قال الطفلان أبو رومي والشيخ: انتهت مرحلة من حياة الحركة الوطنية، وبدأت مرحلة جديدة فهل تقرؤون؟
يخطئ خطأً شنيعاً، من يعتقد أن سلسلة العمليات التي شهدتها الضفة الفلسطينية وخطوط التماس مع قوات الاحتلال في قطاع غزة، مجرد عمليات فردية، وعفوية، وتمت بمعزل عن السياق السياسي العام للحالة الوطنية الفلسطينية، ولا يقرأ فيها، في الوقت نفسه، باعتبارها مؤشرات لوضع جديد، أخذ يتبلور، ويعبر عن نفسه، بنهوض شرائح اجتماعية لتحتل مكانتها في العملية الكفاحية، وفي الوقت نفسه تتراجع شرائح أخرى عن دورها، وانزياحها جانباً، تاركةً للآخرين ملء الفراغ الناشئ عن تخليها عن دورها ومستلزماته.
كل الذين قاموا بالعمليات، لم يتجاوزوا السابعة والعشرين من العمر، أي إنهم من مواليد ما بعد التوقيع على اتفاق أوسلو وملحقاته الأمنية والاقتصادية.
هم لم يواكبوا مرحلة المقاومة المسلحة وعملياتها البطولية، إن في الداخل المحتل، أو على حدود فلسطين.
هم لم يواكبوا، وقائع وبطولات الانتفاضة الوطنية الكبرى، المسماة الانتفاضة الأولى.
بل إن بعضهم، كالطفلين أبو رومي، والشيخ (أبناء القدس) لم يواكبا حتى الانتفاضة الثانية، التي طغى عليها العمل المسلح.
لكنهم واكبوا العمليات التفاوضية المذلة. وأعمال التنسيق الأمني، ومظاهر التبعية الاقتصادية لإسرائيل، والانقلابات السياسية والعسكرية، المدمرة والدموية في الصف الفلسطيني وفي مؤسساته، وبين أطرافه المتصارعة على السلطة.
وهم واكبوا، الأعمال العدوانية، في الحروب المدمرة على قطاع غزة، وفي اجتياح قوات الاحتلال للبلدات والقرى والمدن الفلسطينية، والاعتقالات الجماعية، وخطف الأطفال الفلسطينيين وإعدامهم حرقاً، ونسف المنازل، واقتحام المقدسات الدينية، والهبات الانتفاضية للأسرى في زنازين الاحتلال، وهبات القدس المتتالية في ظل سياسات دموية، عنصرية قمعية، لا تقيم للمبادئ الإنسانية أية اعتبارات.
* * *
الأهم من هذا ، أنهم واكبوا ميوعة السياسات الرسمية، وإصرارها على رفض صياغة واقع جديد للحالة الفلسطينية، بديل لما أوصلت إليه اتفاقيات أوسلو، والتنازلات المجانية، على حساب القضية والحقوق والكرامة الوطنية.
واكبوا في خطين متوازيين:
• الخط الأول، ما تفضل وسائل الإعلام الإسرائيلي تسميته «انتفاضة الأفراد»، التي انطلقت منذ العام 2015، وما زالت تتواصل حتى الآن، في صعود وهبوط، تأخذ أشكالاً مختلفة، من الدهس، إلى الطعن، إلى السلاح الناري، إلى خطف الجنود الإسرائيليين، إلى نصب الكمائن لغلاة المستوطنين. وفي السياق نفسه، واكبوا الانتفاضات المتنقلة في أرجاء الضفة الفلسطينية ومدينة القدس، دفاعاً عن الأرض ضد غول الاستيطان، وعن القدس ضد غول التهويد والأسرلة، والدفاع عن الكرامة الوطنية ضد عمليات الاذلال على الحواجز.
وراقبوا جيداً كيف تنجح الهبات الشعبية في إرغام الاحتلال على الرضوخ للموقف الوطني، على غرار هبات الأسرى ضد سياسات الإذلال، وعلى غرار هبات القدس، التي ارغمت اللجنة التنفيذية في لحظة ما، على إعلان وقف التنسيق الأمني مع الاحتلال في صيف العام 2017.
كما واكبوا في الشتات معاناة اللاجئين في لبنان في مواجهة سياسات التجويع والحصار والتهجير، وفي سوريا في مواجهة سياسات الزج بالمخيمات في لعبة تهديم البلاد.
دون أن يغيب عن نظرهم، ولو ليوم واحد، التضحيات البطولية لمسيرات العودة وكسر الحصار، التي انطلقت في 30/3/2018، وما زالت في أوج عنفوانها، قدمت آلاف الشهداء والجرحى والمعاقين، وما زال الصمود عنوانها.
• الخط الثاني واكبوا قرارات المؤسسة الوطنية، في إعادة رسم رؤية واستراتيجية سياسية جديدة وبديلة لأوسلو، منذ 5/3/2015. وكيف تطورت في مواجهة صفقة القرن (صفقة نتنياهو - ترامب) وكيف أعادت المجالس المركزية والوطنية صياغتها لتستجيب لضرورات المسيرة الكفاحية.
وكيف لعب الانقسام المدمر دوره في اضعاف روح التماسك في مواجهة «الصفقة»، وكيف أتاح الانقسام للأطراف الإسرائيلية والأميركية. التلاعب على التناقضات الداخلية (خاصة فتح وحماس) بما في ذلك ما سربته إسرائيل من مزاعم حول دور السلطة الفلسطينية من جهة، ولحماس من جهة ثانية في صفقة ترامب، في لعبة مكشوفة لإشعال نيران التناقضات الداخلية على حساب وحدة الموقف الوطني.
كما واكبوا كيف تسير خطة ترامب_ نتنياهو إلى الأمام، وكيف، بالمقابل، تعطل القيادة الرسمية، قرارات الانتقال من الرفض اللفظي والكلامي المجاني للصفقة، إلى الرفض العملي الميداني وكأنها مازالت تراهن على العودة إلى المفاوضات. ولعل احتفاء رئيس السلطة، بالوفد الإسرائيلي، على رأسه حفيدة رابين، وتأكيده استعداده للعودة فوراً إلى المفاوضات مع نتنياهو، كان مؤشراً شديد الوضوح، ورسالة لا تحتاج إلى من يفك شيفراتها.
* * *
مثل هذه التراكمات، هي التي دفعت البعض ليجلس على قارعة الطريق، بعد أن فقد اليقين بجدية القيادة السياسية الرسمية في إحداث النقلة المطلوبة نحو بناء المرحلة البديلة.
وهي التي دفعت كثيرين، ممن قدموا ما قدموه في الانتفاضة الأولى، وحتى في الانتفاضة الثانية للاعتقاد أنهم أوفوا بالعهد وقدموا ما عليهم تاركين للآخرين مواصلة الطريق.
وبالتالي افتقرت الحالة السياسية إلى فئات واسعة من الشرائح التي احتلت مكانتها وقدمت تضحيات كبرى في مواقعها النضالية المتقدمة. بل إن بعضها، كان فيما مضى في الصف الأول من الانتفاضة الكبرى، وهو الآن انتقل إلى الصف الآخر، مستفيداً من مغانم السلطة ونعيمها، معتقداً أنه يكافأ على نضالاته.
هؤلاء الذين انخرطوا، فرادى في «انتفاضة الأفراد»، ضد الاحتلال، لم يتعلموا ما نسميه قراءة «موازين القوى»، ولا «الظروف الموضوعية»، ولا «الظروف الذاتية»، ولا «التحولات الإقليمية» ولا «متغيرات السياسات الأميركية»، وباقي العناوين الكبرى التي تحتل مكانتها في قراءتنا للحالة السياسية الفلسطينية و ما يحيط بها من عناصر وعوامل.
هم يقرؤون الواقع الذي يحيط بهم. احتلال واستيطان واغتيالات واعتقالات وتدمير منازل. وتعبئة وطنية في البيت والمدرسة وفي الأندية وأطر العمل السياسي على مختلف اتجاهاتها.
عبروا عن هذه القراءة بطريقتهم، حتى أن بعض المعلقين أبدى دهشة كبرى أن يقوم طفلان لا يتجاوز عمر الواحد منهما 14 عاماً، يحاولان بسكين مطبخ عادي طعن جندي إسرائيلي. وأن يقوم أسير محرر، ذاق مرارة الأسر، وذاق في الوقت نفسه طعم التحرر من السجن، بدهس جندي إسرائيلي.
في الوقت نفسه يدرك الطفلان، كما يدرك منفذ عملية الدهس، أن يد جنود الاحتلال على الزناد، وأنهم غيروا ما يسمى بقواعد الاشتباك، وباتوا يعتمدون سياسة الإعدام ولو على الشبهة. وبالتالي باتت النتائج معروفة، والخاتمة أيضاً معروفة.
قد تنجح العملية في تحقيق هدفها، وفي الحالتين، سيسيل الدم الفلسطيني، لشهيد أو لجريح. ومع ذلك فإن مثل هذه العمليات مستمر، ولا تتوقف.
وهو ما يشغل بال سلطات الاحتلال، وخبراءهم الأمنيين، ورجال الصحافة، ومراكز البحث، وخبراء الطب النفسي عندهم. ومع ذلك لم يجدوا لكل هذا سببه الحقيقي. لأنهم يتعامون عن الحقيقة.
نحن في نهاية مرحلة من مراحل الحركة الوطنية ندفن فيها مرحلة أوسلو وتداعياتها والتزاماتها، واستحقاقاتها. وفي الوقت نفسه، نخطو، ولو بخطوات وئيدة، نحو المرحلة الجديدة، إعادة بناء الحركة الوطنية، وقد تخلصت من أوهام السلطة، لصالح العودة إلى مفاهيم وقيم ومبادئ حركة التحرر.
عندها، نكون قد قرأنا، نحن أيضاً، ما هي معاني «انتفاضة الأفراد» ورسائلها.
بقلم/ معتصم حمادة