«مسيرات حق العودة، وكسر الحصار»، إنجاز وطني كبير لشعب فلسطين، سوف يذكره التاريخ باعتباره واحداً من المحطات النضالية الكبرى، التي أبدع فيها الفلسطينيون، في صناعة انتفاضة ثالثة، بعد الأولى والثانية، ولكل منها سماتها وآلياتها وأدواتها، وإبداعاتها، وسياقها التاريخي.
من أهم ما حققته «المسيرات»، أنها تبعث إلى الرأي العام، أسبوعياً، رسالة تذكره فيها أن قطاع غزة تحت حصار إسرائيلي ظالم، وأن هذا الحصار هو شكل من أشكال الاحتلال، لكن بصيغة أخرى.
وأنها تبعث إلى الرأي العام، أن المقاومة الفلسطينية باقية ومستمرة، وتطور إمكانياتها وأدواتها وأساليبها وتكتيكاتها القتالية، في إطار معركة تحرير الأرض الفلسطينية، من الاحتلال الفاشي والاستعمار الاستيطاني الإسرائيلي.
وبات يوم الجمعة من كل أسبوع، محط أنظار الرأي العام العالمي، خاصة في الأيام الساخنة، يتطلع نحو القطاع ويترقب ما سوف تسفر عنه صدامات مسيرة العودة وكسر الحصار من نتائج.
وبات يوم الجمعة من كل أسبوع لوحة نضالية، يرسمها شعب فلسطين بدمائه، كلفته حتى الآن أكثر من 350 شهيداً، و30 ألف جريح، حوالي 5 آلاف منهم مهددون بالإعاقة الدائمة إذا لم تتوفر لهم العلاجات المطلوبة.
* * * *
ندرك تماماً، أن هذه المسيرات، ليست كافية لفتح طريق العودة أمام اللاجئين الفلسطينيين. لكن هذا الإدراك لا يعني أنها لا تحقق أهدافاً مرحلية في إطار حق العودة. شكلت المسيرات رداً صاخباً وصارخاً على كل محاولات شطب هذا الحق، ومحاولات إعادة تعريف اللاجئ، لنزع الصفة القانونية عن ملايين اللاجئين، ومحاولات فرض الحصار على وكالة الغوث، لشلها، وإحالتها إلى التقاعد، ونقل خدماتها إلى الدول المضيفة. كان صوت اللاجئ الفلسطيني في مسيرة العودة، في قطاع غزة، من أكثر الأصوات فعالية، وكانت مسيرات العودة، من أهم التحركات الشعبية في النضال من أجل العودة. وبالتالي يتوجب مواصلة هذه المسيرة، مادام حق العودة موضع صراع، إلى أن يتحقق لشعب فلسطين أهدافه المنشودة، في سياق حركة اللاجئين في عموم مناطق تواجدهم.
ويدرك أبناء القطاع كذلك أن دولة الاحتلال لن ترفع عن كاهلهم الحصار الظالم المفروض عليهم فوراً، خاصة لتمسكهم بالمقاومة، وهو ما تراه إسرائيل خطراً وجودياً ومادياً ومعنوياً وفكرياً عليها. من هنا رفعت قياداتها العسكرية شعار «كيّ الوعي»، لكنه فشل في «ردع» الوعي الفلسطيني وإدراكه لدور المقاومة، (كل أشكال المقاومة)، وموقعها في العملية الكفاحية. كما يدرك أبناء القطاع أنه تحت شعار «فك الحصار» قد تنزلق بعض السياسات عن السياق العام، نحو أهداف فئوية مكشوفة، ويتلمسها المواطنون في حياتهم اليومية. لكن هذا لا يشكل سبباً كافياً للتراجع عن «المسيرات»، وعن شعار كسر الحصار، فالقضية من حيث المبدأ، عدوان ظالم من سلطات الاحتلال على القطاع، تحت شعارات أمنية ملفقة، وكأن القطاع هو الخطر على الجوار، وليست آلة الحروب التدميرية المنتشرة في شمال القطاع وشرقه، وتغلق بحره على صياديه، وتدمي أرض القطاع، في أيام الجمعة من كل أسبوع، في رسالة تريد أن تؤكد الحقيقة الدموية والفاشية للاحتلال الإسرائيلي.
* * * *
إلى جانب هذا كله، فإن مسيرات العودة وكسر الحصار تكتسب أهمية فائقة. لكونها تشكل العمل الجماهيري، الذي يوحد الحركة النضالية الفلسطينية، في المناطق المحتلة، وفي الشتات، رغم حالة الانقسام، التي أنشأت لكل من الضفة الفلسطينية، قطاع غزة، سلطته الخاصة به، وقدمت الحالة الفلسطينية منشقة على نفسها، إدارياً، وسياسياً، تدور في أرجائها حروب إعلامية مقيتة، تلحق الضرر الكثيف بالحركة الوطنية الفلسطينية، وتشوه مشهدها أمام الرأي العام، وتأكل من رصيدها النضالي، وتهدر قدراً مهماً من تضحياتها.
«مسيرات العودة وكسر الحصار» هي الجسر المتين، الذي تخطى حالة الانقسام، وحدّ من نتائجها، ووضعها في إطارها الحقيقي، باعتبارها انقساما بين طرفين، في صراعات سلطوية، بينما الحركة الشعبية في جوهرها، وواقعها، موحدة وأقوى وأكثر متانة من كل محاولات تجييشها في خدمة هذا الطرف أو ذاك، في معاركه الانقسامية.
وهذا ما تؤكده شعارات «المسيرات» التي ترفعها أسبوعياً، تؤكد من خلالها ارتباطها الوثيق بباقي الميادين النضالية للحركة الجماهيرية الفلسطينية، في الـ 48، في الضفة الفلسطينية وفي القلب منها القدس، وفي الشتات والمهاجر.
إن مسيرات العودة وكسر الحصار، بما تمثله في هذا السياق، يجب أن تبقى حريصة على هذا الدور، وأن تعمل على تعميقه، أي صون وحدة الحركة الجماهيرية، وعدم جرها نحو الانقسام الفئوي.
في هذا السياق، نعتقد أن «مسيرات العودة وكسر الحصار» مرشحه لأن تلعب دوراً مميزاً في الضغط على طرفي الانقسام، إذا ما جعلت شعار «إنهاء الانقسام» شعاراً ثابتاً في كل أسابيعها وهدفاً دائماً من أهدافها المباشرة
فإنهاء الانقسام، والعودة إلى الوحدة الداخلية هو الذي من شأنه أن يعزز احتمالات فك الحصار، وهو الذي من شأنه، أن يصون التهدئة التي تم التوصل إليها، بدون شروط، مع سلطات الاحتلال، في مفاوضات الوفد الفلسطيني الموحد، في القاهرة، عبر الوساطة المصرية مع الجانب الإسرائيلي. وهو الذي من شأنه أن يفتح الأفق لتخفيف أوجاع القطاع، من النواحي الاقتصادية والاجتماعية والصحية والتربوية وغيرها.
فضلاً عن ذلك كله، فإن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة الداخلية، من شأنه أن يدرج كافة المشاريع المطروحة للقطاع، في إطارها الوطني، ولا تبدو وكأنها محاولات لتكريس الانقسام، من خلال تعزيز سلطة الأمر الواقع، خاصة وأن بعض هذه المشاريع يحمل بصمات مقلقة، كأموال الدعم القطري التي تمر عبر مطار اللد في إسرائيل، وهذا أمر يمكن تجاوزه وتجنب تداعياته في ظل وجود سلطة واحدة في الضفة وفي القطاع.
ولعل الأكثر أهمية في هذا، أن إنهاء الانقسام، واستعادة الوحدة الداخلية، وعودة حكومة السلطة (التي يمكن التوافق عليها) لتحمل مسؤولياتها وواجباتها، نحو سكان القطاع، من شأنه أن يعفي المقاومة من أعباء مسؤولية إدارة الشأن العام، وأن يوفر لها الفرصة والشروط الضرورية للتفرغ لأداء دورها، وتطويره، خاصة وأن المرحلة القادمة، كما تنبئ المؤشرات، هي مرحلة تصعيد، ليس في القطاع وحده، بل في عموم المناطق الفلسطينية المحتلة.■
بقلم/ معتصم حمادة