خالد خليفة في رواية “لم يُصَلِّ عليهم أحد“

بقلم: المتوكل طه

التعايش ، والأسئلة ، والعشق المذبوح ..

***

على مدار خمسين عاماً ، تقريباً ، وعشرة فصول متداخلة ، يأخذك خالد خليفة إلى حكاية متشابكة، غزيرة التفاصيل ، والتي تبدو متكرّرة أحياناً ، وينتهي  بكِ إلى مشاهدة مصائر شخوصها ، الذين ، غالباً ما تكون مأساويةً ، وسط حراك لا يرعوي عن الانتقال من أرض إلى أخرى ، هي نفسها فضاء حاضرة باذخة تاريخية اسمها الرنّان "حلب" ، بامتداداتها ..التي تصل ، أحياناً ، إلى اسطنبول ، لتعكس مرحلة تاريخية ، تبدأ مع نهايات القرن التاسع عشر وتنتهي مع بداية النصف الثاني للقرن العشرين .

ومع كل هذا الثراء في التفاصيل ، الذي يحتاج إلى  متابعة وانتباه ، فإن غير فكرة تنمو وتتكرّس ، لتكون نسغ هذه الرواية ، وأعتقد أن فكرة " التعايش " الحقيقي والطبيعي والإنساني ، التي شهدتها حلب ، بين أتباع الديانات السماوية وأبناء الأعراق الأخرى ، هي الثيمة الرئيسة التي يطيب لي أن أتوقّف أمامها ، بكثير من الإعجاب ، إذ يتماهى المسلم مع النصراني واليهودي والكرديّ والتركي والأرمني .. ضمن نسيج لا يعكّره طارئ ولا يفسده اختلاف عابر ، بقدر ما يتزاوج أبناء هذه الديانات ويتعايشون ويتساكنون ويتصادقون كأنهم عائلة واحدة ، إلى درجة أن ذروة قصص العشق في تلك المرحلة كانت بين عائشة المفتي المسلمة ووليم عيسى المسيحي ، وقد تقبّل المجتمع هذه العلاقة بينهما ، ولم يفرّقهما إلاّ ضابط متجهّم قاسٍ يمثّل سلطة شرسة ، تحاول أن تستحوذ على كل شيء .. حتى النساء ! بل ويتمّ دفن جثتيّ العاشقين معاً في حفرة واحدة ، ستصبح ، فيما بعد ، مزاراً وشاهداً للحب وعلى أجمل حكايات العشق والغرام .

والحبّ في الرواية لا يموت ، إنه ينبعث من جديد من خلال أسماء العشّاق الذين يتوالدون بالأسماء ذاتها . كما أن الموت في هذه الرواية ليس أكثر من  واقع تعيشه حلب " الآن " وإن كان قيل بأنه كان قبل عقود .. بمعنى أنّ اللحظة المزدحمة بالهلاك قد انبثقت لتصبغ معظم صفحات الرواية ، مثلما دفع الموتُ الكاتبَ لأن لا يرى في الماضي القريب إلا المعادل الموضوعي لما يحياه ، وهو الموت .

وثمة أفكار أخرى رئيسة وثانوية ، تشكّل عروقاً ذهبية تضخّ دماءها النابضة في جسد الرواية ، أهمها تلك الأسئلة الفلسفية والوجودية القلقة المتعلّقة بالحياة والموت والمتعة ، ولكن تظلّ متّصلة بالعلاقات الإنسانية ، التي شكّلتها حلب لكل المعتقدات والإثنيات ، بكل هذا السلام والإطمئنان ، هي ما يُلحف الروائي على استعادته ، وكأنه يستحضر صورة إنسانية مُشرقة ، رغم آلام الطوفان والقتل والجوع والأمراض والزلزال وقمع السلطات ، لمواجهة هذه الشقوق التي عادت تفتح فمها الوثني لتبتلع المجتمع ، وتُلقي في وجهه أسوأ السكاكين التي راحت تفرم وحدته وتوقظ الطائفية المقيتة والعِرقيّة البائسة ، حتى أن الروائي ، وعندما وصل إلى بداية الخمسينيات من القرن الماضي ، قد أظهر محبّة يهود حلب إلى موطنهم الأصلي ، ولم يتجاوبوا مع دعوات الوكالة اليهودية التي تدعوهم للهجرة إلى " اسرائيل "  واختلفوا حولها !

وأعتقد أن الكاتب على حقّ ، إذ أن تاريخنا العربي مثّل أرضية طاهرة وصلبة ، تَعايش عليها المؤمنون من كل المشارب ، والناس من كل جذر ، في القرون الهجرية الأربعة الأولى ، وفي الأندلس ، وفي العديد من الحواضر ، التي لم تشهد هذا النبْت الشيطاني الذي اسمه العنصرية أو تشظّي الأديان والأعراق .

إن حلب مؤهّلة لأن تتمكن من إقامة مجتمع مدني على بساطها ، قوامه أولادها ، بصرف النظر عن مشاربهم وتوجهاتهم ، لأن حلب وريثة حضارة لم تشهد في تاريخها ظاهرة فاشية أو نازية أو محاكم تفتيش أو إبادة لملايين الملوّنين أو إلقاء قنابل نووية .. إنها حضارة الإنسان وسلامته ونعيمه في الدنيا والآخرة .. رغم ما اعتراها من بقع سوداء أو دامية ، لا أنادي بتنقيتها ، ولكن أقف في وجه مَن يصبغ حضارتنا بلون واحد .. أسود.

ولا يمكن لحريق أو هدم جدار أو اعتداء صغير أن يفتّ في عضد حلب القلعة ، أو يتمكّن من هدمها وخلخلتها .. إنها راسخة ثابتة لا تميد .. كالجبال .

لقد قدّم لنا الروائي في بطن تلك المرحلة وثيقة سسيولوجية نقلت ثقافة تلك الجغرافيا بالمعنى الاجتماعي ، ورأينا الحياة بكل سجاياها وتعقيداتها وانبساطها وعاداتها ، ما يضيء شخصية حلب في الحقبة الماضية .

وربما ! يريد الروائي أن يقدم لنا سردية من الزمن الجميل ، رغم أوجاعه وجوعه ، مقابل مشهدية دامية ومهولة .. نراها منذ بضع سنوات .. ليقول لنا إن حلب ، التي هي رمز بلاد الشام وربما البلاد العربية كلها ، كانت ، مع طوفانها ومجاعاتها ، أكثر معقولية ورحابة ، وكانت أكثر تألقاً وتماسكاً وتكاتفاً !

إن المجتمع العربي ، في بعض تكويناته ، يخرج عن كونه مجتمعاً بسيطاً ، ذا مرجعيات واحدة ، ويصبح ذا عدة مراجع وتكوينات .. ومع هذا فقد انصهر ، على مدى القرون ، باستثناء نتوءات هنا وهناك ، وحافظ على ديباجته القادرة على هضم الجميع ، حتى أن العديد من المؤرّخين المُنصِفين اعتبروا تاريخنا نموذجاً للمجتمع المدني الحقّ ، رغم بعض الشوائب والمراحل الاستثنائية .

ولعل الأحداث في السنوات الأخيرة دفعت بعض القوى الإقليمية والمتحكّمة لاستنفار المُغايرة والاختلاف وتصادم الأكتاف العنيف والتأكد على الخصوصيات ، لأهدافٍ باطلة ، يحققون معها أهدافاً سياسية مسمومة ، لهذا أرى أن هذه الرواية تتصدّى لهذه الأنفاس الشيطانية الطارئة ، وتحاول جاهدة أن تنادي بالتعايش ، ثانيةً ، بين أبناء الأرض الواحدة .

وأشهد لخالد خليفة قدرته العجيبة في الإحاطة بكل تلك المنمنمات والتفاصيل والأحداث ، وإمكانياته ، التي لم تفتر ، على طرحها بلغة معافاة مُشبعة بالمترادفات والأصالة ، والقادرة على نقل تلك الحمولة الثقيلة المزخرفة ، أو التي تعجّ بالكوارث والمآسي والصور ، دون أن تفقد قوتها أو أناقتها أو أي تفصيل هنا أو هناك . وبظنّي ، فإن الأسئلة الفلسفية التي تنبثق في سياقات الرواية ، لا تبحث ، بالضرورة ، عن إجابة نهائية أو محقّقة ، بقدر ما تعكس ذلك الاضطراب الطبيعي في عقل وقلب كل إنسان متأمّل ، تستثيره الحياة بتقلّباتها وأحداثها ومخاتلاتها ، وأن أي عمل بشري لا ينبغي لنا الحكم عليه مسبقاً ، بأفكار أو معتقدات أو مُقاربات جاهزة ، لأن الواقع المعيش والحياة الدنيا وأسئلتها ، أكبر من ذلك بكثير .

وقد يكون الطوفان أو الزلزال أو القتل في الرواية حقيقياً .. لكنّي أُحيل هذه الوقائع واعتبرها أحداثاً من صنع الإنسان لتدمير الإنسان ، بمعنى أن طوفاناً ما دمّر بلدة أو ابتلعها إنما هو "فعل" من صنع الناس ! عليهم أن يكونوا أكبر منه ، من خلال استيعابهم لبعضهم البعض ، ومن خلال تكاتفهم وتضامنهم المشترك ، كطريقة وحيدة لكي ينجو الجميع ، وحتى لا ينتصر طرف ويموت الباقون .

وإن " الليبرالية " التي تمتّع بها مجتمع حلب في تلك المرحلة ، تصلح لأن نستقدمها ، كأسلوب عبقري ، يسمح بالتعددية والحرية ، ليعيش أبناء المجتمع كما يرغبون ويحلمون . أي أن قمع الناس واستلابهم  والتدخل في معتقداتهم والتطفّل على خصوصياتهم ، يعتبر انتهاكاً سافراً وبغيضاً ، ويجب الوقوف في وجهه ومحاربته .

إن الذين لم يُصَلَّ عليهم في هذه الرواية هم أولئك الضحايا ، على اختلافهم ، بدءاً من العُشّاق الذين ذابوا في بعضهم البعض ، لكن ثمّة مَن حرمهم من الحياة ، فقتلهم ، ودُفنوا دون أن يُصلّى عليهم ! ومنهم مَنْ أخذهم الطوفان تحت موجاته العاتية فانطمر تحت الطمي والركام .. ولم يُصلِّ عليهم أحد ، ومنهم مَنْ اضطر للخروج من أثواب داره إلى غربة قاتلة .. ومات وحيداً .. ولم يُصَلَّ عليه .. ومن الضحايا المُضمرين أولئك الآلاف المؤلّفة من الذين اضطرتهم الأحداث الأخيرة لأن يركبوا البحر أو يقطعوا الحدود أو تخبزهم الطائرات ، فيغرقوا أو ينخّلهم الرصاص .. ويموتون .. ولا يصلّي عليهم أحد .

 وفي هذه الرواية ، تفقد الحياةُ مباهجها إلى حدّ كبير ، بسبب " السلطة " و"التسلّط " وعندما تُصاب الهوية الجماعية بتشقّقات في صفحتها السويّة ، أما غضب الطبيعة المتمثل بالطوفان أو الزلزال أو الطاعون .. فإن المجتمع المتماسك ، سواء أكان بسيطاً أو ثنائياً أو مركّباً ، والذي يجمعه عقد اجتماعي عادل .. يكون قميناً وقادراً على الانتصار ، على كل ما يواجهه ويعترضه ويصيبه من ويلات وكوارث .

إن الأسلوب " الوثائقي " الذي استندت عليه بُنية الرواية ، يهدف إلى التأكيد على صحّة ووثوقية وصدقيّة وحقيقة الأحداث التي قامت عليها الرواية ، ما يجعلها ، أو يدفع المتلقّي لأن يتعاطى معها ، باعتبارها تاريخاً لا يرقى إليه الشك ، ووقائع يجب التسليم بها ، ما يمدّها بقوّة وصلابة واقعية .

ومع كل ما قيل ، فإنني لا أنكر بأن هذه الرواية قد فرضت عليّ الكثير من التركيز لمتابعة خيوطها وملاحقة شخوصها وتتبّع أحداثها ، وربّما أتعبتني قليلاً ، غير أنني امتلأت بروحها الإنسانية الرهيفة والوالهة ، وعرفت حلب التي كانت تضفضف بكل تلك القلائد والفيْض والمحبة ، وكيف تتحوّل المدائن ومصائرها ، وكيف يتكوّن غير جنين في أحشائها .. لتلد لنا وجوهاً جديدة ، ولتضجّ بأصوات أخرى ، ويصبح لها غير واجهة ولون ورائحة ، وكيف تتسع وتتشكّل .. وكأن الروائي يخطّ ذلك الرسم البياني للمدينة المضروبة بالمهالك ، وكيف تقوم وتتمدّد ، بفعل السنين والأحداث .

إن خالد خليفة  في روايته هذه قد أوصل صرخته الإنسانية التي تضافرت فيها دماء الضحايا ، وأصوات الأسئلة الذابحة ، وتأوّهات العشاق ، وموسيقى الحياة ، وأثبت من جديد أنه روائي قادر على تقديم عمل زخم رصين ، يستحق التقدير والتبصّر.

بقلم/ المتوكل طه