لم يَفّقدْ التونسيون رئيسا منتخبا أو منقضا سياسيا عاد في أحلك الظروف لإعادة التوازن في البلاد، أو رجل دولة -له تاريخ طويل في تسيير دواليب الإدارة منذ سنوات الأولى للاستقلال- أو حكيما سياسيا في صوغ التحالفات السياسية للحفاظ على الدولة كحاضنة للشعب ورافعة بمضمونها الحداثي فقط. بل أيضا فَقَدَوا ومعهم الأمة العربية محدَثا اجتماعيا مُعليا شأن أحكام الدستور، الصادر بإرادة الشعب، على الموروث الثقافي. فهو لم يكتفي بأن يكون من الثلة الاولين في عهد الاستقلال عند اعتماد مجلة الأحوال الشخصية بل اجتهد لاستكمال منهج الدولة الراعية للمساواة ليس فقط في الحقوق السياسية أو الاجتماعية بل أيضا الاقتصادية.
ان نقاش مسألة المساواة في الميراث والدفع بمشروع قانون يعتمد هذه المساواة في تطبيق صارم مع احكام الدستور القاضية بالمساواة بين الرجل والدولة، وإعادة تنظيم الشأن الاجتماعي الاقتصادي الخاص من قبل الدولة في احترام لمبدأ التدريج في تشريع الطوق، كما ذهب اليه المفكر الطاهر الحداد، أي الانطلاق من مبدأ المساواة الاجتماعية بين الرجل والمرأة عند توفر أسبابها بتطور الزمن ما دامت الشرائع الدينية ترمي في جوهرها الى العدالة التامة. فهي لا أتي من سياسي عاشق للسلطة والنفوذ بقدر ما تأتي من رجل دولة يحافظ على القيم الباعثة للسلطة السياسية والحافظة للدولة كقيمة مركزية في فكر الرجل.
فقد ذهب الرئيس التونسي الراحل الباجي قايد السبسي أبعد مما حملته مجلة الأحوال الشخصية الصادرة عام 1956 لينظر في المساواة في الميراث ايمانا بأن الزمن قد حان وآن الأوان لاستكمالا المكاسب التي حققتها ثورة 14 جانفي 2011 من؛ إقرار التناصف في القوائم الانتخابية عموديا وأفقيا، ورفع التحفظات على اتفاقية القضاء على جميع أشكال التمييز ضد المرأة "قانون أساسي عدد 58 لسنة 2017"، والحقوق والحريات التي رسمها دستور 2014، وإصدار قانون مكافحة الاتجار بالبشر، وسحب المنشور الذي يمنع الزواج المختلط. ولتتويج الحركة الإصلاحية التونسية بتحقيق العدالة.
إن إحداث تغيير اجتماعي من هذا القبيل، وفي قضايا تتعلق بالظلم القائم على المرأة تشكل محور اسهامات هامة لرئيس شجاع في ظل تراجعات اجتماعية تحجر الفكر الاجتماعي في العالم العربي لدى المؤسسة الرسمية، وانغلاق الاجتهاد الا فيما لا ينفع الناس في دنياهم ولا يرفع من مكانة العقل لديهم.
مثل خروج جموع كبيرة من التونسيات والتونسيين في وداع الرئيس الراحل الباجي قايد السبسي نهاية الأسبوع الفارط دليلا على مكانة هذا الرجل في قلوبهم وعقولهم. وفي تأثيره وقَدرهِ لديهم. ان مشهد الاحترام لمرور جثمانه المسجى في شوارع العاصمة والمزج بين الجنازة الرسمية والشعبية في احترام لطبيعة كليهما درس آخر في وفاء الشعب التونسي واحترامه بصرامة لقواعد المبتدأ والخبر في كتابةِ العبر في الثورة والوفاء.
جهاد حرب