ستبقى صور نسف وتدمير بيوت الفلسطينيين سكان حي «وادي الحمص» في قرية صور باهر المجاورة لمدينة القدس، قابعة في الذاكرة كقابس يشحن صاحبه بشعورين مهينين هما الخوف والعجز؛ فهدم البيوت العربية وتشريد أهلها كانا من مشاهد النكبة المروّعة، ثم ما تلاهما من عمليات قمع حرصت إسرائيل على الإيغال في تنفيذها، لاعتقادها بأنها أنجع الوسائل لتدجين المواطن الفلسطيني وتلقينه كيف عليه أن يعيش داخل حدود كهفه، ويقبل بما يطعمه سيّده وبما يسقيه.
لكل مأساة زمانها وروحها ونزفها المختلف؛ وضحية وقصة هذا «الوادي» تعكس خلاصة من سيرة السراب الفلسطيني الذي يولد، كحلم أبطال الملاحم من اليأس، فيصير عثرة فعذابًا فزفرات فضياعًا. كان الصباح فوقنا في القدس، أسود والوجع مهمازًا ينقر خواصرنا. السماء كالقبور، جميلة وهادئة، فعبثًا نفتش عن معنى بين ثناياها وعن قطرة ندى، لا صوت في المدى إلا صدانا وتنهيدة ناي.
سبعون مضت والحروف ما زالت مدلّاة من أعناقنا كتمائم تسترضي آلهة تؤثر، كما كانت، رقصة النار على دمع البرتقال.. وخمسون طويت وما فتئ «إسماعيل» يفتش عن أبيه في الفيافي، و»إسحق» يمضي نحو حلمه النحاسي ويغزو أرض «الغرباء» مدجّجًا بالبرق والمزامير والسياط. لقد استفزت العملية الاسرائيلية في «وادي الحمص» قلوبًا كثيرة لا مجال لتعدادها؛ لكنني سأتوقف هنا عند لافتتين بسبب ما تعنيانه، لا لأصحاب البيوت المنكوبة فحسب، بل لمستقبل البلاد ومن سيبقى عليها أو من سيدفن في ترابها.
عقدت اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية اجتماعًا طارئًا «لمتابعة أحداث جريمة الحرب الاسرائيلية المرتكبة بحق أبناء الشعب في القدس المحتلة، وتحديدًا في منطقة وادي الحمص وصور باهر. حمّل الدكتور صائب عريقات أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير، في أعقاب ذلك الاجتماع، إسرائيل والإدارة الامريكية، المسؤولية عن جرائم هدم منازل ومنشآت الفلسطينيين في القدس المحتلة؛ وأضاف أن المنظمة «ستضع آليات لإلغاء كافة الاتفاقيات الموقعة بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني؛ وأعلن، في تصريح يعدّ سابقة فارقة وبالغة الأهمية، بأن اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير «ستوقف التعامل مع جهاز محاكم الاحتلال الاسرائيلية باعتبارها أداة رئيسية لتنفيذ سياسات الاحتلال وترسيخه». لم يفصح الدكتور صائب عن أي تفاصيل عملية حول توقيت البدء بتنفيذ ذلك القرار، أو حول كيفية «التوقف عن التعامل مع جهاز المحاكم» وعن أي محاكم إسرائيلية سيشملها القرار. وعلى جميع الأحوال، يشكل هذا الموقف برأيي نقطة تحوّل جدّية في الموقف الفلسطيني الرسمي؛ قد تؤدي، في حالة تنفيذها الحقيقي، إلى تداعيات إيجابية، من شأنها أن تعيد لمفهوم نضال الشعب الفلسطيني ضد الاحتلال بعضًا من مضامينه الوطنية الحقيقية الصائبة، وقد تنقله إلى حالة كفاحية سياسية جديدة، خالية من لبس المفارقات التي خلقتها مرحلة «الحمل الواهم»، لا سيما بعد تقويض حكومات إسرائيل لجميع الأسس التي أرستها «اتفاقية أوسلو»، وبعد أن لاكت تلك الحكومات ما بقي من فتات ذلك العهد ولعقت، بشكل تام، جميع آثاره فأردت كل الآمال التي عقدت عليه.
لن يحتمل هذا المقال سرد تاريخ هذه المحاكم وما ارتكبته، خلال ما يزيد عن خمسة عقود، من موبقات بحقوق أبناء الشعب الفلسطيني؛ فهي، كما صرح الدكتور صائب، وجدت لتكون «أداة رئيسية لتنفيذ سياسات الاحتلال ولترسيخه»؛ وقد كانت كذلك في ممارساتها اليومية. على منظمة التحرير أن تمضي في تنفيذ ما أعلن باسمها، وعليها وضع برنامج واضح يفضي، بدون تسويف، إلى وقف التعامل مع «محكمة العدل العليا الاسرائيلية» ومع جهاز «المحاكم العسكرية» على جميع تفرّعاته. أخصّ، في البداية، هاتين الجهتين لدورهما التاريخي السافر، والمثبت كذراعين أنيطت بهما، منذ ساعة إنشائهما، مهمة تسويغ سياسات سلب حقوق الشعب الفلسطيني، وترويض أبنائه واحتوائهم في «زرائب» ترفع على أبوابها، أمام العالم، رايات العدل، لكنها تعاملهم بتشاوف السيّد على عبده المسجون، داخل أقبية القمع والظلم والإذلال.
لقد بنى سكان «وادي الحمص» بيوتهم في منطقة صنفتها اتفاقيات أوسلو كمنطقة ( أ) حيث لا تملك فيها اسرائيل صلاحيات في الشؤون المدنية على الاطلاق. حصل الفلسطينيون على تراخيص لبناء بيوتهم من السلطة الفلسطينية، وفقًا للاجراءات المتبعة في المناطق المصنّفة كمناطق (أ)؛ ورغم ذلك، أصدر قائد جيش الاحتلال أمرًا يقضي بعدم السماح لهم بالبناء هناك، أو السكن في بيوتهم المكتملة، معلّلًا قراره بتهديد تلك البيوت لأمن اسرائيل بسبب قربها من جدار الفصل.
تظلّم المواطنون المحتلون أمام محكمة تسمّى «محكمة العدل العليا» في محاولة منهم لإقناع ثلاثة من خدمة مخططات الاحتلال، بأنهم، أي الملتمسون، أصحاب الحق والأرض، وبأن وجودهم، مع عائلاتهم هناك، لا يشكٌل خطرًا على أمن اسرائيل وعلى سلامة سكانها. لم يصغ إليهم القضاة، بل عاملوهم بعجرفة كجنود يخدمون دولة اليهود. رفضوا الالتماس وأجازوا هدم عشرات المنازل المأهولة؛ فتفوّق أمن اسرائيل، مجدّدًا، على جميع الاعتبارات الإنسانية، وتربع مكانه فوق جميع المواثيق الدولية؛ لأن القائد العسكري، كما كتب القاضي مزوز ناسفًا ما تبقى من ركام «نرويجي»، يستطيع «إنفاذ صلاحياته بذرائع أمنية حتى داخل مناطق (أ، ب) وذلك يشمل حقه بتحديد إمكانيات البناء لأسباب أمنية وعسكرية». وأضاف جازمًا بوضوح «كل بناء يقام بعكس أمر عسكري اسرائيلي سيُعدّ بناءً غير مشروع، حتى لو كان موقعه داخل مناطق (أ، ب) فليس بوسع التصريح المعطى من قبل سلطة التنظيم الفلسطينية أن يمس أو أن يقلل من صلاحيات القائد العسكري»! لقد قطع «مزوز» قول كل حليف أو خطيب؛ وبقيت غصة الوادي ووعد صائب.
غصة إسماعيل وشهادة يوڤال
عندما كانت الجرافات تهدم أحلام المواطنين، وكان الطغاة ينتعلون ضمائرهم، والناس يسعون كالطير، وراء أرزاقهم، وكنا في فلسطين نفيق على دبيب النمل في شراييننا، كتب صحافي يهودي من موقع «الغزوة» شهادته فقال: «أشعر بتعب نفسي كبير. أمضيت ليلتي في صور باهر. شاهدت بأم عيني كيف يدمرون لإسماعيل حياته ومأواه. إسماعيل رجل طيب وحساس. لقد خطط كل تفاصيل بيت احلامه.. هكذا أخبرني في الساعة الثالثة فجرًا، وقبل وقوع الكارثة. حينها كانت رجلاه ترتعدان وكان يصلي ويتمنى، حتى آخر لحظة، ألا يهدموا البيت.. اختار لون الورد لخشب خزائن المطبخ وتأكد أن تكون جدران غرفة طفلته الصغيرة عازلة للضجيج وللبرد، فهو يحب ابنته كثيرًا. لقد أرسلها لتنام في بيت جدها وأبقى بجانبه أبناءه يترقبون مثله بخوف وصول الوحوش إليهم». اسمه يوفال وقد يكون صحافيًا مغمورًا في مجتمعه، لكنني أشعر بأن ما دوّنه سيبقى خرطشة كتبت بمداد من روح سيحفظها التاريخ دليلًا على تغوّل شعبه، بعد أن «تمسكن فتجبّر وتنمّر» وشهادة على من هو القاتل ومن المقتول. اقتحم عشرات من أفراد الشرطة البيت فكتب يوفال: «أرى كيف ملأ الغضب والمهانة عيني إسماعيل وعيون أولاده ؛ فعندما دفعنا الجنود بقوة إلى الخلف، صرخ الأولاد فاقشعر جسدي واحمرت عيونهم من الغاز المسيل للدموع. احتضنهم اسماعيل وكان ينتفض ويبكي». «كان عنف الجنود فظيعًا؛ هدمت اسرائيل البيوت. اسرائيل العنصرية والمستعمرة..إسرائيل التي اخجل أنا أن اكون مواطنًا فيها».
نفذ الاحتلال جريمته في وضح النهار، وتسابقت الشاشات على نقل الصور حتى تلاشت آخر حبة غبار في حلق العدم، وجلس الصيٌادون يحصون فرائسهم وفلسطين كانت متكئة على كتف الريح.. ابنة العاصفة وولّادة الزهر. بدأت الشمس ترتفع فوق القباب الخضر، تجفف مطر العيون المتعبة وتسافر في رحلتها الأبدية بين وعد صائبٍ وغصة الوادي.
جواد بولس
٭ كاتب فلسطيني