"كأننا بموته نرى ما لم نكن نراه".
أدونيس في رثاء بدوي الجبل
خلافاً لكل مناسبة نلتقي فيها كجالية عربية، لن أتحدث الليلة في السياسة، لأن الحديث عن شخص الراحل هو في الحقيقة درس أبعد من السياسة. أول ما تبادر إلى ذهني حين سمعت عن رحيل هذا الرجل العظيم هو: هل يمكن لأي إنسان أن يعيش أفضل؟ أن نرى كيف عاش بسام الشكعة، هذا أحد الدروس التي سأحاول الحديث عنها قليلاً الليلة. وحين شاهدت جنازة الراحل، تحديداً عندما تقدمها العلم السوري، ليس لأنه بعثي فقط، أو لأنه تاريخياً ارتبط بحزب "البعث العربي"، ولكن بسبب الارتباط الكبير بين قضية فلسطين وسوريا، جاء إلى ذهني أيضاً: هل يمكن لأي انسان أن يموت أفضل؟
في حياة بسام الشكعة وفي رحيله دروس كبيرة. ففي حياته، يعلمنا كيف يجب أن نعيش، لسبب أساسي: لأننا فلسطينيون، ولأننا عرب، ولأننا مسلمون، ولأننا مسيحيون، ولأن لنا قضية كبرى كقضية فلسطين تتآمر عليها أكبر القوى في العالم، وتتآمر عليها حتى الدول العربية، وحتى قسم من الشعب الفلسطيني يرى له مصلحة مع وجود الكيان الصهيوني... نرى أنه ليس لدينا رفاهية المجاملة، لأنه لا مجاملة في الثورة، كما أنه ليس لدينا رفاهية التجربة ــــ لأن فكرة التجربة، بمعنى تجربة الحلول، تتناقض كلياً مع الفكرة الأساسية للثورة، ومع الفكرة الأساسية للثائر، وهو ما نتعلمه من تجربة الراحل بسام الشكعة ــــ، ولهذا قلت بالضبط إنه يعلمنا كيف يجب أن نعيش، ويعلمنا كيف يجب أن نموت.
في حياة بسام الشكعة أنموذج عمّا كان يجب أن يكون عليه الثائر الفلسطيني. ولأن الثورة الفلسطينية، وأغلب قادة الثورة الفلسطينية لم يلتزموا نموذج بسام الشكعة، نحن الآن حيث نحن، في هذه الأزمة التي نعيشها. فكرة الثائر التي مثلها بسام، كما قلت، تتمثل في الإدراك منذ البداية أنه لا يوجد عندنا رفاهية الاختيار مثل الشعوب الأخرى، لأن الصراع مع العدو الصهيوني صراع وجودي: إما نحن وإما هم. لسنا من نقول ذلك؛ هم من يقولون ذلك، وكل ممارساتهم تدل على أن برنامجهم واضح: "إما نحن وإما هم على أرض فلسطين". وعندما أتكلم على أرض فلسطين، لا أقصد الفلسطينيين فقط، لأن استعمار فلسطين يستهدف كل الأمة وليس الفلسطينيين فقط. لا يستطيع اللبنانيون الحفاظ على مياههم، وكلنا يعرف أن هناك خلافاً حتى على الحدود المائية بين فلسطين المحتلة، الكيان الصهيوني، ولبنان، لا يستطيع الأردنيون أن يحصلوا على حقوقهم في المياه. وهذا أيضاً أنموذج. أما في سوريا، فدخول الكيان الصهيوني على الأزمة التي حدثت في سوريا خلال الأعوام الثمانية الماضية، يؤكد أن هذا الكيان يستهدف الأمة بأكملها ولا يستهدف وجود الفلسطينيين فقط. مكانة وجغرافية فلسطين، من يتحكم بها، يتحكم بكل الأمة.
لهذا المطلوب عربيٌّ من نوع خاص لمواجهة هذا الكيان، المطلوب مقاومٌ من نوع خاص لمواجهة هذا الكيان، المطلوب ثائر من نوع خاص لمواجهة هذا الكيان. هذا الثائر عليه أن يدرك أنه لا يوجد لدينا رفاهية للتجربة، لسبب أساسي، أن بسام الشكعة أدرك قضية بسيطة: الثائر عندما يفكر في التنازل أو المساومة، ربما عليه أن يبقى في بيته. لماذا؟ أي ثائر فلسطيني لا يؤمن حتى النخاع بحتمية زوال الكيان الصهيوني ربما عليه أن يبقى في بيته، لأنه هُزم قبل أن يخرج وقبل أن يبدأ المقاومة. هذه كانت معضلة الثورة الفلسطينية الأساسية، أن قسماً كبيراً من الناس الذين كانت لبعضهم نية حسنة، ربما، لم يكونوا على اقتناع بحتمية زوال الكيان الصهيوني، وربما كان عليهم بالتالي أن يجلسوا في بيوتهم، وألا يقودوا النضال أو ألا يشاركوا في المقاومة. هذا أيضاً أحد أسباب فشل الثورة الفلسطينية الراهنة، حين قمنا بالتجربة: دولتان، دولة ديموقراطية واحدة لنا وللمستوطنين القادمين من أوروبا وأميركا وكل أصقاع الأرض ليستعمروا بلادنا. هذه المساومات وهذه التجربة تؤشر، رغم حسن النية مرة أخرى، على معضلة وفشل بنيوي كبير في الثورة وفكرة الثورة وفكرة الثائر الذي نحتاج إليه.
بسام الشكعة مثَّل الأنموذج الآخر: المقاوم الصلب الذي لا يساوم. ولهذا، حتى اللحظة الأخيرة من حياته، قارن فلسطين بالجنة، وقال: "لو أخذوني إلى الجنة سأظل أفكر في نابلس وسأظل أفكر في فلسطين". هذا الأنموذج الذي نحتاج إليه، وهذا بالضبط ما قصدته حين قلت: كيف يمكن لأي إنسان أن يعيش أفضل؟ لا يمكن لأي إنسان أن يعيش أفضل من الطريقة التي عاشها بسام، وعاشها الكثير من الأبطال الفلسطينيين والعرب في منطقتنا في مواجهة العدو الصهيوني. القضية هنا أنه منذ البداية يجب أن تكون الفكرة واضحة: لا مجال للمساومة ولا مجال للتفاوض مع عدو من هذا النوع شعاره الأساسي: "إما نحن وإما هم"، وبالتالي يجب أن يكون شعارنا الأساسي أيضاً: "إما نحن وإما هم". إن لم يكن هذا شعارنا، فهذا سيكون خيانة لبسام الشكعة ولأمثال بسام، وأيضاً سيكون مؤشر فشل. مَن يستغرب لماذا فشلنا ولماذا وصلنا إلى ما وصلنا إليه الآن لم يستوعب أنه كان هناك خلل بنيوي كان في الثورة الفلسطينية منذ البداية.
الجانب الآخر: كيف يجب أن نموت؟ تخيّلوا فقط أن هناك عشرات وربما مئات وربما آلاف العرب والمسلمين الذين يموتون كل يوم، ولا نجتمع هنا لتأبين أيّ منهم، ولم يطلب منا أحد أن نكون هنا لتأبين بسام الشكعة. كانت هذه مبادرة تعبير عن قيمة بسام ومكانته. كم من العرب والمسلمين والمسيحيين الذين يموتون كل يوم يجري لهم تأبين بمبادرة ذاتية من الناس، ومبادرة شعبية؟ هذا دليل على كيف أراد بسام الشكعة أن يموت. أراد أن يموت بهذه الطريقة، ليس أن يتقدم العلم السوري جنازته فقط، وبالتالي يؤشر مرة أخرى على عروبة المعركة، وعلى أهمية سوريا في هذه المعركة، وعلى أهمية كل العرب في هذه المعركة، وليس سوريا فقط، رغم مركزية سوريا، بل أراد أن يموت بهذه الطريقة.
كان يمكن لبسام الشكعة أن يساوم، لو قليلاً، كما ساوم البعض، ويصبح وزيراً أو ربما رئيس وزراء. ولكن، ربما لو كان الشكعة رئيس وزراء ورحل عنا، لم نكن لنجتمع الليلة هنا. كلنا هنا بدافع ذاتي، لأننا منذ كنا صغاراً ونحن نسمع عن المقاوم والبطل بسام الشكعة: من انتخابات البلديات، التي ذكرها الإخوة قبلي، وكانت إحدى المعارك التي خاضها أو قادها من أجل إفشال مشروع تصفوي كبير هو مشروع "روابط القرى" العميلة، وإعلان انتصار الثورة الفلسطينية، أو عنوان الثورة الفلسطينية "منظمة التحرير"، الممثل الشرعي والوحيد لشعبنا حينها. ورغم الخوف، ورغم سيطرة الكيان الصهيوني، استطاع أن ينجح في ذلك. ولهذا كان استهدافه. كان استهدافه بسبب تمثيله هذا الأنموذج الفريد.
لاحقاً، بعد الانتخابات بسنتين تقريباً، أسّس بسام الشكعة وكريم خلف والمحامي جريس الخوري في فلسطين "لجنة التوجيه الوطني" التي قادت النضال والمقاومة داخل فلسطين. وليست مصادفة أن كل أعضاء "لجنة التوجيه الوطني" تم استهدافهم من الكيان الصهيوني باعتقالهم أو محاولة اغتيالهم. سأذكر مثلاً واحداً عن أحد أعضاء "لجنة التوجيه" قرأت له اليوم نعياً للراحل في صحيفة "القدس" يتحدث عنه كرفيق نضال، ويؤكد ما لا يعرفه الناس ربما، أنه كان لدينا فعلاً جيل في فلسطين فهم معنى الثورة الحقيقي ومعنى أن تكون ثائراً حقيقياً. المحامي جريس الخوري، الأمين العام لـ"لجنة التوجيه" آنذاك، تحدث في نعيه بألم متميز ومختلف، لأنه عرف المعنى الحقيقي لخسارتنا لبسام الشكعة. فلقد خسرنا شيئاً كبيراً في فلسطين. لم نخسر رجلاً عادياً في فلسطين. خسرنا رجلاً كبيراً بسبب الأنموذج الذي مثله هذا القائد. هذا ما قاله المحامي الخوري، أحد رفاقه والأمين العام لـ"لجنة التوجيه"، ولهذا هو يعيد التذكير مرة أخرى بفكرة أنه لا يوجد عندنا رفاهية. ليس لنا رفاهية كما كل شعوب الأرض. نحن الشعب الوحيد في الحقيقة المستهدف بتصفية وجوده. لا يوجد شعب آخر على هذه الأرض يُستهدف في وجوده مثل شعبنا.
لكن بالنسبة إلى بسام الشكعة هو درس حقيقي: كيف يجب أن نعيش كفلسطينيين، ليس فقط كقادة، بل كفلسطينيين. إذا كنت مهتماً بمصير أبنائك، إذا كنت مهتماً بمصير أحفادك، إذا كنت مهتماً بأن نكون موجودين في المستقبل كشعب وكأمة، يجب أن نعيش بطريقة مختلفة عن كل شعوب الأرض، لأن التحدي الذي يواجهنا يختلف عن أي تحدٍّ يواجه كل شعوب الأرض.
سأختم بمقولة للراحل جورج حبش في رثاء أحد الشهداء: "في يوم من الأيام، نأمل أن يكون قريباً، سيقام في القدس نصب كبير للشهداء من شهداء الثورة الفلسطينية، نصب كبير لكل شهيد. وفي يوم تاريخي مجيد هو يوم التحرير، ستطوف زهراتنا وأشبالنا حاملين الورود حول هذا النصب".
وفي نابلس، وأعدكم أيضاً في الخليل، سيقام نصب كبير للراحل الكبير بسام الشكعة، وإذا كان لي أن أكتب شيئاً على هذا النصب، فسأكتب ما قاله الإمام علي بن أبي طالب في رثاء مالك الأشتر: "لَوْ كَانَ جَبَلاً لَكَانَ فِنْداً وَ لَوْ كَانَ حَجَراً لَكَانَ صَلْداً".
الرحمة للراحل الكبير. عسى أن يكون وجودنا هنا، ورحيل هذا المناضل الكبير، مناسبة لأن نتعلم مرة أخرى: كيف يجب أن نعيش، وكيف يجب أن نموت.
سيف دعنا
* كاتب عربي، كلمة في حفل تأبين الراحل بسام الشكعة