان عن مذبحة !

بقلم: المتوكل طه

عندما يتوالد شبحُ الإرهاب ..

***

لمناسبة مرور ثمانية أعوام ، على أحداث المجزرة المروّعة التي وقعت في النرويج ، وما صاحبها من تداعيات على غير صعيد ، سنتناول الفيلم النرويجي جولاي 22 للمخرج إريك بوبّ ، والذي تمّ إنتاجه العام الماضي 2018 .  ليس لنجدّد استنكارنا لكلّ أشكال ومصادر الإرهاب فحسب ، بل لنسبر غور الخلفيّات التي ما زالت كامنة وراء تلك المذبحة ، ولنتبيّن الكيفيّة التي تمّ التعاطي بها مع هذا الحدث المهول ؛ سياسياً ومن ثمّ فنّياً وتربوياً . والفيلم من بطولة  أندريا بيرنتزن،أليكساندر هولمن،بريدي فريستاد،ألي ريهانون،أوزبورن،ماغنوس مويين ودانيال تران.

 ينفتح الفيلم على يوم الجمعة ، الثاني والعشرين من شهر تموز 2011م يوم تعرّض النرويج لهجومين من قبل الإرهاب ؛ الأول كان انفجار سيارة في مقّر الحكومة ، والثاني مجزرة مخيم أيوف الصيفي في جزيرة أوتويا .

وكان مرتكب الجريمة البالغ  اثنين وثلاثين عاماً من عمره واحداً من غُلاة  أقصى اليمين المتطرّف النرويجي .

والفيلم يصوّر تفاصيل المذبحة المدوّية التي وقعت في المخيم ، لتجعل المشاهد كأنه واحداً مع أولئك الشبان الذين تفجّر هواؤهم الملغوم بالذعر، وأصبح الخوف القاتل يسيطر عليهم مع صوت كل رصاصة تضجّ في المكان ، وتهّتز أبدانهم وقلوبهم الفارغة مع كل صدىً يتفشّى لرصاصٍ متواصل ويُطلَق في القريب .

وثمة صراخ واستغاثات .. ومن ثمّ رصاص.. لا ينفك يشظّي السكون المرعوب .

وتبرز من بين نزلاء المخيم شابة تصّر ، بجسارة ، على أن تبحث عن شقيقتها التي لم تجدها وسط مَنْ هربوا إلى الغابة ، وتركوا المخيم ، فتعود إلى المخيم وتبحث عنها ، ولم تجدها.. إنها كاجا الشجاعة ، التي لم تفقد رباطة جأشها ، ولم تستسلم .

وراحت تنقذ وتساعد كلّ مَنْ تصادفه خائفاً .. أو مختبئاً أو مُصاباً بالرصاص .. فتشدّ من أزْرهم وتهدّىء من روعهم .

ويهرب الشبان ؛ فمنهم مَن يختبىء في تجويف صخري ، ومنهم وراء شجرة وبعضهم ينزل البحر .. ويسبح .. على غير هدى .

والرصاص ما زال يتصادى في الأنحاء .

وانغلق المشهد الأسود .

لقد استمر الهجوم لأكثر من سبعين دقيقة ، وراح ضحيته سبعة وسبعون، وجُرح قرابة المئة ، أصبحوا من ذوي الاحتياجات الخاصة ، ووضعهم في منتهى الصعوبة ، فيما ظلّ يعاني أكثر من 300 شخص من القلق والاضطرابات بسبب الضرر العقلي الكبير الذي أصابهم.

إن هذا الفيلم الذي استند على شهادات النّاجين ، قد وثّق لحادثة إرهابية ، يهدف لأن يقرع الجرس لمواجهة أسباب هذا الوباء ، الذي لا دّين ولا هويّة ولا لغة له .. فالإرهاب موجود أينما كان ، وفي كل العصور . غير أن الفيلم ، أيضاً يريد أن يجعل المؤسسة الرسمية أكثر استعداداً لمواجهة مثل هذه الاحتمالات الكارثّية .

 والمجتمع القوي المُعافى هو وحده القادر على نقد نفسه ، لتوفير الأفضل ، مستقبلاً.

والمُلاحظ في هذا الفيلم أنه لم يُظهر صورة القاتل ، وكأنه يريد أن يُبقي حالة التحفّز قائمة ، بمعنى أن القاتل شبح مُبهم ومن الممكن أن يتوالد ثانيةً أو  يتّخذ عدة وجوه وأشكال.                               

 أما الفيلم الثاني الذي تناول الحادثة نفسها فهو فيلم : 22 جولاي للمخرج بول غرين غراس .

اسم الفيلم: 22 July  - أمريكي 2018

إخراج: بول جرينجراس

بطولة: جون أوجاردن،أنديرس دنيلز.                                                                                                                                                                         وهذا الفيلم  يتناول الموضوع نفسه، بقدرة أعلى على الإقناع والتفصيل والواقعية ، كأنّ صناعة التصديق كاملة في مشاهد التفجير ، التي طالت مبنى الحكومة النرويجية  .. بل إنّ الفيلم قد تتبّع شخصية الإرهابي المجرم منذ قيامه بإعداد المتفجّرات وجمعها ، وكيف تمّم جريمته  النكراء ، وظهر المعسكر الشبابي في الجزيرة بحيوية وتفاصيل أكبر ، علاوة على أن المجرم الذي تنكّر بزيّ شرطيّ مسلّح استطاع أن يخترق حُرّاس الجزيرة التي تحفظ أمن معسكر الشباب ، قبل أن يقتلهم ويواصل مذبحتة المرعبة  .

وأرى أن إنتاج أكثر من فيلم عن هذه المجزرة يعني  اهتماماً بالغاً من المجتمع المعنيّ بتأصيلها ، بهدف إبراز رداءتها وكارثيّتها وخطورتها، وللتحذير منها والعمل على مواجهتها  .

وأظن أن هذا الفيلم أبرز الجريمة بطريقة أكثر فظاعة ورعباً من فيلم " يو 22 جولاي" ،  رغم أن أرض الجريمة وعناصرها لم تختلف في كلا الفيلمين وهي جزيرة أوتويا النرويجية .

لقد ظهر الإرهابي بكامل الإصرار على تنفيذ مهمّته  ، وهو يردّد نداءه على الماركسيين والليبراليين الذين يستحقّون القتل ، حسب رأيه وعقيدته .

كان المجرم يقتل بدم بارد وبصورة ميكانيكية مكرورة تدعو للتساؤل أمام هذا الاعتقاد الحاسم بوجوب قتل الآخر لمجرد أنه لا يعتقد بما تعتقده !!

إن هذا الفيلم أكثر إقناعاً لتفاصيله ، وقدرته على ملاحقة كل العناصر ، ولدقّة روايته ، وسخونة الدم وانفتاح الجروح والملامح ، التي كانت طبيعية إلى حدّ مذهل .

لقد كان إيقاع الفيلم سريعاً يتماشى مع الحدث المهول الصادم ، وأظهر سرعة وحرفيّة طواقم الشرطة والإسعاف واستعداد المجتمع المتقدّم لأيّ طارئ !

وقد تمّ اعتقال المجرم الذي استطاع أن يخدع حُرّاس معسكر الشباب عندما ادّعى بلباسه الشرطيّ أنه جاء ليحمي الشباب بعد أن وقع تفجير في العاصمة ، مما سهّل مهمته.

والمجرم هو أندريس بهرنغ برايفيك والذي وصف فعلته في إفادته أمام المحقّق بأنها عملية عسكرية للانقلاب على نظام الحكم ولإقالة الحكومة وتصفية المعسكر السياسي في النرويج ، وأضاف ؛ لقد تم اختياره لتنفيذ هذه المهّمة من قبل مجوعات ينتمي إليها ، لا يستطيع التصريح أو الكشف عن هويتها ، لكنه مخوّل بالتفاوض مع المحققين نيابةً عن هؤلاء الإرهابيين ، وأن مطالبهم تتمثّل في وقف كامل وفوري لهجرة الأجانب إلى بلده (حظر كامل على الهجرة ووضع حدّ لتعدّد الثقافات القسري .. وإذا رفضت الحكومة  ستستمر الهجمات).

إن منْ يشاهد الفيلم يعتقد بأنه تمّ تصويره فعلياً خلال الأحداث وتداعياتها، وكأنه وثائقي بامتياز ، لقدرة الفيلم على خلق أجواء حقيقية مماثلة ومطابقة لما جرى .

إن هذا القاتل وجماعته الإرهابية اليمينية المتطرفة هم امتداد أو جزء من النازيّين الجدد الذين أضحوا يظهرون مثل فقاعات الدمامل في الجسد الغربي ، نتيجة لترسّبات عنصرية ما زالت تتململ في أحشاء الغرب ، ولهذا لم يكن غريباً أو مفاجئاً أن نسمع القاتل يقول لمحاميه  بأنه بدأ حرباً ضد الخونة للحفاظ على نقاء الغرب!

وأجزم بأن المتلقّي لهذا الفيلم سيتعاطف كلياً مع الضحايا وسيكره بل سيحقد على القاتل وأفعاله السوداء ، وسيشعر بأنفاسه المتتابعة تعلو وتزداد سخونة وهو يستمع لكلمات القاتل المباشرة التي تقول حرفياً : نحن ننتمي إلى فرسان الهيكل تيمّناً بفرسان الحملة الصليبية ، ونريد إخراج الإسلام من آوروبا.

لقد كانت حصيلة الجريمة تبعاً لهذا الفيلم سبعاً وسبعين ضحية وأكثر من مئتي جريح ما بين متوسط وخطير حرج .

وربما أثار اهتمامي مدى رسوخ التعامل الحضاري الناعم الهادئ .. حتى مع المجرم ! وكيف يتمّ احترام القوانين ! علاوة على أن شخصية رئيس الوزراء ، رابط الجأش ، قد استرعت انتباهي وهو يقول : كان هجوماً على حكومتنا وأولادنا .. والواضح هو أن بلادنا قد هاجمها شخص قد رآها تغيّرت ورأى أن إنسانيتنا قد تهاوت .. ويجب ألا نستسلم لهذا الإرهاب .. ويجب أن نقاتل وعلينا أن نعزز من قيمنا ونحارب هذا الإرهاب بحكم القانون وليس بفوّهة البندقية .

 تجدر الإشارة إلى أن رئيس الوزراء قرّر  إجراء تحقيق في  كلّ ما جرى وأكد أن ثمة خطأ فادحاً قد حدث ويجب أن يتم اكتشافه !!

والشيء المهم الآخر في هذا الفيلم هو أن الدوائر المعنيّة راحت تبحث عن سبب قيام هذا الإرهابي بفعلته الشنعاء ، فاكتشفوا أن والديه انفصلا بطريقة عنيفة عندما كان صغيراً وأن والده تخلّى عنه .. وأن ذلك جعله وهو مراهق انعزالياً منطوياً ، بمعنى أن الخلية الأولى ، وهي الأُسرة ، هي مَن يحدّد مصير الفرد المستقبليّ ، تبعاً لطبيعتها إيجابياً أوسلبياً !

ولننتبه إلى جُملة أمّه التي قالتها للمحامي : إنه ،أي ابنها القاتل ، مُحقّ فيما فعله..لأن الطريقه التي تسلكها البلاد مخالفة لما كانت عليه .

وهنا يبرز تأثير الأمّ على أولادها !

والغريب أن محامي القاتل قد دفع باتجاه أن يُقدّم المتّهم القاتل للمحكمة على اعتبار أنه مجنون ، وقد حضر المختصّون النفسيون ، وجاء في تقريرهم عنه بأن هذا الإرهابي مصاب ب "انفصام جنون العظمة" ، وهو ما رفضه المجرم ، الذي أراد أن يقول بأنه ارتكب جريمته بوعي وإصرار وتخطيط مُسبق .

أما فيما يتعلّق بالمحكمة ، فقد طالب محامو أهالي الضحايا بإعادة تقييم نفسي للمجرم ، وعندما اعتراض محامي القاتل ، قالت القاضيه : إننا نفعل ما هو لصالح النرويج ! بمعنى أن القانون وإسباقياته ومواده وثغراته لا ينبغي لها أن تقف في وجه العدالة التي تنادي بها البلاد.

من جهة أخرى رأينا كيف أن أطرافاً غاضبة من القاتل راحت توجّه تهديدات للمحامي ولعائلته لأنه يدافع عن قاتل مجرم !

وإن معاناة " فيليار" وهو أحد المصابين الذين نجوا ، وحالته المزرية بسبب الآلام الحقيقيه والوهميه التي يعاني منها ، وأن ما حدث في المعسكر ما زال يزنّ ويتصادى بعنف في دماغه ، ولا يستطيع التخلّص منه .. هو ما يلخّص ويكثّف معانيات الشبان الذين أصيبوا ، إضافة إلى ما يجرّه ذلك من آثار موجعة ومعانيات على أهاليهم ، الذين امتلأوا بالحسرات والتعب.

إن هذا الفيلم الساخن الصريح المباشر يقول كل شئ دون مواربة ، فيكشف عن مدى تشعّب وانتشار قوى اليمين المتطرّفة في آوروبا وأمريكيا ، ومدى خطورتها البالغة .

إنه فيلم كاشف ومن العيار الثقيل ، على العكس من الفيلم الأوّل الذي تناول مقطعاً صغيراً من الحكايه كلها.

إن إتاحة الفرصة في الفيلم للقاتل لأن يقدّم مرافعته بمنتهى الوضوح ويشرح أفكاره .. أراها تعرية لهذه الأفكار المزيفة  والخطيرة ، بدعوى كشفها والتحذير منها .

وتكمن موضوعية الفيلم في إتاحة الفرصة للمهاجرين ليدلوا بشهادتهم في المحكمة ويتساءلون : ما المخيف فينا كبشر ؟ ونحن نحبّ النرويج ونعتبرها مصدر أمن وأمل ؟

إن الجملة الأعمق والأخيرة في الفيلم هي أن أحد الناجين وفي شهادته في المحكمة أكد على أنه نجا واختار الحياة ، فلديه أصدقاء وذكريات وحبّ وجيران .. أما القاتل فهو وحيد تماماً وسيتعفّن في السجن .

وإن الخلاصات التي خرج بها تقرير التحقيق في الأحداث  ، وكشف أماكن التقصير .. يثبت أن هذه الدول تستطيع أن تحاسب المسؤولين بالفعل ! وتقدر على اكتشاف مواقع الخلل والأخطاء .. لمعالجتها  ، ولهذا فهي دول قوية وتتقدّم .

وأخيراً  ؛ لقد اعترف رئيس الوزراء بالتقصير ، واعتذر لأهالي الضحايا عن ذلك .. فيما قضت المحكمة بالإجماع على المجرم بالحبس الانفرادي المؤبد.

إنه فيلم حقيقي متكامل ، يستحق الاحترام والتعميم  والتقدير.

بقلم/ المتوكل طه