أكاد أجزم أن الكثير ممن يقرأون المقالات، أو يطلعون على التقارير ويتابعون الأبحاث، يكتفون فقط بقراءة العنوان، أو المرور بسرعةٍ على مقدمة المقال، ثم يطلقون عليه حكمهم القاطع، وتقييمهم الحاسم، دون أن يكلفوا أنفسهم عناء قراءته أو فهمه، أو إدراك كنهه وسبر معانيه، وما إذا كان يحمل رسائل أو ينقل مفاهيم، أو أنه يعتمد الإيحاء والترميز، أو التورية والإيماء لهدفٍ آخر بعيدٍ غير الذي خرجوا به وفهموه.
والأشد غرابةً وسوءً هو انتقال القارئ الذي صنف نفسه ناقداً، وعد نفسه حكماً، من محتوى المقال ومتنه، ومعناه وقصده، إلى الكاتب نفسه، فيبدأ في الشتم واللعن وكيل الاتهامات، وأحياناً يصدر أحكامه بالكفر والردة والفسق والزندقة وغير ذلك، فقط لمجرد أنه عييَ عن قراءة مقال، أو عجز عن فهم المراد، أو غاب عنه اللب والمغزى، أو لأنه فعلاً اختلف مع الكاتب ولم يعجبه رأيه، أو سبق له أن اختلف معه ولم يتفق وإياه.
أيها القارئ الكريم، قبل أن تطلق سهامك وتحكم، قف وفكر، تمعن وتبصر، فليس عيباً أن نختلف، وليست جريمة أن نتباين، فقد يخطئ كاتب فنصوبه بالنقد الإيجابي، ونعيده إلى دائرة الصواب بالمراجعة الموضوعية، والقراءة الرزينة العاقلة، دون أن نكون بحاجةٍ إلى أن نطلق عليه رصاصاتٍ قاتلة أو عباراتٍ جارحةً.
إطلاق الأحكام قبل إتمام القراءة وبيان القصد واكتمال المعنى خطأ لا ينبغي الوقوع فيه أو الانزلاق إليه، ومجاراة الناقدين واتباع هوى المخالفين عيبٌ آخر، وتجاوز المقال أو المنشور إلى الكاتب أو صاحب الرأي، أمرٌ لا يليق وهو ينافي العلمية والموضوعية، ويقود إلى غير المقصود والمراد، إذا تشبت أحد الفريقين برأيه، وتمترس عنده، وتبناه أو دافع عنه واعتمده.
أخيراً أدعو كل ناقدٍ أو مستنكرٍ، رافضٍ أو معارض، أن يعيد قراءة المقال مثار التعليق هنا، "رحيلُ الرئيس التونسي حزنٌ وأملٌ"، ويتأكد أن ما فيه مدحاً وإشادة، وتعظيماً وتمجيداً، أم هي محاولة لتصحيح السلوك، وتصويب الممارسة، وتسوية الاختلافات بالاستيعاب والقبول، فلست محباً للحكام أو مؤيداً، وجلهم إلا من رحم ربي متردية ونطيحةٌ وموقوذةٌ ودون ذلك.
وفي المقال أيها السادة رفضٌ للجبر والقهر والاستبداد، وإدانة للسجون والمعتقلات، وثورةٌ على القتل والإعدام والعزل والتغييب، واستنكارٌ للانقلاب على صناديق الانتخابات وأصوات الناخبين، وفيه رأي الشعب في حاكميه وموقفهم منهم وأملهم فيهم.
في المقال ما نقبل به ونجمع عليه، وفيه ما نرد عليه ولا نتفق فيه، لكن الناقد الحصيف تلزمه قراءة متأنية وعقلٌ رشيد، واستقلالية فكرٍ وموضوعية حكمٍ، وانعتاقٌ من تبعية وخلاصٌ من عصبيةٍ، وبراءةٌ من تطرفٍ وبعدٌ عن التشدد.
شكراً لمن انتقد وعارض، وشكراً لمن أيد ودافع، سائلاً المولى الكريم أن يأخذ بأيدينا إلى جادة الصواب، وأن يجمع على الحق كلمتنا، وأن يوحد عليه صفنا، وأن يصوب أخطاءنا، ويصحح اعوجاجنا، ويهيدنا جميعاً إلى سواء السبيل.
بقلم د. مصطفى يوسف اللداوي
بيروت في 26/7/2019