تعتبر مرحلة ما بعد الثانوية العامة مرحلة انتقالية في حياة الطلبة، فمنها يحدد توجهاته في التعليم الجامعي، وهي مرحلة يشوبها الكثير من الانفعالات والضغوط ارتباطاً بالقلق من المستقبل، وتأتي فكرة المقال وطرحه بعد إعلان التربية والتعليم لنتائج الثانوية العامة، وخاصة عند الحديث عن أعداد الطلبة الذين تقدموا للامتحان في كافة فروعه، والذي بلغ عددهم (75150)، وقد نجح منهم (52108)، ومن الطبيعي وحسب التقليد المتعارف عليه يبدأ تركيز التفكير في هذه المرحلة حول التعليم الجامعي واختيار التخصصات وفق رغبة الطلاب والأهالي، وتلعب في اختيار التخصصات الجامعية للطلاب العديد من العوامل منها: الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والرغبة....، والقليل منهم يكون دافعه وتوجهه الدراسي نابع عن دراسة للمستقبل وتنبؤ لاحتياجات سوق العمل، أو ناتج عن فهم حقيقي لطبيعة المهن ومستقبلها في سوق العمل سواء المحلي أو العربي أو الدولي في ظل المتغيرات والتطور التكنولوجي، وثورة الاتصالات والمعلومات، هنا نرى من المهم والضروري وضع القارئ وابنائنا الطلبة والأهالي في صورة الواقع والمستقبل المهني لأهمية طرح الموضوع في هذه الفترة للتوسع في الاطلاع بجمع البيانات والمعلومات لتطوير التفكير وبهدف التشاور والمشاركة والتعاون للتبصر حول التعليم التقني والتدريب المهني كمدخل لخلق فرصة عمل بالمستقبل في ظل ارتفاع نسب البطالة، وانتشار الفقر وضعف السياسات التنموية وعجزها عن استحداث فرص عمل جديدة تنسجم مع حجم الخريجين، حيث يتدفق سنوياً لسوق العمل عشرات الآلاف من الخريجين، فقد بلغ عدد الخريجين لعام 2018 أكثر من 40 الف خريج في ظل توفر اقل من 10 الاف فرصة عمل سنويا، وتزيد نسب البطالة بين الخرجين عامة عن 65%، وهذه النسب تؤكد على عدم انسجام تخصصاتهم الاكاديمية والسياسات الوطنية للتعليم العالي واحتياجات سوق العمل (العرض والطلب)، وهذا مؤشر خطير لما هو قادم ويجب الوقوف عليه، فمعظم التخصصات الجامعية فيها فائض، وهناك ارتفاع بنسب البطالة بين خرجيها من كلا الجنسين، وبالأكثر بين صفوف الخريجات حيث بلغت النسبة 88%.
معظم الدراسات والمؤشرات الاحصائية تشير لطبيعة المتغيرات التي طرأت على الواقع المهني وفرص العمل على المستوى العالمي وحجم التراجع في مهن على حساب مهن أخرى مرتبطة بالتكنولوجيا وبالسياسات الدولية والتطور التقني والصناعي، وهذا يشير لفقدان ملايين من فرص العمل وتراجع عالميا، وأما بالنسبة لسوق العمل المحلي الفلسطيني، فإن حاله لا يخفى على أحد، وقدرته على استحداث وظائف وفرص عمل جديدة محدودة جداً، وتكاد تكون معدومة في ظلِّ الواقع الذي نعيشه من حصار وانقسام وفقر، بالإضافة للكثير من المشاكل المالية التي تعصف برأس المال والتي أطاحت به، فمئات الآلاف من القضايا بالمحاكم على ذمه مالية، وهذا انعكس على ظروف وشروط العمل والأجور وحد من التوسع في العمل...
لا أريد الإطالة في توصيف الحالة، وإنما أودّ الخوض مباشرة في تساؤلات الاجابة عليها تساعد في وضع تصور يمكن البناء عليه في تحديد التخصص للدراسة وهي: ما الهدف من الالتحاق بالتعليم الجامعي؟ وما هي الأولويات في المستقبل؟ وما المطلوب لتعزيز التوجه لدى الشباب نحو التعليم التقني والمهني؟
اعتقد ان جميع الطلبة والأهالي يجمعون على أهمية الاستثمار برأس المال الاجتماعي كجزء أصيل من الثقافة المجتمعية، فالفقراء والأغنياء متفقون على أن أفضل استثمار بالأبناء يكمن في تعليمهم؛ على أمل بعد التخرج يلتحقوا بعمل مناسب يكفل لهم حياة كريمة ومركز اجتماعي بالمستقبل، وهذا الدافع الأساسي نحو التعليم الجامعي، وهذا لا ينفي أن هناك دوافع أخري منها ما هو مرتبط بالجانب الاجتماعي والاقتصادي والثقافي، لكن!! هذا غير كافي لتحقيق الهدف بالوصول بعد التخرج لعمل مناسب، وهنا يجهض الواقعُ الهدفَ ويقتل الأمل، لذا يجب أن نفكر بطريقة مبدعة وخارج الصندوق ما دام الهدف الوصول لعمل كريم ومقدرة على الإعالة بفتح بيت، فهناك مداخل أخرى للتعليم تنسجم مع الواقع والتوجهات المحلية والدولية كالتعليم التقني والتدريب المهني، فالقارئ للسياسات الوطنية والمتابع للدراسات الاقتصادية والخطط والبرامج لمواجهة البطالة يجد أن معظمها يؤكد أن أحد الوسائل والطرق لاستحداث الوظائف وخلق فرص عمل جديدة في المجتمع الفلسطيني هو المشاريع الصغيرة والمتناهية في الصغر والتعاونيات والمبادرات الشبابية، ....إلخ، وهذه المشاريع أو المبادرات تحتاج مهارات معينة ليستطيع الشاب أو الفتاة سواء بشكل منفرد أو عبر استثمار جماعي أو تعاوني فتح مشروع خاصة، وهنا يكون للتعليم التقني والمهني دور فعال، فامتلاك الخريج مهارات تقنية ومهنية تؤهله للقيام بمشروعه الخاص، وهذا مدخل لخلق فرصة عمل، ما دامت الأولويات لدى الشباب والأهالي الحصول على فرصة عمل مناسبة، ويجب أن نعمل جميعاً لتحقيق هذه الأولوية، وتعزيز ثقافة المجتمع ووعيه نحو التعليم التقني والتدريب المهني كمدخل لتحصين الخريجين وتمليكهم مهارات وقدرات تقنية مميزة تمكنهم في مواجهة المستقبل والظروف الاقتصادية الصعبة، وهنا يأتي دور الحكومة والشركاء الاجتماعيين والجامعات ومراكز التدريب المهني للتعاون بتطوير السياسات الوطنية للتعليم العالي والتقني والمهني بشكل يناسب ويوائم مستقبل المهن واحتياجات سوق العمل وتطوره، فلا يجوز أن يكون هناك تطور في الثقافة المجتمعية نحو التعليم التقني والتدريب المهني على سبيل المثال، ولا يكون هناك سياسات وطنية داعمة وكليات تقنية ومراكز تدريب مهني مؤهلة، تناسب الزيادة في الأعداد للملتحقين والمسجلين للدراسة فيها بحيث يكون توازن بين العرض والطلب.
ولتطوير السياسات والكليات التقنية والاتساع بالعمل يجب الإجابة على تساؤل ما المطلوب لتعزيز التوجه لدي الشباب نحو التعليم التقني والمهني؟
واعتقد أن المطلوب لوضع حجر الأساس في بناء مجتمع منتج وقادر على إحداث تغيير اقتصادي يناسب مع الظروف والمتغيرات في الواقع الفلسطيني ويساهم في تطوير اتجاهات الناس حول التعليم التقني والمهني يمكن من خلال التأكيد على التالي:
- يجب أن يكون هناك كليات عصرية بتخصصات متطورة تقنياً، مقنعة للجميع بأن خريجيها سيكون لديهم مهارات وقدرات عالية بعد التخرج للالتحاق بسوق العمل والاندماج فيه، وهذا يعزز رغبة الشباب والأهالي للتعليم التقني.
- ضرورة أن تعمل الحكومة على تطوير سياساتها نحو التعليم التقني، فلا يكفي أن تكون الخطط والاستراتيجيات على ورق، الأصل هو التطبيق العملي على الأرض لرعاية الشباب والمشاريع الصغيرة والمبادرات المنتجة.
- ضرورة العمل على تطوير وتحديث وتنمية قدرات مراكز التدريب والتعليم المهني وعصرنتها لتكون قادرة على تخريج مؤهلين قارين على البدء بمشروعهم الخاص.
- يجب ان تتواءم وتتوافق السياسات مع الخطط والبرامج فيما يتعلق بالتعليم التقني والتدريب المهني، وتتعاون المؤسسات والجامعات والكليات التقنية والمراكز المهنية، والشركاء الاجتماعيين والحكومة لتحقيق نتائج عملية بدعم توجهات الشباب ورعايتهم، وهنا بالإمكان تشكيل مجلس من كلِّ الأطراف يعمل على تنسيق البرامج التقنية والمهنية والتشبيك بين كل الفعّالين بالمجال، ويمكن اعتماد مجلس التشغيل والتدريب المهني كنواة للبناء عليها والتنسيق مع الوزارات ذات الاختصاص في الحكومة.
- فتح المجال في الكليات التقنية ضمن برامج لإعادة تأهيل الخريجين العاطلين عن العمل وفق احتياجات سوق العمل وبما يؤهلهم وينمي مهاراتهم لإقامة مشروعهم الخاص.
أخيراً أن التعليم التقني والتدريب المهني يعتبر خطوة مهمة في حالتنا الفلسطينية، وضرورة يجب الانتقال فكرياً وعملياً وثقافياً نحوها والاهتمام بها، والعمل على تعزيز الوعي والثقافة المجتمعية نحوها بما يتناسب والواقع والمستقبل، وبما يساهم في تنمية القدرات والمهارات وتعزيز الطاقات لدى الشباب بشكل عملي ومنتج، فبناء الانسان الصالح والقادر، يعني بناء المجتمع المتماسك والقوى والصحي.
بقلم/ د. سلامه أبو زعيتر