منذ اللحظات الأولى التي بدأ فيها الحديث عن محاولة أمريكية إسرائيلية جديدة لشطب النضال الوطني الفلسطيني وإغلاق ملف القضية الفلسطينية على حساب الشعب الفلسطيني وحقوقه الوطنية، فيما بات يعرف بصفقة القرن، التي ظهرت ملامحها، وأخذت منحى تطبيقي عملي وفعلي، في أعقاب فوز الرئيس دونالد ترامب في رئاسة الولايات المتحدة الامريكية، خاصة وان ترامب تاجر العقارات، ورجل الاعمال الأمريكي اللامع، ونجم العروضات الفاشلة والهزيلة الامريكية، كان قد بنى حملته الانتخابية ودعمها، بمساندة صهيونية لافتة، من خلال الوعود الاجرامية، التي وعد بها قيادة اليمين واليمين المتطرف في إسرائيل، والتي تحدثت بشكل واضح عن تحويل الإدارة الامريكية الجديدة، الى أداة تنفيذية لنتنياهو وعصابته، بل الى الفانوس السحري الذي سيحقق اماني هذه العصابة، في ضرب غير مسبوق بعرض الحائط، لجميع الاتفاقيات والإلتزامات الامريكية، إتجاه حل الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وفقا لقرارات الشرعية الدولية، وإنطلاقا من المبادرة التي قدمها العرب، في مؤتمر القمة العربي، الذي انعقد في القاهرة في حزيران عام 1996 والتي عرفت بإسم مبادرة السلام العربية، التي تنسجم مع المزاج العالمي العام، المبني على قرارات الشرعية الدولية في حل الصراع الدائر.
وبالتزامن مع القرارات والإجراءات الامريكية، بدأت المخاوف الفلسطينية تتصاعد، خاصة وان الشعب الفلسطيني تلمس إنعكاسات ميدانية، كانت مؤشرات واضحة وصريحة، على جدية المشروع الأمريكي الصهيوني الآخذ بالتصاعد ليثقل كاهل الشعب الفلسطيني أينما كانوا، والتي كان أولها نقل السفارة الامريكية الى القدس المحتلة، واعلانها عاصمة موحدة للكيان الصهيوني، وإقفال مكتب منظمة التحرير الفلسطينية في واشنطن، وقطع المساعدات عن وكالة غوث وتشغيل اللاجئين الفلسطينيين الاونروا، وإعادة تعريف اللاجئ الفلسطيني بما يقود الى شطب ملائئين اللاجئين وحصر عددهم فقط بـ (40) الفا، وتشريع النشاط الاستيطاني في الضفة الغربية، لا بل دعم هذا العدوان السافر على الأرض والمقدسات الفلسطينية، من خلال مواقف السفير الصهيوني الأمريكي ديفيد فريدمان، ومشاركته في العديد من النشاطات الاستيطانية والتهويدية، والتي كان آخرها المشاركة في افتتاح نفق في القدس المحتلة الذي يقع تحت المسجد الأقصى، بحيث ظهر سفير المستوطنين الأمريكي، وهو يحمل مطرقة مفاخرا في صناعة لحظات تاريخية في عهد السقوط الأخلاقي العالمي، ونسف جميع منظومات الادب والأخلاق والبروتوكولات السياسية.
لم تأت هذه الخطوات المتسارعة والقرارات العدائية، الا لتؤكد على "الطبخة" القذرة، التي يضعها طاقم المطبخ الأمريكي في البيت الأبيض، على نار هادئة والتي يشرف على مكوناتها طاقم الاجرام العالمي، على رأسه جاريد كوشنير وعلى يمينه ديفيد فريدمان ويساره جرينبلات، والتي يوقد نارها بأموال عربية رخيصة، والتي لم يكن حضورها في قمة المنامة، الا مرآة للدور المطلوب لعبه من بعض مساعدي "الطباخ" الأمريكي في المنطقة العربية!!
فإذا كانت الإجراءات الامريكية، التي رميت في وعاء الطبخ الموضوع على نار عربية هادئة، هي المكونات لوجبة العشاء الأخير، الذي يراد تقديمه على مائدة المارد الفلسطيني الصامد واالمقاوم، فهل تكون الإجراءات الأخيرة المتخذة من قبل وزارة العمل اللبنانية هي التوابل لإتمام المذاق المغشوش لطبخة القرن؟!!
لم تكد اعين اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، تغمض لتسرق قسطا ولو بسيطا من الراحة والسكينة، بعد مجمل القرارات التي استهدفت القضية الوطنية الفلسطينية ككل وحقوق الشعب الفلسطيني الوطنية خاصة اللاجئين بعد التقليصات الكبيرة التي اتخذتها وكالة الاونروا، في خدماتها وعلى وظائفها، خاصة في مجالي الصحة والتعليم، بفعل الضائقة المالية التي فرضت على الوكالة من قبل الإدارة الامريكية، في سعي واضح وصريح ومعبر عنه، لشطب حق العودة للاجئين الفلسطينيين، الذين كما يعتبر الكثيرون، بأنهم العقبة الأكبر امام استمرار عملية الطهي للوجبة المسمومة، حتى خرج وزير العمل اللبناني كميل أبو سليمان، ليقرع ناقوس الخطر، وليثير الرعب في قلوب وعقول الآلاف من اللاجئين الفلسطينيين في لبنان، بعد عملية التفتيش والانذارات والطرد التي لاحقت العمال، وارباب العمل الفلسطينيين في لبنان، تحت ذريعة تطبيق القانون وتنظيم العمالة الأجنبية في لبنان، دون الاخذ بعين الاعتبار أية خصوصية تميز الشعب الفلسطيني اللاجئ في لبنان عن أي جنسية أخرى تقيم على الأراضي اللبنانية، والتي ترافقت بإنتفاضة شعبية فلسطينية عارمة، عمت المخيمات الفلسطينية، من شمال لبنان الى جنوبه، والتي خرجت بشكل عفوي وسلمي، لتعبر عن احتجاجها ورفضها، لهذه الإجراءات التي تمس بلقمة عيش الفلسطيني، وتشكل مشنقة لآلاف العائلات، التي تعمل ليل نهار بهدف إيجاد قوت اليوم الواحد، وتجنبا للموت البطيْ في أزقة المخيمات المحرومة.
ولم يكتف وزير العمل بإجراءاته، ورفضه النظر لخصوصية يتمتع بها اللاجئ الفلسطيني منذ جاء الى لبنان منذ اكثر من 70 عاما، مهجرا ومطرودا محملا بآلامه وهمومه ومستقبل مجهول، بفعل الاجرام الصهيوني الذي إرتكبته العصابات الصهيونية، بحق الفلسطينيين في اعقاب النكبة الفلسطينية الكبرى عام 1948، بل أعرب عن صدمته لما أبداه اللاجئون الفلسطينيون في لبنان من ردة فعل مستغربة ومستهجنة بحسب تعبيره، وهي ردود لم يتمكن من فهمها كما أشار مرارا، مؤكدا في جميع تصريحاته ومقابلاته الصحفية، ولقاءاته مع القيادات الفلسطينية، أنه يتعامل مع الموضوع الفلسطيني، وفقا للقانون بإعتبار الفلسطيني لا يحمل الجنسية اللبنانية، وبالتالي فعليه إصدار إجازة عمل مسهلة وميسرة، كمنة للشعب الفلسطيني اللاجئ ومكرمة يراد منها التخفيف من الاحتقان والغليان التي تعيشه المخيمات الفلسطينية منذ تاريخ 13/7.
ربما فات الوزير أبو سليمان، وهو رجل القانون المعروف، أن يفرق بين التسهيلات والحقوق للشعب الفلسطيني أولا، وثانيا ربما سهو او إختلطت على الوزير، معنى الخصوصية الفلسطينية وترجمتها السياسية، وما يترتب عليها من أضرار قاتلة، إذا ما بقي التعاطي معها بهذه السهولة والبساطة. فالشعب الفلسطيني اللاجئ في لبنان، هو جزء لا يتجزء من حركة تحرر وطني، تناضل من أجل انتزاع الحقوق الوطنية المشروعة للشعب الفلسطيني، والتي تتمثل بإقامة دولته الفلسطينية المستقلة، على حدود الرابع من حزيران من العام 1967 وعاصمتها القدس وتحقيق العودة للاجئين الفلسطينيين، وفقا للقرار الاممي 194، وبالتالي إن الوجود الفلسطيني في لبنان، هو وجود سياسي يرتبط بشكل مباشر، بحل سياسي يأخذ بعين الاعتبار ما يطمح إليه الشعب الفلسطيني، وفقا لمشروعه الوطني، وإن أي تلاعب في مكانة اللاجئين الفلسطينيين والتعاطي معهم كأجانب، ومساواتهم بالجنسيات التي أتت الى لبنان بغرض العمل تحسين الظروف الاقتصادية، على ان يعودوا الى بلدانهم بعد سنين من الاغتراب بمحصلة مالية جيدة، ليس الا مساسا بمكانة اللاجئ الفلسطيني السياسية، فالفلسطيني ليس اجنبيا ولا يتساوى مع أي جنسية اجنبية أخرى، وإنطلاقا من هذا المفهوم، فإن الإصرار على معاملة الفلسطيني كأجنبي، وفرض حصول الفلسطيني على إجازة عمل، أصبح غير مفهوم أيضا للجانب الفلسطيني، خاصة وأن القيادة الفلسطينية وفي جميع لقاءاتها أكدت على رفضها لمسألة إجازة العمل، لما يترتب عليها من تداعيات سياسية وأجتماعية واقتصادية وامنية، في ظل الأوضاع الصعبة التي يعيشها الشعب الفلسطيني اللاجئ في لبنان، بفعل حرمانه من ابسط حقوقه المدنية والإنسانية، خاصة حق العمل وحق التملك، مما يفرض شروطا معيشية صعبة على القاطنين بين أزقة تلك المخيمات البائسة.
لم تكن المخيمات الفلسطينية في لبنان، تنتظر من الدولة اللبنانية التي إتخذت مواقف مشرفة برفضها لصفقة القرن ورفضها المشاركة في ورشة البحرين، وفي هذه اللحظات الحرجة بالذات من عمر القضية الوطنية الفلسطينية، أن تكون خطوة وزارة العمل اليوم، التوابل التي تضاف الى طبخة السم المدسوس في وعاء التصفية الامريكية للقضية الفلسطينية. فالتضييق على الشعب الفلسطيني اللاجئ وإستمرار حرمانه من ابسط حقوقه المدنية والإنسانية، واحكام الخناق على المخيمات الفلسطينية بجميع الاشكال الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، لن يؤدي الا الى التهجير او الانفجار الاجتماعي، والذي لن يصب بطبيعة الحال الا في مصلحة المشروع الأمريكي الصهيوني، الذي يسعى بجميع الوسائل، لرفض الاستسلام على الشعب الفلسطيني، ودفعه نحو تناول العشاء الأخير، الذي سيقضي اذا ما هضم في المعدة الفلسطينية، على نضال اكثر من 100 عام مرت على عمر القضية الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
إن الشعب الفلسطيني اليوم، المكبل على تلك المائدة المشؤومة، ينتظر من الأشقاء اللبنانيين، الذين تشاركوا العداء والمقاومة لعدو واحد، وجمعت بينهم وبين الشعب الفلسطيني، وحدة الحال ووحدة المصير ووحدة الدماء، والنسب الاجتماعي والعلاقات الاقتصادية وغيرها، أن يقلبوا الطاولة على رأس طباخي السم، وأن يستبدلوا تلك الطبخة القذرة، بحساء لبناني دافئ يأخذ بعين الاعتبار، برودة المرحلة التي تعصف بالشعب الفلسطيني وقضيته، ليكون مصدر الدفأ لمعدة اللاجئين الخاوية، الذين لايطلبون اكثر من طعام يدفع ثمنه بعرق الجبين، يقيتهم ويعزز صمودهم، الى حين العودة الى أراضيهم ودولتهم، على أمل أن لا يسجل التاريخ في فصوله القادمة، أن للتوابل اللبنانية مذاق سحري أضاع تلك السموم التي دست في وعاء الطبخ الأمريكي..
بقلم/ جهاد سليمان