قرار وقف العمل بالاتفاقيات.. لماذا؟ وإلى أين؟

بقلم: معتصم حمادة

 (1)

نحن ممن تساءلوا ما إذا كانت الحالة الفلسطينية بحاجة إلى وقوع نكبة، كنكبة وادي الحمص، وتدمير أكثر من 100 شقة سكنية، تمهيداً لضم أراضيها إلى مشاريع الاستيطان، حتى تتحرك القيادة الرسمية، لتنبش، من تحت رماد سياسة المماطلة والتسويف والتعطيل، قرارات مضى على صدورها في الدورة الـ27 للمجلس المركزي الفلسطيني حوالي خمس سنوات، أعاد التأكيد عليها المجلس في دورته الـ28، والمجلس الوطني الفلسطيني في الدورة 23؟

ونحن أيضاً ممن تساءلوا، هل تحتل قضية وادي الحمص، على أهميتها الفائقة، والتي لا نقاش في خطورتها، موقعاً أكثر أهمية من قضايا كالقدس والاعتراف الأميركي بها عاصمة لإسرائيل، ونقل سفارة واشنطن إليها، أو قضية اللاجئين وحق العودة، أو ملف وكالة الغوث وحصارها مالياً تمهيداً لحلها، أو الاعتراف بمشروعية الاستعمار الاستيطاني في القدس والضفة الفلسطينية، أو نزع صفة الاحتلال عن الضفة والقدس، واعتبارها  متنازعاً عليها، أو نزع صفة المستوطنات والإعلان عنها بلدات ومدناً يهودية؛ أو الاعتراف بـ«حق» إسرائيل في ضم الضفة الفلسطينية، أو رفض الاعتراف بقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة بالقضية والحقوق الوطنية الفلسطينية، وتكريس «الحقائق» و«الوقائع» الميدانية بديلاً لها، ما يكرس الاحتلال والاستيطان، ويصفي المسألة والحقوق الوطنية الفلسطينية؟

ونحن كذلك ممن تساءلوا، إذا لم تكن هذه القضايا كلها، كافية في حسابات القضية الوطنية، للإعلان عن وقف العمل بالاتفاقيات الموقعة مع الجانب الإسرائيلي ودولة الاحتلال، فما الذي دعا القيادة الرسمية الآن، وبعد حادثة ونكبة وادي الحمص إلى الإعلان عن هذا القرار؟

كما من الواجب أن نسأل: من هي الهيئة القيادية التي اتخذت قراراً بالبدء بوقف العمل بالاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال.؟

هل هي القيادة الفلسطينية، كما وصفت أم أنها «اجتماع قيادي»، كما هو في حقيقته؟ الاجتماع ضم، إلى جانب رئيس السلطة، أعضاء اللجنة التنفيذية (ليسوا كلهم) وأعضاء في الحكومة، وأعضاء في اللجنة المركزية لفتح، وقادة في الأجهزة الأمنية، وموظفين في مكتب الرئاسة. هذه الهيئة لا تمتلك صفة رسمية بل هي تجميع لمسؤولين، بعضهم له الصفة الرسمية، وبعضهم ليست له سوى الصفة الحزبية. لماذا لم يصدر القرار عن اللجنة التنفيذية في م.ت.ف، باعتبارها هي المكلفة رسمياً، وبقرار من المجلسين المركزي والوطني، تطبيق قرارات وقف العمل بالاتفاقيات مع دولة الاحتلال؟

هل هو قرار «القيادة الفلسطينية» ذات التركيبة غير الثابتة، والتي يدعى لها المشاركون وفق سياسة انتقائية؟ أو هو رئيس السلطة الذي اتخذ القرار بصفته الرسمية الفردية؟ ولماذا لم يسبق اتخاذ القرار مشاورات وطنية مدروسة، لتعزيز مضمونه وتحصينه وطنياً وإكسابه صدقية أكبر؟

(2)

قد نتهم سلسلة الأسئلة المذكورة أعلاه، أنها تندرج في سياسة التشكيك بصدقية القرار، وحسن نوايا الذين اتخذوه، وأن الأمر يتطلب بدلاً من التشكيك، تعزيز الوحدة الوطنية والتماسك الوطني، والالتفاف حول القيادة»، إلى آخر ما هنالك من الدعوات التي رأت أن القرار «أحدث انقلابا» في الحالة الوطنية الفلسطينية، وأن على الجميع الارتقاء إلى مستوى الانقلاب الوطني.

غير أننا نرى في كل هذا، محاولة للتعمية والتغطية على قضايا كبرى، مازالت قائمة رغم أن أصحاب دعوات «الالتفاف»، يحاولون أن يلجؤوا إلى سياسة «عفا الله عما مضى، ونبدأ من جديد». على فرض أننا أمام «جديد» بكل ما في الكلمة من معنى.

ما نعتقده، أنه ليس في السياسة ما يسمى «حسن النوايا» أو «سوء النوايا». في السياسة برامج وخطط واستراتيجيات وتكتيكات تخدم الاستراتيجيات ولا تحل محلها، وقرارات عملية وخطوات ميدانية. وهذا، يعفينا بالتالي، من اللجوء إلى الغوص في لعبة تقدير سوء النوايا أو حسنها

(3)

في هذا السياق دعونا نلاحظ ما يلي:

• أن قرار وقف العمل باتفاقيات  أوسلو، صدر في 5/3/2015 في الدورة الـ27 للمجلس المركزي في م.ت.ف، وأن القيادة الرسمية ومن خلف اللجنة التنفيذية، عقدت اتفاقا ضمنياً مع إدارة أوباما، في واشنطن، بتجميد العمل بالقرار، أي تعطيله، مقابل إدامة عمل مكتب م.ت.ف، في واشنطن.

ما جرى بعد ذلك أن إدارة ترامب أغلقت مكتب المنظمة، وبقيت القيادة الرسمية معطلة لقرارات المجلس المركزي. هذه وقائع، لا علاقة  لها، لا بسوء النوايا، ولا بحسنها.

• إن الدورة الـ 28 للمجلس المركزي، والتي انعقدت في 15/1/2018، أي بعد أكثر من شهر من إعلان إدارة ترامب اعترافها بالقدس عاصمة لإسرائيل، أعادت التأكيد على قرارات الدورة السابقة، وقررت تعليق الاعتراف بدولة الاحتلال، إلى أن تعترف هي بدولة فلسطين على حدود 4 حزيران 67 وعاصمتها القدس. ما جرى أن القرارات بقيت معطلة ولم تأخذ طريقها إلى التنفيذ. ثم وفي 20/2/2018 ألقى رئيس السلطة الفلسطينية كلمة أمام مجلس الأمن الدولي، اعترف فيها أن إسرائيل لم تعد تلتزم باتفاقيات أوسلو، وأن السلطة مازالت تلتزم بها من جانب واحد، ودعا إسرائيل للعودة إلى الاتفاقيات، ملوحاً بإمكانية اللجوء إلى الموقف نفسه، أي عدم الالتزام بالاتفاقيات، علماً أن المجلس المركزي، في دورتيه الأخيريتين، لم يرهن العمل بالاتفاقيات، أو مصيرها، بالموقف الإسرائيلي بل دعا إلى الشروع فوراً بوقف الالتزام بها. ثم في خطوة متعاكسة تماماً مع قرارات المجلس المركزي، ومخالفة لها تماماً، أطلق الرئيس مشروعه للعودة إلى المفاوضات تحت سقف أوسلو، وهو المشروع الذي أطلق عليه اسم «رؤية الرئيس». أي أن الاستراتيجية السياسية التي أقرها المجلس المركزي، ذهبت في اتجاه الخروج من أوسلو، والتحرر من بروتوكول باريس، وأن «رؤية الرئيس» ذهبت في اتجاه الحفاظ على أوسلو والتمسك به وباستحقاقاته، في انتهاك فاقع لقرارات المؤسسة الوطنية وتهميش لها، واستخفاف بمبادئ الشراكة الوطنية في رسم القرار السياسي في م.ت.ف، القائمة على مبادئ الائتلاف الوطني. وهذه وقائع لا علاقة لها لا بالنوايا، ولا بما يشبه النوايا. ولا يمكن إدراجها في باب التشكيك، وأي تجاهل لها، ولتداعياتها على الحالة الوطنية وعلى المصالح الفلسطينية، موقف هروبي وغير مسؤول.

• عند التئام المجلس الوطني الفلسطيني، والذي دعي أصلاً بوظيفة التأكيد على قرارات المجلس المركزي، بوقف العمل والالتزام بالاتفاقيات الموقعة مع دولة الاحتلال. افتتح رئيس السلطة الجلسة بكلمة دعا فيها  المجلس إلى الالتفاف على قرارات المجلس المركزي، وإلى تبني «رؤية الرئيس»(20/2/2018) كأساس، لاستراتيجية تستعيد التفاوض الثنائي مع دولة الاحتلال، في إطار تطبيقات اتفاق أوسلو. وقد أثار هذا الأمر ردود فعل عاصفة في أرجاء المجلس، لأن الكلمة شكلت ارتدادا عن قرارات دورة المركزي، فضلاً عن أنها لم تأخذ بالاعتبار حقيقة مضمون «صفقة ترامب» التي بدأت تدب على الأرض بخطوات تطبيقية، كانت فاتحتها بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل، ما يبشر بأن الصفقة ليست سوى ترجمة لمشروع نتنياهو لحل المسألة، بتصفية القضية والحقوق الوطنية، وهذا ما أكدت الوقائع اللاحقة حقيقته.

• مع أن المجلس الوطني لم يأخذ باقتراح تبني «رؤية الرئيس» واعتمد بدلاً من ذلك موقفاً بديلاً، دعا إلى مفاوضات بإشراف الأمم المتحدة وبموجب قراراتها ذات الصلة، وبإشراف مباشر من الدول الخمس الكبرى، وبسقف زمني محدد، وبقرارات ملزمة تكفل قيام الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس، على حدود 4 حزيران 67، وحل قضية اللاجئين بموجب القرار 194، الذي يكفل لهم حق العودة إلى الديار والممتلكات التي هجروا منها منذ العام 1948، غير أن القيادة الرسمية بقيت متمسكة بـ «رؤية الرئيس»، وتروج لها باعتبارها هي السياسة المعتمدة، وليست قرارات المجلس الوطني، ما ألحق الأذى بصدقية المؤسسة وصدقية مواقف القيادة الرسمية، وصدقية قرارات الإجماع الوطني، وعمق حالة اللايقين في صفوف الرأي العام الفلسطيني. واتسعت مساحة الاختلاف داخل م.ت.ف. وبات الوضع فيها قلقاً، في ظل تعطل مؤسساتها وتهميشها لصالح «المطبخ السياسي» وسياسة الاستفراد والتفرد.

(4)

بعدها، في سياق تعطيل قرارات المجلس الوطني، أعلى سلطة تشريعية في م.ت.ف، لجأ «المطبخ السياسي» إلى لعبة إحالة القرارات إلى لجان الدراسة، كل لجنة تدرس ما درسته من سبقتها، ولعبة دعوة المجلس المركزي إلى دورات لم تقدم جديداً، بقدر ما أسهمت في توسيع حدة الخلافات السياسية في م.ت.ف، وأضعفت تماسك المنظمة وتماسك هيئاتها، وجعلت من بعضها مشهداً هزلياً، على غرار أوضاع  اللجنة التنفيذية، التي لم تعقد، خلال أكثر من سنة، سوى جلسة واحدة برئاسة رئيسها، أما باقي الجلسات فكانت «تشاورية». وحتى تلك الجلسة «المميزة» برئيسها، لم تخرج عنها أية قرارات  أو أية مواقف، بل كانت حقاً مجرد جلسة تشاورية هي الأخرى.

ومع صدور قرار مقاطعة دولة الاحتلال والاتفاقيات الموقعة معها، بدأت آلة التسريب تروج لمقدمات، باتت نتائجها مكشوفة. من هذه الترويجات أن هناك قرارات من الصعوبة تنفيذها خلال فترة قصيرة وهي تحتاج لفترة طويلة، عبر خطوات متتالية تراكمية، من أجل الوصول إلى ما نريد. في مقدمة هذه القرارات مسألة التحرر من بروتوكول باريس.

هنا من الضروري أن نساهم بالتنبيه، إلى أن بالإمكان المباشرة فوراً بتنفيذ القرارات التي لا تحتاج إلى لجان دراسة وإلى آليات تطبيقية.

• منها مثلاً تعليق الاعتراف بدولة الاحتلال إلى أن تعترف بدولة فلسطين على حدود 4 حزيران وعاصمتها القدس. وهو القرار الذي اتخذته الأمم المتحدة في قرارها رقم 19/67 عام 2012. هذا القرار لا يحتاج لدراسة. وكما تم الاعتراف بإسرائيل بتوقيع خطه الرئيس الراحل ياسر عرفات، يمكن لرئيس السلطة الحالي، باعتباره رئيساً للجنة التنفيذية في م.ت.ف، تعليق الاعتراف بقرار موقع منه.

• منها أيضاً وقف التنسيق الأمني وليس خفضه أو تقليصه، أو أية توصيفات أخرى بدأت تطل برأسها. إبان هبة القدس وبوابات والأقصى، اتخذت اللجنة التنفيذية قراراً فورياً بوقف التنسيق الأمني مع سلطات الاحتلال، دون اللجوء إلى دراسات أو لجان أو آليات مسبقة. في الأساس القرار السياسي، تعمل الأجهزة الأمنية كل في اختصاصه على تطبيقه، تحت إشراف مباشر من حكومة السلطة، باعتباره قراراً ملزماً لها.

• ومنها أيضاً مقاطعة البضائع الإسرائيلية ومنعها من الدخول إلى الأسواق الفلسطينية. من شأن هذا القرار أن يعزز من دور المنتج المحلي الصناعي والزراعي، وأن يعزز العلاقة مع الدول العربية، عبر استيراد البدائل منها. وأن يعزز العلاقة مع الدول الصديقة، عبر تعزيز العلاقات الاقتصادية منها. وأن يلحق الخسائر بالاقتصاد الإسرائيلي الذي حول المناطق المحتلة إلى مستعمرات، توفر له اليد العاملة الرخيصة، وسوقاً استهلاكية من الدرجة الأولى. هذا القرار لا يحتاج إلى مفاوضات. بل يحتاج إلى قرار من الحكومة يلزم التجار بعدم استيراد البضائع الإسرائيلية ويلزم الأجهزة الأمنية بتحمل مسؤولياتها في قمع المخالفات، ويشجع لجان مقاطعة البضائع الإسرائيلية، والتي سبقت السلطة الفلسطينية بأشواط، على تطوير نشاطها، وتوسيعه، وتشكيل المزيد من اللجان الأهلية، لمتابعة ومتابعة تنفيذ قرار المقاطعة.

هنا تكون قد دخلنا مرحلة التنفيذ الفعلي، نحينا جانباً لعبة حسن النوايا، وغيرها، واكسبنا القرار مصداقية ومضمونه العملي.

مع ضرورة التنبه إلى أن لا يتحول عمل لجنة دراسة قرار المقاطعة إلى «مسلسل تركي»، يمتد  إلى ما لا نهاية، كشكل من أشكال المماطلة والتسويف والتعطيل، بذريعة الدراسة وتعميق الدراسة، وغيرها من الأعذار. وألا نكون قد عدنا إلى لعبة الإحالات، ولعبة التهرب والمماطلة، ومازلنا نراوح في المكان، وتبقى «رؤية الرئيس»، حتى إشعار آخر، هي الاستراتيجية الحقيقية والمعتمدة عملياً.

بقلم/ معتصم حمادة