نبش المحققون الأميركيون و«مساعدوهم» في تفاصيل كثيرة مما يحصل في «الأونروا»، ورصدوا عن كثب سلوكيات الصف الأول في إدارتها ليخرجوا في النهاية بتقرير يزخر بشبهات فساد لم توفر المفوض العام للوكالة، الذي أزعج إدارة ترامب في نشاطه لتأمين مساهمات مالية إضافية من المانحين، تعوض النقص الذي أحدثه قرار هذه الإدارة وقف الالتزام بمستحقاتها المالية الواجبة تجاه «الأونروا».
الهدف الأساسي من وراء ذلك لايمت بصلة لـ«محاربة» الفساد، لأن الإدارات الأميركية المتعاقبة محترفة في زراعته ورعايته حيثما استطاعت في بنية أنظمة حكم ومؤسسات، لتقطف ثماره لاحقا في نهب بلدان بحالها تحت يافطة محاربة الفساد.
بالنسبة لـ«الأونروا»، تسعى إدارة ترامب من وراء التقرير المذكور لأن «تقنع» المجتمع الدولي ،على أبواب الجمعية العامة للأمم المتحدة، بعدم تجديد تفويض الوكالة، كما يحصل كل ثلاث سنوات.
كان ما سبق واضحا من تأخير الكشف عن التقرير، الذي تقول مصادر متقاطعة إنه وصل مكتب الأمين العام للأمم المتحدة في نهاية العام الماضي. ومن الواضح أن فريق ترامب أراد أن يكون توقيت الإعلان عنه على أبواب اجتماعات دورة الجمعية العامة للأمم المتحدة لوضع الأونروا ومسؤوليها في دائرة الشك، ليحجم المانحون عن المساهمة في موازنة الأونروا، كما فعلت كل من سويسرا وهولندا وبلجيكا لحين انجلاء الأمور، إلى جانب خلق بلبلة عند طرح تجديد تفويض الوكالة لثلاث سنوات قادمة.
ما يجري هو حلقة وسط مسلسل معلن من الإجراءات يفرعها المشروع الأميركي ـ الاسرائيلي في المنطقة. ومنذ أن تحدث ترامب عن صفقته توالت الإجراءات والقرارات باتجاه تجاوز حقوق الشعب الفلسطيني الأساسية في العودة والاستقلال.
وتشتد الحلقة اليوم حول مستقبل الأونروا في رهان من واشنطن على إمكانية النجاح في تهميشها على الأقل، عبر إدخال تعديلات جوهرية على تفويضها، ومن الطبيعي ان تستخدم إدارة ترامب مسألة التقرير المذكور كي تظهر عدم صلاحية الوكالة للقيام بما فوضتها به الأمم المتحدة. ومن الممكن أن تطالب واشنطن الأمم المتحدة بتقييد صلاحيات إدارة الأونروا في تنفيذ البرامج المقرة للوكالة تحت حجة ضرورة الوصاية عليها من خارج الأمانة العامة للأمم المتحدة, وهناك الكثير من السيناريوهات المتداولة الشبيهة على طاولة فريق ترامب ومستشاريه بانتظار ردات الفعل عند صدور التقرير بشكل رسمي.
ومع ذلك ،يمكن القول إنه من الصعب جدا على إدارة ترامب أن تمضي بعيدا في هذا الاتجاه، لأن المجتمع الدولي يدرك مخاطر العبث بوجود الوكالة واستمرار تقديم خدماتها إلى اللاجئين الفلسطينيين، وهذه المخاطر هي المحرك الأساس وراء حملة جمع المساهمات المالية لموازنة الأونروا للتعويض عن النقص الحاصل بسبب القطع الأميركي. لكن الحد الذي يبدو أن الإدارة الأميركية تطمح إليه في مسألة تظهير تقرير الفساد في «الأونروا» يتركز في محاولة إيجاد إدارة جديدة للوكالة، تكون أقرب لسياسات واشنطن، مستخدمة وسائل الضغط التي تملكها، وضمن حسابات تأخذ بنظر الاعتبار أنه في ظل تمسك المجتمع الدولي بوجود الوكالة حرصا على عدم انفجار مشكلة اللاجئين الفلسطينيين في وجه الجميع، فإن تغيير قيادتها لن يؤدي على المدى القريب إلى تداعيات مؤثرة بحيث تتولى هذه القيادة بالتدريج تكييف الوكالة مع التقليصات الكبرى المتوقعة في موازنتها في حال انفلت الضغط الأميركي على غاربه ترهيبا للدول المانحة. وبالتالي، إذا لم يكن بمستطاع واشنطن اليوم شطب الأونروا أو تغيير وظيفتها مباشرة ، فإن الظروف المالية المستجدة بعد حين كفيلة بذلك عند إنهاء الكثير من الخدمات المالية بسبب شح الموارد المالية.
لقد دأب فريق ترامب على رصد ردات الفعل السياسية والشعبية الفلسطينية إثر اتخاذ الإجراءات المعادية للحقوق الفلسطينية وخاصة قضية حق العودة، وأدرك حساسية هذا الملف في ظل التحركات الشعبية الفلسطينية ضد كل ما ينتقص من قضية اللاجئين وحقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم التي طردوا منها منذ العام 1948.
والموقف الأميركي ـ حتى قبل مجيء إدارة ترامب ـ واضح من قضية اللاجئين الفلسطينيين، وسعت واشنطن عبر إطلاق مشاريع إقليمية إلى توطين اللاجئين الفلسطينيين خارج ديارهم وممتلكاتهم، وشنت حربا سياسية شعواء على حق عودة اللاجئين الفلسطينيين، واعترفت فقط بـ«حق العودة» إلى فلسطين لليهود فقط.
لكن الفرق الآن أن إدارة ترامب تشن حربا ميدانية مباشرة تتولى هي فيها التخطيط والتنفيذ بعدما اتحدت أهدافها مع أهداف التوسعية والعنصرية الإسرائيلية. وانعكس هذا مباشرة على قضيتي القدس واللاجئين الفلسطينيين. وكانت الأونروا في مقدمة الاستهداف من موقع إدراك إدارة ترامب لأهمية ما تقدمه إلى اللاجئين الفلسطينيين، ورأت أن الهجوم على قضية اللاجئين وإنهائها ينبغي أن يبدأ بحصار الوكالة وقطع التمويل عنها. وحيث لم يؤد ذلك إلى النتيجة التي تريدها واشنطن، فتحت النار عليها من بوابة ملف الفساد، إدراكا من الولايات المتحدة لحساسية هذا الموضوع عند عدد مهم من الدول المانحة، والتي يمكن أن تتردد كثيرا قبل أن تقدم مساهمتها في موازنة الوكالة ويمكن أن تجمد الأمر بكامله إلى ما بعد تحقيقات يمكن للأمم المتحدة عبر أمانتها العامة أن تطلب القيام بها.
من جانبنا ،ننظر بأهمية كبرى إلى معالجة أي مظهر من مظاهر الفساد في الأونروا من زاوية الحرص على النهوض بمهامها وتحسين خدماتها وتوظيف مواردها في تلبية احتياجات اللاجئين، بعيدا عن كل أشكال الهدر، وترشيد الانفاق الإداري وفقا لما يقتضيه تنفيذ البرامج الموضوعة. وفي السياق ذاته ،الاهتمام بتوفير الكادر الوظيفي المؤهل في القطاعات المختلفة من تعليم وصحة وإغاثة، بعيدا عن المحسوبيات في التعيين، وتقديم الخدمات للاجئين وفق آليات حيوية بعيدة عن البيروقراطية والتسويف في تلبية احتياجاتهم في ظل توفر الامكانات. وكثيرا ماشهدت المخيمات الفلسطينية اعتصامات احتجاجية قام بها اللاجئون الفلسطينيون اعتراضا على الكثير من المسلكيات الإدارية والمخالفات الوظيفية ضمن الأونروا ،لكن ذلك كله كان يجري تحت سقف التمسك بالوكالة كشاهد على مأساة اللاجئين الفلسطينيين، وكتعبير عن التزام المجتمع الدولي بقضيتهم ومعاناتهم التي تستمر بسب تقاعسه عن تنفيذ قرارات الشرعية الدولية التي سلمت بحقهم في العودة إلى ديارهم وممتلكاتهم وفي المقدمة القرار 194.
بقلم/ محمد السهلي